بغداد | ينقل سليم الجبوري بوجهٍ صريح حال «المكوّن السني» في العراق، الذي يعيش وضعاً من «التذبذب» منذ سقوط النظام السابق في نيسان 2003. الدكتور القانوني وابن ديالى يشغل اليوم منصب رئيس مجلس النواب العراقي، بعدما كان نائباً فيه لثلاث دورات متتالية (2005 حتى اليوم)، فيما يشغل بموقعه الحزبي منصب نائب الأمين العام لـ«الحزب الإسلامي العراقي».
يروي الجبوري، لـ«الأخبار»، قصّة «التذبذب» التي بدأت مع سقوط نظام الرئيس صدام حسين، ويختصرها في ثلاثة عوامل. آنذاك، غابت عن «المكوّن السُنّي» المرجعية التي يؤمن بها، أي الدولة، فساد اعتقادٌ أن «من سقط ليس نظام صدام، بل الدولة كلها».
دفع هذا الاعتقاد إلى تشظّي وجهات النظر داخل البيت الواحد، فاختلفت في توصيف ما حدث: هل هو احتلال أو تحرير؟ لكن «الأغلبية العظمى آمنت بفكرة الاحتلال»، الأمر الذي خلق جدلاً جديداً في وقت لاحق: «هل نشارك في العملية السياسية، أو لا؟»، وهو ما نتج عنه «غياب المشاركة والانخراط، لا في العملية السياسية، ولا في مؤسسات الدولة».
يشير الجبوري إلى أن السنّة لم يشتركوا «أصلاً في كتابة الدستور، لأنّ ممثليهم آمنوا أن ما يرتبه الاحتلال من عملية تغيير ليس له مشروعية»، مضيفاً: «حينما أرغم المكوّن (السنيّ) على انتداب 15 ممثلاً عنه في مجلس كتابة الدستور ــ وأنا كنت أحدهم ــ كنا نتمسّك بمبدأ مركزية الدولة». لم يكن هناك إيمان بالفيدرالية، لكن حين ظهر وجوب التعامل مع الواقع الذي يفرض بناء دولة بالتوافق مع شركاء في مكوّنات أخرى: الشيعة، والأكراد، وآخرين.
لم يكن «التذبذب» في ذلك الوقت حال السُّنة فقط، بل عانى المكوّن الشيعي الأزمة نفسها، في وقتٍ كان فيه الأكراد «قد رتّبوا صفّهم جيّداً بحكم تجربتهم السابقة». «أما الشيعة»، وفق الجبوري، فذهب بعضهم إلى «تشكيل أقاليم، وآخرون آمنوا بالمركزية»، لكن الحقيقة بانت في الدستور الذي يشي بقلقٍ في نفوس جميع المكونات بسبب «نصوصٍ بعضها غامض وغير واضح، كما أنه يسحب كل الصلاحيات ولا يمركزها بيد أحد خشية العودة إلى الديكتاتورية مرّة أخرى».
أما العامل الثاني، الذي ساهم في صبغ حال السنة بـ«التذبذب» و«التشتّت»، فهو غياب الأحزاب التي تنظم صفوفهم، إذ إن «البعث» سابقاً، أو «الحزب الإسلامي العراقي» (بعد 2003)، لم يحظيا بقدرة استيعاب كل الأطياف بوضوح. إضافة إلى ما سبق، ظهر عامل ثالث ساهم في تعزيز هذا الواقع، وهو «تداخل المشاريع الدولية في البلاد، لأن لها تأثيرات جانبية أحدثت نوعاً من الاضطراب».
إلى جانب العوامل الثلاثة، التي تأخذ طابعاً سياسياً إلى حد ما، ثمة مشكلة غياب المرجعية الدينية ــ السياسية، بوصفها «قطباً جاذباً ومؤثراً، وخيمةً جامعة بالعنوان الديني». فالمكوّن السُنّي، بتعبير الجبوري «متدين، لكن ليس بمفهوم الطاعة والتبعية، وعليه وُجدت المرجعيات الدينية، لكنها فقط ضمن إطار الفقه والمعاملات والعبادات، وليس ضمن إطار التوجيه السياسي». «وأطياف السنة»، يضيف، يختلفون عن غيرهم، لأنهم «لا يرغبون دائماً أن يُوجّهوا عبر المرجعيات الدينية إلا في المشكلات التي تصيبهم... رجال الدين لهم دورهم في التوعية والنشاط والترشيد بآراء غير ملزمة كلياً».

الإقصاء والتهميش

بعيداً عن حكاية «التذبذب»، أُضيفت مشكلة أخرى «على كاهل التمثيل السياسي السني»، وذلك بعد حصر «الصلاحيات التنفيذية بيد رئيس الوزراء، القائد العام للقوات المسلحة»، ما فُهم إلى جانب «بعض الممارسات، على أنه محاولات للتهميش والإقصاء».
ورغم مشاركة السنة في أبرز مؤسسات الدولة، يعتبر الجبوري، أنه «قد أُشرِك لكنه لم يُشارَك... (كان) له حضوره، وله عناوين شكلية في بعض الجوانب، فيما ظهر في جوانب أخرى أكثر فعالية وتأثيراً». كما لفت إلى أنه في «صناعة القرار النهائي، وفي إدارة دفّة الدولة، لم تعط بعض الممارسات التي صدرت، ذلك الأفق اللازم والضروري للمشاركة».
رئيس مجلس النواب يأسف على اتخاذ الحكومات السابقة بعض «الخطوات المستعجلة، التي لم يكن ينبغي أن توصل رسائل عدائية مع المجتمع، كحلّ الجيش، وحلّ وزارة الثقافة، واجتثاث البعث»، مشدّداً على أن «المشكلة تكمن في أن البعث كحزب لم يُحاكم... كان ينبغي أن يُحاكم اجتماعياً وسياسياً، وكان ينبغي أن يُحاسب أعضاؤه قضائياً... حوسب أعضاؤه سياسياً، وأقصوا من وظائفهم ودوائرهم دون أحكام قضائية لمجرد الانتماء كانتماء».
ويشرح الجبوري هذا الملف الحساس بالقول: «رغم أننا نعلم أن من انتمى إلى البعث لم يكن من السُنّة، وإنما من الشيعة أيضاً، فإن الرسالة فُهمت بأن هناك عملية لإبعاد الناس عن وظائفهم، وسلب قوت يومهم، ومنعهم من تبوّؤ مراكز قيادية في الدولة، كأنها عملية إبعاد وإقصاء لمكونهم».
أمام هذا المشهد، وبالتوازي مع محاولة بعض القوى الإشارة دوماً إلى وجود «بقايا البعث» داخل أطياف المكوّن السني، فإن للجبوري رأياً متناغماً يؤكّد فيه «أنه (البعث) كان موجوداً، وله آثاره في بعض الأطراف التي حملت السلاح، أو بوجوده ضمن مجاميع إرهابية، أو حتى في إشاعة بعض الأقاويل التي تحدث فوضى، أو في تنافس الأطراف السياسية السُنّية الموجودة... له تأثيره، ولا تزال له أدواته».

من يدعم سُنّة العراق؟

يصف الجبوري العراق بأنه بات «ساحة لتصفية الصراعات الإقليمية»، الأمر الذي يطرح تساؤلاً حول من يدعم المكوّنات عموماً، والمكوّن السُنّي خصوصاً. لكن الإشكالية كما يرى «ليست متعلقة بالمكون السُنّي فقط، إنما متعلقة بالعراقيين عموماً، الذين إذا تمكّنوا من الاجتماع على كلمة واحدة ورؤية موحدة ناضجة، فإنهم سيحمون أنفسهم ويبنون بلدهم، والآخر ــ أيّاً كان ــ سيكون راغباً في الوقوف إلى جانبهم». أما «حينما تفرّق العراقيون، ولاذ بعضهم بهذه الدولة أو تلك»، يقول، «وُجد الخرق الذي استغلته تلك الدول... هي لا تُعاب لأنها تبحث عن مصالحها، لكن نحن من نعاب، لأننا لم نبحث عن مصالحنا».

الجميع انتموا إلى «البعث»، لكن ما جرى فُهم كإبعاد وإقصاء لمكون واحد


ويعترف رئيس مجلس النواب بوجود «مشاريع متنوعة ومتقاطعة من دول عدة»، مشيراً إلى أن «بعض الأطراف استُغلت كأدواتٍ لتنفيذ مشاريع خارجية، كتأجيج الصراع الطائفي، إضافةً إلى وجود مضايقات شديدة على بعض الأطراف التي لم تحظ بالدعم بسبب مواقفها ».
هذا التجاذب «أربك المكوّن السُنّي»، وخصوصاً أن «الجانب الإيراني أعطى رسائل بأنه يرعى الفريق الشيعي على نحو أكثر تميّزاً، من كونه يتعامل مع دولةٍ فيها مكوناتٍ متنوعة ومتعددة... وقد دعوتهم إلى إعادة النظر بدقة في هذا الموضوع».
الجبوري، الذي يناور في الإجابة عن «هوية الداعم الحقيقي للمكوّن السُنّي»، يلمّح إلى دور دول الجوار في ذلك، لأن التوجّه الحالي لتلك الأطراف «هو عودة العراق إلى الساحة الإقليمية والعربية، وحضوره بشكلٍ قوي ومؤثّر، لكن ذلك لا يزال في طور المرحلة المقبلة، ولا ندري هل هي جادة أم لا».

عن العراق اليوم

على جانب آخر، نعرّج مع الجبوري على مستجدات الملف العراقي وتفاصيله اليومية. فيصف المؤسسة التي يرأسها بأنها الأكثر حيوية وإنتاجية بين مؤسسات الدولة، فيما يعتب على الحكومة ورئيسها حيدر العبادي، في إدارته بعض مفاصل الدولة، خصوصاً لحظة استباحة مؤسساتها عبر بعض الأطراف السياسية، لكنه يتمسّك بمبدأ الحفاظ على خصوصية العلاقة مع الحكومة وإبعاد الخلافات معها عن الإعلام، وذلك «للمضي قدماً في عملية مكافحة الإرهاب، وبناء الدولة العراقية».
وبينما تسعى بعض القوى السياسية إلى «إسقاط مفوضية الانتخابات» على أساس أنها «غير قانونية»، يؤكّد رئيس المجلس أنه من المفترض أن تبصر «المفوضية» الجديدة النور في موعدها المحدّد، إضافة إلى إنتاجها قانوناً انتخابياً جديداً سيحظى بمقبولية الجميع.
وإلى أن يُقر القانون، فإن التحالفات الانتخابية أو السياسية لم تحسم بعد، فهي مرهونة بإنتاجه وإقراره، مرجّحاً أن يكون «سانت ليغو المعدّل، 1.7» هو القانون المعتمد في الانتخابات النيابية المقبلة في نيسان 2018.
لكن الجبوري يؤكد أنه بدأ التواصل مع مختلف الأطياف والأفرقاء السياسيين، بدءاً من رئيس الوزراء إلى قيادات الصف الأوّل كزعيم «التيّار الصدري» مقتدى الصدر، وغيرهما، في وقت أنّ «التنسيق العالي» الذي لم يرقَ إلى مستوى تحالف، قائم مع نائب رئيس الجمهورية نوري المالكي.
أمام مشهد الانتخابات، يبدو مشهد ما بعد الموصل مبشّراً عند الجبوري الذي يرفض التهويل بنشأة تنظيم أكثر تشدّداً من «داعش» كما تُروِّج بعض الأطراف السياسية، رافضاً في الوقت عينه دعوات المكوّن الكردي إلى الانفصال و«الاستقلال»، وخصوصاً أن الظرف الحالي غير مؤاتٍ لمثل هذه الخطوة التي لن يوافق عليها أيٌّ من الأطراف الإقليمية المعنية بذلك، كما يرى.




سنحاسب من خرق سيادتنا

يدرك سليم الجبوري جيّداً خلفيات الصراع القائم في المنطقة وأبعاده وارتداداته على العراق. الكباش الإقليمي يتجلّى على الساحة العراقية، لكن لـ«دولة الرئيس» رؤيةٌ في العلاقات بين الدول تقضي بأن يتحوّل البلد من ساحة كباش وتصفية حسابات إلى ساحة تواصل وتلاقٍ وبناء صداقة.
ويقول إن ما يعنيه بصفته مسؤولاً عراقياً أن يبني صداقة مع تلك الدول، و«علاقة قوية ومتينة لا أستثني بها أحداً، وتقوم على أساس المصالح المشتركة... وأن تُحترم سيادتي وأحترم سيادتها»، رافضاً أن تعمل بغداد بما يخلّ أمن جيرانها، أو أن يعمل جيرانها بما يخل أمنها.
ويؤكّد أيضاً أنه «لا يرغب في أن يكون العراق ساحةً لتحقق أي دولة مشاريعها عبر الدولة العراقية نفسها، خصوصاً أن بعض الدول خرقت سيادتنا وتمادت بوضوح»، مبيناً أنه في «لحظة المواجهة مع الإرهاب لم تعط الفرصة كي نصفي حساباتنا جيّداً معها، وأن نتحاسب على كل الجزئيات والتفاصيل».
ويحسم الجبوري موقفه ممن خرق سيادة العراق واستباحها بالقول: «نحن في ظرفٍ صعبٍ، ولا ننسى من وقف معنا، ومن استغل ظرفنا لإضعافنا... الآن لا أستطيع أن أتحدث عمن وقف وعمن استغل، لكن سيأتي يوم ونتحدث ونتصافى على كل المستويات».