«كل شيء يتكرر، في دائرة. التاريخ سيد لأنه يعلمنا أنه غير موجود. فقط التباديل هي المهمة»أُمبِرتو إكو، نُوّاس فوكو

اجتاح الإعلام العالمي، على إثر انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، التعبير عن الترّقب أو التخوّف أو الاستبشار - كل بحسب موقعه في الصراع العالمي - ببدء نهاية الإمبراطوريّة الأميركيّة.

ولكن نهاية إمبراطوريّة ليست بالمسار الذي قد ينتج عن عامل واحد أو حتى تراكم مجموعة عوامل في مجال واحد فقط. فالتاريخ يعلّمنا أنّ انهيار أيّ إمبراطوريّة يحتاج إلى تراكم مجموعة من العوامل نتيجة مجموعة من السياسات الخاطئة في شتّى المجالات.
وبما أنّ مفهوم الإمبراطوريّة، في العقل الغربي، يرتبط ارتباطاً عضوياً بالإمبراطوريّة الرومانيّة وتاريخها، من المفيد اليوم، وفي ظلّ ما نعيشه في هذه المنطقة من شهيّة أميركيّة مفتوحة على إطباق السيطرة على بلادنا، أن نحاول أن نحلّل مسار سقوط الإمبراطوريّة الرومانيّة وما قد يُلحظ من أوجه الشبه في المسارات مع إمبراطوريّة عصرنا.

الاقتصاد في القلب

يُجمع مؤرّخو الإمبراطوريّة الرومانيّة على حقيقة واحدة، وهي أنّ انهيارها كان تدريجيّاً. وبينما يبدأ بعضهم بتأريخ عملية الانهيار مع موت ماركوس أوريليوس (180م.)، آخر «الأباطرة الجيدين»، يعيد آخرون بداية الانهيار إلى صلب زمن «السلام الروماني». ومن هؤلاء بول بيتي.
يعيد «بيتي»، في كتابه «باكس رومانا»، الانهيار إلى عوامل خارجيّة عسكريّة وديموغرافيّة تراكمت على مدى قرون. ولكنّه في المقابل يركّز على الضعف الاقتصاديّ الذي أصاب الإمبراطوريّة وتطوّر تدريجيّاً على إثر توقّف التوسع الجغرافيّ بعد نهاية عهد الإمبراطور تراجان وبداية عهد هادريان (117م.). ويؤطّر هذا الانهيار ضمن العوامل التي خدمت الضغط الذي شكّلته العوامل الخارجيّة.
يصنّف «بيتي» إيطاليا من أقصى جنوب صقليا إلى حدود جبال الألب شمالاً على أنّها مركز الإمبراطوريّة الرومانيّة الحيويّ، ونقطة ارتكاز الحياتين السياسيّة والثقافيّة في الإمبراطوريّة. فقد استطاع الرومان توحيد شبه الجزيرة وتشكيل «العرق السيّد» المتحكم بأمور الإمبراطوريّة من سكان إيطاليا الحاصلين على صفة «مواطن» رومانيّ. واستغلال «أغسطس»، أوّل إمبراطور رومانيّ، مقدّرات وموارد باقي الأقاليم لإعادة إحياء المناطق الإيطاليّة المنكوبة، على إثر سلسلة الحروب الأهلية الممتدّة من عام 49 ق.م. إلى عام 31 ق.م.، ساهم في تثبيت أواصر نمط العلاقة بين إيطاليا وباقي الأقاليم، على الأقل حتّى نهاية القرن الأوّل من فترة «السلام الرومانيّ».
كذلك ركّز «بيتي» على تشريح هذا الضعف الذي أدّى إلى خفض قيمة العملة الرومانيّة تدريجيّاً إلى حدّ الانهيار في القرن الثالث الميلاديّ. وشرح أنّه مع وصول الجمهوريّة، ومن ثمّ الإمبراطوريّة، إلى أقصى مجال توسّعها اعتمدت شبه الجزيرة الإيطاليّة على استيراد الموارد الأوّليّة من المستعمرات وإعادة تصديرها منتجات مصنّعة إلى تلك المستعمرات عبر التّجار الإيطاليين.

تشبّعت وسائل الإعلام بالنقاشات في وضع الاقتصاد الأميركي ومساره


وظهرت بوادر المشاكل الاقتصاديّة خلال فترة الحكم بين «نيرون» و«تراجان» (54م.-117م.)، بحسب «بيتي» مجدداً. فقد عانت إيطاليا في هذه الفترة من هزّات اقتصاديّة شتّى تمثّلت على شكل أزمات متنوّعة، منها انهيار أسعار الأراضي الزراعيّة وأزمات إنتاج الكرمة وإيجاد يد عاملة تشغل المزارع والكروم الإيطاليّة. وامتدّت الأزمات لتشمل الصناعة حيث اجتاحت مصنوعات الخزف والفخّار والزجاجيّات الغربيّة (بالغالب الجرمانيّة من غرب الراين وشمال فرنسا وإسبانيا) الأسواق الإيطاليّة، ممّا أدّى إلى انهيار هذه القطاعات في شبه الجزيرة. ومع وصول هادريان إلى الحكم (117م.) كانت إيطاليا قد خسرت موقعها الرياديّ والمركزيّ في اقتصاد الإمبراطوريّة.
يعيد «بيتي» هذا التدهور في أوضاع إيطاليا إلى التدفّق التجاريّ من الأقاليم، بالأخص إسبانيا والغال وأقاليم آسيا ومن بعدها إفريقيا ومثلّث الراين، فهذه الأقاليم توقّفت عن استيراد المنتجات الإيطاليّة وبدأت بتصدير معاكس إلى شبه الجزيرة. فتضرّرت قطاعات مثل صناعة النبيذ وزراعة الكرمة وصناعة زيت الزيتون وزراعة الزيتون وصناعة الفخّارايات والخزفيّات والزجاجيّات. وكلّ هذه سلع سهلة النقل وعالية القيمة. وفي المقابل حافظت زراعة الحنطة على مستواها وازدهرت صناعتا الطوب والقرميد، وهما اللتان كانتا مرتبطتين بنمو العمران في المراكز المدينيّة الرئيسيّة في شبه الجزيرة.
ويضيف «بيتي» أنّ أحد أسباب الأزمات الزراعيّة هي هجرة الملاّك الكبار وبيعهم لأراضيهم في إيطاليا واستقرارهم في البلاد المستعمرة حديثاً، مثل الغال وأفريقيا، حيث نقلوا مزارعهم وإنتاجهم إلى هناك. وكذلك ساهم تعبيد شبكة طرقات ما بين الأقاليم وروما في فتح الأفق أمام تدفّق السلع الزراعيّة والصناعيّة من الأقاليم إلى شبه الجزيرة الإيطاليّة، باستثناء السلع قليلة الربحيّة التي يصعب نقلها (الحنطة والطوب).
ويخلص هذا التحليل إلى أنّ الإمبراطورية كانت كالكائن الحيّ دائم التغيّر، وقلبها، إيطاليا الإقليم الأكثر تطوراً، يسبق باقي الأقاليم في مسار التطوّر. ويشير «بيتي» إلى أنّ هذا التدهور الاقتصادي سرعان ما تمدّد إلى باقي الأقاليم وبدأ في الظهور جليّاً فيها مع انتهاء عهد «ماركوس أوريليوس».
ويعدّد النظريّات التي تشرح الأسباب التي أدّت إلى تدهور الوضع الاقتصاديّ في إيطاليا. فيستفيض في دحض نظريّات «المؤرّخين الشرقيين» (السوفيات) - في ما يبدو أنّه من أجواء الحرب الباردة (الكتاب من إصدار عام 1976)- والتي تتمحور حول تزامن إنهاء العمل بنظام العبوديّة في المجتمع الروماني والتراجع الاقتصاديّ في إيطاليا. وفي المقابل يرفض النظريّات الغربيّة التي تتحدّث عن اضمحلال القيم الرومانيّة كسبب أساسيّ في الانهيار الاقتصاديّ. بينما يثني على النظريّة التي تحدّد الخلل في إهمال الطبقة السياسيّة للأرياف والفقراء في مقابل التركيز على العمران المدينيّ وبناه التحتيّة (ذات التكلفة الباهظة في البناء والصيانة) وخدمة الأغنياء، ممّا أدّى إلى تدهور الاقتصاد الرومانيّ.
لكن «بيتي» لا يتحدّث كثيراً عن تأثير هذا التدهور الاقتصادي على وضع الجيش الرومانيّ في زمن «السلام». فبينما يذكر بشكل عابر ثبات عدد الفيالق بين 25 و28 فيلقاً على مدى كامل فترة «السلام الروماني»، لا يقارن هذا العدد بتضخّم عدد سكان الإمبراطوريّة وأعدائها وتناسبه مع حاجاتها العسكريّة. علماً أنّ العوامل الخارجيّة العسكريّة، التي تحدّث عنها، ترتبط ارتباطاً مباشراً بقدرات الجيش الرومانيّ القتاليّة.

الفيلق والميليشيا وخطوط الدفاع

وقبل الغوص في منحى التغييرات التي أصابت الجيش الرومانيّ، يجب شرح أهميّة الفيلق بالنسبة إلى تركيب ذلك الجيش. فالفيلق في الجيش الرومانيّ كان يتألف من «المواطنين الرومان»، المدرّبين تدريباً عسكريّاً نخبويّاً. وفي كتابه «الجيش الروماني في الحرب: 100 ق.م. -200م»، يصف أدريان كيث غولدزوورذي، الفيلق الرومانيّ بالآلة العسكريّة المكوّنة من جنوده فائقي التنظيم الذين لا يحيدون قيد أنملة عن تشكيلاتهم العسكرية المثاليّة. وفعلاً عند الحديث عن الجيش الرومانيّ، في زمنيْ الجمهوريّة والإمبراطوريّة المبكّرة، أوّل ما يتبادر إلى الأذهان هو الفيلق. وكان يتراوح عدد الجنود في الفيلق الواحد بين 3500 و5000 جندي مقسّمين على أفواج يصل عددها إلى عشرة. وبهذا يكون الفيلق هو العمود الفقري للجيش والأساس القتالي في أيّ معركة.
ولكن، ككلّ الجيوش التاريخيّة، احتاج الجيش الرومانيّ إلى فرق الخيّالة والرّماة، وهي اختصاصات لم يُجدها الرومان، فاستعانوا بأبناء المناطق التي كانت تحتلّها روما (رعايا الإمبراطورية من غير المواطنين) ليشكّلوا هذه الفرق (بتسليح وتدريع خفيف) وتكون ملحقة بالفيلق، وأطلقوا عليها تسمية «القوات الرديفة».
وشكّل هذا الفارق في صفة المواطنة والتدريب فارقاً في الكلفة بين الفيالق والقوّات الرديفة. فيشير تشستر ستار، في كتابه «البحريّة الإمبراطوريّة الرومانيّة: 31 ق.م.- 324 م.»، إلى أنّ مرتّب جندي القوّات الرديفة كان يبلغ ثلث مرتّب جندي الفيلق. ويقول جورج رونالد واتسون، في كتابه «الجنديّ الرومانيّ»، أنّ فترة الحروب الأهليّة الرومانيّة في نهاية عهد الجمهوريّة كانت مرحلة الزيادة الكبيرة في عدد القوات الرديفة، بسبب حاجة الأطراف المتصارعة إلى عديد كبير. ومع نهاية آخر حروب الجمهوريّة الأهليّة، والتي انتهت بإنشاء الإمبراطوريّة، ساوى «أغسطس» بين عديد القوّات الرديفة وعديد الفيالق. ومع التراجع التدريجي للوضع الاقتصاديّ في الإمبراطوريّة، تطوّرت أهمّية القوّات الرديفة من تأمين أدوار الفرق خفيفة التدريع من مشاة وخيّالة ورماة إلى أدوار مكمّلة لعمل الفيلق، وبدأت الفوارق بين دوريهما تضيق، بالأخص من ناحية التنظيم والتسليح في عهدي «تراجان» و«هادريان». وشهدت فترة حكم هادريان، بالأخص، بداية تجنيد سكان المستعمرات المحلّيين مع خاصّية السماح لهم بالاحتفاظ بتشكيلات القتال والأسلحة الخاصة بهم وبطريقة قتالهم، دون الالتزام بالتشكيلات الرومانيّة أو الأسلحة المناسبة لها.
ويضيف إي تي سالمون، في كتابه «تاريخ العالم الروماني: 30 ق.م.-128 م.»، أنّ هادريان شجّع على تجنيد غير الإيطاليين في الفيالق بكثافة، فانتفت بشكل سريع الصفة الإيطاليّة عنها. يقدّر أنطونيو سانتوسوسو في كتابه «اقتحام السماوات» أن عدد الإيطاليين في الفيالق بلغ 10% فقط في عهد «هادريان». لا بل يقسو في توصيفه لعملية التجنيد في القوات الرديفة، حيث يوصّف ما فعله هادريان بتجنيد المليشيات المحلّية. ويخلص إلى أنّ فقدان طغيان العنصر الإيطاليّ على الفيالق وتحوّل القوّات الرديفة إلى قوّات ذات طابع مليشياويّ محليّ، دفعا باتّجاه «بربرة» الجيش الرومانيّ وفقدانه تقاليده العسكريّة الرومانيّة. وبالفعل يقدّم بي. هولدر، في كتابه «الدبلوماسيون العسكريون الرومان»، تعداداً متحفّظاً لأعداد القوّات الرديفة، في فترة حكم «هادريان»، مظهراً أنّ عديدها فاق عديد الفيالق بواقع مرة ونصف مرة. وأصبحت هذه القوّات تتمركز بنقاط خاصّة بها ومستقلّة عن وجود فيلق، لا بل في الكثير من الأحيان أُنيطت بها حماية نقاط حدوديّة.
و«بربرة الجيش الرومانيّ» هو العنوان الذي يستعمله كلّ مؤرّخي الإمبراطوريّة لتوصيف حالة الجيش الرومانيّ في القرنين الثاني والثالث ميلاديّ، حيث أصبح ذلك الجيش، بما فيه الفيالق، يفتقد للانضباط والتنظيم العاليين اللذين طبعا عمله وشكّلا أساس نجاحه. ويحاجج سانتوسوسو بأنّ تحوّل عناصر وهيكليّة القيادة في الجيش، بالإضافة إلى الرتب الدنيا، إلى غير إيطاليين وغيرها من المظاهر غير الرومانيّة مثل السماح للجنود بالمبيت مع زوجاتهم خارج نقاط خدمتهم، أدّت إلى تدهور الانضباط والحافزيّة القتاليين في الجيش. ومع حلول القرن الرابع أصبحت كل حدود الإمبراطوريّة عرضة للاختراق، حيث لاحظ الأعداء سهولة اختراق الخطوط الدفاعيّة للإمبراطوريّة كما يشرح إدوارد لوتفاك في كتابه «الاستراتيجيّة الكبرى للإمبراطوريّة الرومانيّة».

الولايات المتحدة: هل من أوجه شبه؟

في محاولة مقارنة الوضع الحاليّ للولايات المتحدة بمسار الانهيار الرومانيّ، لا بدّ أن يطغى الحديث عن الوضع الاقتصاديّ للأولى. فقد تشبّعت وسائل الإعلام والدوريات البحثيّة بالنقاشات، السطحية منها والمتعمّقة، في وضع الاقتصاد الأميركي ومساره المستقبليّ. والواضح هو اتفاق معظم من قاربوا هذا الموضوع على أنّ شكل الاقتصاد الأميركي قد اختلف عن ذلك الذي ترافق مع صعود الإمبراطوريّة الأميركية إبّان نهاية الحرب العالميّة الثانيّة. فاقتصاد الإنتاج وتصدير السلع أصبح من الماضي، وما حلّ مكانه هو اقتصاد يتمحور حول الخدمات والريادة التكنولوجيّة. ويختلف الخبراء والباحثون في تصوّر مستقبل اقتصاد الولايات المتحدة في ظلّ عملية التغيير هذه. ومن الآراء التي تحاول استيعاب عمليّة التغيير بشكل شامل رأي غريتا كريبنر، عالمة الاقتصاد والتاريخ الاجتماعيين، التي تحاول أن تقدّم صورة تدمج السياسات الاقتصاديّة وتأثيرها في شكل الاقتصاد والمجتمع الأميركيين.

التاريخ يعلّمنا أنّ انهيار أيّ إمبراطوريّة يحتاج إلى تراكم مجموعة من العوامل
تصف كريبنر، في مقالتها البحثيّة «تحويل الاقتصاد الأميركيّ إلى اقتصاد ماليّ» المنشورة عام 2005، ما يجري في الولايات المتحدّة بعملية تحويل الاقتصاد من منتج، إلى اقتصاد مالي (financialization) منذ ستينيّات القرن الماضي -على عكس القول السائد أنّ بداية التغيير البنيويّ في الاقتصاد بدأت مع ريغان. هذه العمليّة لم تلغ الإنتاج بالكامل، ولكن حوّلته إلى ركيزة قليلة الأهمّية في بنية الاقتصاد الأميركيّ. فلم تقتصر النتائج على الشركات والمؤسّسات الماليّة، بل تعدّتها إلى الشركات غير المالية التي تشجّعت على تقليص إنتاجها في الولايات المتحدة، واستبداله باستثمارات خارجيّة وداخليّة ذات طبيعة غير إنتاجيّة. وتعرب كريبنر عن اعتقادها بأنّ هذه العمليّة مسّت بالعقد الاجتماعي بين رأس المال واليد العاملة؛ هذا العقد الذي قدّم دعماً لشكل دولة الرعاية في الولايات المتحدة بعد الحرب. ويبدو هذا الكلام اليوم أكثر منطقيّة، بالأخصّ بعدما رافق فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسيّة من تحليلات صبّت في اتّجاه البحث عن كيفيّة تطوّر علاقة الطبقة العاملة بالنظام.
ولكن لتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد ماليّ تبعات أخرى، وتُعنى بالوضع الماليّ بشكل أكثر مباشرة. فالميزان التجاريّ في الولايات المتّحدة، بحسب مكتب الإحصاء الأميركيّ، في عجز منذ بداية الثمانينيّات، ليتفاقم إلى 762 مليار دولار عام 2006 ويستقرّ على 502 مليار دولار عام 2016. وهذا العجز سيكبر إذا ما تنبّهنا إلى أنّ القطاع الخدميّ (ماليّ واستشاريّ وغيرهما) يضيف وفراً بقيمة 248 مليار دولار، وأنّ الميزان في عجز رهيب فيما يخصّ السلع الاستهلاكيّة من أصغرها (الإلكترونيّات والمنتجات الاستهلاكيّة المنزليّة) إلى تلك الثمينة والكبيرة (السيارات مثالاً). والعجز في الميزان التجاريّ لفترة زمنيّة طويلة، كما هي الحال في الولايات المتحدة، يمثّل خطراً على العملة ويرفع حاجة الدولة إلى الاستدانة. ومراجعة سريعة لتطور الدين الأميركي في العقود الأخيرة سيظهر لنا أنّ نسبة الدين العام لإجماليّ الناتج المحليّ في ازدياد منذ بدايات الثمانينيّات إلى اليوم، حيث ارتفعت من أقل من 35% إلى 104% عام 2016.
هنا لا بدّ من رسم خطوط التشابه بين ما مرّ به جيش الإمبراطوريّة الرومانيّة العظيم وبين مسار التحوّلات في الجيش الأميركيّ. فلم يعد خافياً على المتابع أنّ هذا الجيش ينحو أكثر فأكثر إلى الاعتماد على «الشركات الأمنيّة الخاصة» أو المرتزقة، في خطوة تشبه ما قفز إليه «هادريان» لتجنيد الميليشيات مع بداية مرحلة «بربرة الجيش».
يقول بيتر سينغر، في مقاله البحثي «تلزيم الحرب» المنشور عام 2005، إنّ وزارة الدفاع الأميركيّة أبرمت في الفترة الممتدة بين 1995 و2005 ثلاثة آلاف عقد مع شركات خاصّة. وشملت مهمّات المتعاقدين الدعم اللوجستيّ والاستخباراتيّ، وتطوّرت مع احتلال العراق لتشمل مهمات قتاليّة في مجالات صيانة وتذخير قاذفات الـ«بي 2» ومروحيّات «الأباتشي»، إلى مهمّات أكثر حساسيّة مثل صيانة وتشغيل أنظمة الدفاع البحريّة «أجيس» والجويّة «باتريوت».
وفي بحث له بعنوان «المهنيّة العسكريّة والمقاولون العسكريّون الخصوصيّون»، يشرح الجنرال سكوت إفلاندت أسباب الاستعانة بالمرتزقة في مهمّات القوّات القتاليّة الأميركيّة بشكل مكثّف بعد الحرب الباردة. فيقول إنّ وزارة الدفاع اضطرت لتقليص عديد القوات القتالية من 850000 إلى 490000 بسبب التضييق الماليّ الذي اضطر القيّمين على الاختيار بين جيش دائم الجاهزيّة وجيش متفوّق تكنولوجيّاً. وبما أنّ الخيار كان التفوّق التكنولوجيّ، وجدت وزارة الدفاع نفسها أمام قوّات مسلّحة مقلّصة العدد بمهمّات أوسع من تلك التي اضطلعت بها في الحرب الباردة، مما استلزم زيادة عدد المرتزقة.
وصلت الزيادة في أعداد المرتزقة إلى أرقام ضخمة، حيث قدّر توماس غيبسون- نِف، في تحقيق في «واشنطن بوست»، أن عدد المرتزقة، المتعاقدين مع وزارة الدفاع الأميركيّة في أفغانستان، ثلاثة أضعاف عدد القوّات العسكريّة. أمّا في «الحرب على الإرهاب»، فيقدّر شون مكفِيْت في «ذي أتلانتيك» أنّ عدد المتعاقدين مع وزارة الدفاع يساوي عدد القوّات المسلّحة الأميركيّة المشاركة في سوريا والعراق.
ويرى إفلاندت أنّ وجود هذا العدد الكبير من المرتزقة خلق مشاكل في تحديد حدود السلطة على الأرض، حيث بدأوا ينافسون القوّات العسكريّة الأميركيّة على وظيفتها الأساسيّة، أي السلطة لاستخدام القوّة المميتة كوكيل للدولة. ويعبّر إفلاندت عن خوفه من فقدان هذه السلطة، ومن تأثّر قادة القوّات العسكريّة المستقبليين بطريقة ممارسة المرتزقة لسلطتهم، أي إنّه يخاف من فقدان العقل الاحترافي الموجود حاليّاً.

الاستكشاف بالدّم

وفيما لا تبدو المؤشّرات الاقتصاديّة السلبيّة كخطر استراتيجيّ داهم على الإمبراطوريّة، وبالأخصّ في ظلّ قدرتها على إظهار صورة وضع اقتصادي متماسك على امتداد النظام الاقتصاديّ الذي أرسته، لا يمكن إغفال التشابه الكبير مع تطوّر مسار الاقتصاد في الإمبراطوريّة الرومانيّة في فترة «السلام الرومانيّ». فالتدهور الاقتصادي في المركز سرعان ما امتدّ إلى الأطراف، وهو ما لا يمكن استبعاده في حاضرنا، لاسيّما أنّنا شهدنا سيناريو مصغّراً عام 2008 عن كيفيّة انتقال أزمة اقتصادية في أرجاء اقتصاد الإمبراطورية.
وفي الوقت عينه لا يمكننا أيضاً تجاهل تأثير الوضع الاقتصاديّ على القدرة على الإنفاق العسكريّ والبنية العسكريّة للقوّات المسلّحة. فبالرغم من التفوّق الجليّ للجيش الأميركيّ، لا يمكننا نبذ التشابه الكبير بين مسار التحوّلات التي عاشها الجيش الرومانيّ والتحوّلات التي يمرّ بها الجيش الأميركيّ.
ختاماً، لا يمكن الجزم، من خلال عوامل التشابه هذه فقط، بأن الإمبراطوريّة الأميركيّة دخلت مسار الأفول؛ أو التنبؤ بالوقت الذي يستلزمه أفولها. ولكن الشعوب التي تقاوم هذه الإمبراطوريّة لا تمتلك رفاهيّة إغفال سنن التاريخ من حساباتها. فقد يبدو نزف دماء أبنائها غزيراً، لكن هذه التضحيات تظهر مكامن الخلل في دفاعات الإمبراطوريّة لمستقبل أقلّ ظلمة.
* باحث لبناني