في كثير من الحفلات الفنية المصورة، غالباً ما تركّز الكاميرا على الأيدي التي تعزف على الطبلة أو الدف أو الطبل. وغالباً ما تلفت النظر «ماركة» مدموغة على هذه الآلات: «كيفورك». ليست هذه علامة تجارية لمصنع متخصص بالآلات الموسيقية، ولا شهادة تصنيف للآلات الإيقاعية على غرار شهادات «إيزو». «كيفورك» الإيقاعات وملكها، هو ذاك الأرمني الرابض في منطقة برج حمود.
هناك، يعكف منذ ثلاثين عاماً على صناعة الآلات الإيقاعية حتى باتت منتجاته ماركة مسجلة يطلبها أشهر الإيقاعيين حول العالم. في واحد من الأزقّة الضيقة في هذه المنطقة، انزوى كيفورك. ترك مقعده في فرق العزف خلف المغنين وتبنى مهمة أصعب: أن يكون «الضابط المجهول» للإيقاع!
هو وزبائنه، أو «الذوّاقة» كما يسمّيهم، يصنّفون منتجاته بالتحف. أما محترفه فأشبه ما يكون بورشة سنكري ودهّان وبلاط ونجار حداد... معاً! تزدحم «العدّة» في الزوايا وعلى الحيطان وفوق الرفوف: مفكات ومقصات وقطع حديد ولاصقات... ليس صعباً على هذا الحرفي الأرمني المولود في بيروت أن يتقن العمل في الورشة. منذ صغره، عمل في مصنع لـ«الباتيكس» (غراء لاصق) يملكه والده. مع بداية الحرب، فضل الوالد إقفال المصنع لأن تعرضه لشرارة كان كافياً لاشعال المنطقة. تماشياً مع النمط المهني السائد في محيطه، افتتح كيفورك لاحقاً محلاً لتصنيع الساعات. اجتاحت ساعات الـ«سايكو» الأسواق، فيما هو يتقن التعاطي مع الـ «رولكس». باتت الهوة بينه وبين الساعات تكبر يوماً بعد يوم، إلى أن خلع الوقت من يده. أقفل المحل وافتتح محلاً آخر لبيع الأدوات الموسيقية. بالتزامن، امتهن العزف على الآلات الإيقاعية في الفرق. حينها، كان يصلح آلاته وآلات زملائه استناداً إلى خبرته السابقة. تدريجاً، صار يتسلل إلى كواليس الآلة، منبهراً بـ «قدرتها على صنع أفراحنا وتسليتنا وتحريك أجسادنا». أقفل محل الأدوات الموسيقية لأن «العامة لا تشتري». في منزله، افتتح ورشته لصنع الإيقاع. منزلُهُ مستودع لكلّ ما قد يخطُر في البال. احترافيته غدت هوساً بالتفاصيل و«الماركات» و«العدّة» الألمانيّة.
نادته خبايا الآلات ليكتشف بنفسِهِ تفاصيلها ويبدأ باحتراف صناعتها. منذ ثلاثين سنة، تفرغ لها. لا يخرج من منزِله إلا إلى سوق الأحد، لشراء عدة الشغل. لا يتحرك أبعد من ذلك. «ممكن في حياتي المقبلة أروح وأجيء»!
كيفورك «يُصدّف» الآلةَ. يصقلها بالخشب والجلود والدهان. يدقق في نوعيات البضاعة التي يستخدمها. يستخدم جلوداً طبيعية، ويُدوزن «صنوجه». ارتبط اسمه بكبار الإيقاعيين والراقصات: العازف الراحل ستراك، وحسن أنوَر عازف الإيقاع الّذي رافق كباراً منهم عبد الحليم حافظ، وميشيل بقلوق الّذي عزفَ خلف فيروز. عصر الغناء والموسيقى الذهبي ولّى، لكن إيقاعاته تقاوم الزمن. الإيقاعيون المخضرمون والجدد حذوا حذو أسلافهم باختيار تحف كيفورك، أبرزهم روني براك. يرفض كيفورك أن يصنّع إيقاعات للبيع في السوق. «على التوصاية» يعمل... وليس لأيٍّ كان! كما حمّل اسمه لابنتيه، يحمّل اسمه لآلاته التي تعني له ويعرفها مهما غابت عنه كما يعرف ابنتيه.
«آخرتك على طبلة». مثل شعبي يُعاير به الفاشل ويُقلل به من أهمية الطبلة. أما كيفورك، فقد كانت بداية سعادته معها. سعادة ثمينة جداً رغم أنه يحدد أسعاراً عادية لتحفه التي تعلو قيمتها باسم كيفورك، كما بكفوف من يعزفون عليها.