لم يفوّت الاتحاد الدولي لكرة القدم أي فرصة سابقاً للتأكيد على أن كرة القدم هي وسيلة لمدّ الجسور وأداة لتحقيق السلام ولجمع الأضداد، لا لتفرقتها. كلام جميل، أُرفق دائماً بأمثلة كثيرة كتلك المباراة الشهيرة بين الولايات المتحدة وإيران في نهائيات كأس العالم 1998 التي أقيمت في فرنسا، أو حتى ذاك المثل الشهير عن وقف الجيش الألماني ونظيره الإنكليزي كل معاركهما خلال الحرب العالمية الأولى ليلتقيا على مباراة كروية ضمن «هدنة الميلاد» التاريخية...
لكن كان هناك أجمل من الاتحاد الدولي في كل مرّة نادى فيها بإبعاد السياسة وتأثيراتها عن كرة القدم، لا بل إنه لم يتردد يوماً في معاقبة وتجميد عمل أي اتحاد يحمل نفساً سياسياً أو يتعرض لضغوطٍ من سياسيين وغيرهم من حكام القرار.
لكن انطلاقاً مما حصل في نهاية الاسبوع عبر تلبية الاتحاد الدولي للمطلب الإماراتي بتبديل طاقم الحكام القطري المفترض أن يقود مباراة «الأبيض» مع تايلاند، يطل السؤال الكبير: هل يتعاطى «الفيفا» السياسة؟

فشل «الفيفا» في النأي بنفسه بحسب
ما أراد بدايةً



الواقع أنه منذ اللحظة الأولى للأزمة الخليجية ــ القطرية، حاول «الفيفا» النأي بنفسه عمّا يحصل، وذلك من خلال بيانه المقتضب والخالي من التفاصيل بشأن مستقبل مونديال قطر 2022. لكن الأكيد أن المنظمة الكروية الأهم أدركت أيضاً منذ اللحظة الأولى أنها ستواجه مصاعب في مكان ما لأن الصراع الجيوسياسي الحاصل لا بدّ أن يحدث لها إرباكاً عاجلاً أو آجلاً، حتى أطلّ المطلب الإماراتي الذي لم يكن أمراً عادياً، بل يعكس مدى الحساسية التي وصلت إليها الأمور بحيث لم يعد يتقبّل أي طرف وجود الآخر حتى في ملاعب الكرة.
وبمجرد أن اتخذ «الفيفا» قراراً في هذا الشأن، وهو يتناقض مع تعيينه الأول للحكام القطريين، يكون قد غطس في مستنقع الأزمة الخليجية التي لا شك في أنها ستنعكس سلباً على كل خططه في المنطقة، إن كان على صعيد منح بلدانها، التي تقاطع بعضها بعضاً، شرف استضافة بطولات قد تكون المشاركة فيها منقوصة، أو إن كان على صعيد تنظيم المونديال القطري الذي قُدّم بدايةً على أنه مونديال الخليج برمّته لا الدوحة فقط.
المهم أن «الفيفا» يتعاطى السياسة، أو بشكلٍ أوضح ينجرّ الى مستنقعاتها، إذ لا يمكنه الهروب من المشاكل الجيوسياسية، والدليل أنه لم يتمكن يوماً من إقناع بلدان لها تاريخ في النزاعات بالسير على خطى الألمان والإنكليز، وترك كل شيء جانباً عندما يرتبط الأمر بالفوتبول. وهذه المسألة تظهر جليّاً، رغم أن تلك البلدان ليست في حالة حرب، على غرار أرمينيا وأذربيجان، أو إسبانيا وجبل طارق، حيث يعمل «الفيفا» دائماً على تفريقها وتحييد وقوعها مع بعضها البعض في مجموعات التصفيات المونديالية، متأثراً بما يعرفه من مشاكل سياسية بينها، في وقتٍ يفترض فيه أن يعمل لتطبيق ما يقوله من رسائل إنشائية عنوانها: كرة القدم تجمع ولا تفرّق.
بطبيعة الحال، لا يمكن لصنّاع القرار في عالم كرة القدم عدم وضع أيديهم في أيدي السياسيين، فقد عكست الأزمة الشهيرة التي عرفها «الفيفا» هذه المسألة بشكلٍ أوضح، إذ لا يخفى أن أيادي أميركية وبريطانية كانت في قلب فتح الملفات السوداء وقطع الرؤوس، لسببٍ بسيط وهو خسارة الولايات المتحدة وبريطانيا السباق الى تنظيم مونديالي 2018 و2022، فكان الهدف قطر وروسيا بدايةً، ثم تحوّل الى السويسري جوزف بلاتر وأعوانه تالياً، ففضحوا ما عرفوه عنه وأخفوه منذ أعوامٍ طويلة.
طوال تلك الأزمة، كان السياسيون وأجهزتهم الأمنية (على رأسها مكتب التحقيق الفدرالي الأميركي «أ ف بي آي») يعملون مع «فريقهم الكروي» لإحداث الانقلاب الكبير وجلب أشخاصٍ راضين عنهم، فكانت القصة التي عرفها الجميع مكتوبة بأقلام سياسية ومختومة من الدول العظمى.