عبارة ردّدها الوزير جبران باسيل، رئيس «التيار الوطني الحر»، في مجرى تقييمه لما تمَّ وما لم يتم «إنجازه» في قانون الانتخاب الذي أقره مجلس النواب اللبناني يوم 16 الجاري. وانسجاماً مع هذا المبدأ الذي تأخذ به الحركات المطلبية عموماً في كفاحها من أجل تحقيق مطالبها، باشر الوزير باسيل فوراً، بطرح جملة تعديلات على القانون. لم يمنع ذلك رئيس التيار من تصوير إقرار القانون، بعد مخاض طويل وعسير، إنجازاً لحزبه وللعهد «القوي» خصوصاً. ليس في ذلك من تناقض: نحاول غداً تحقيق ما عجزنا عن تحقيقه اليوم.
نستند في جهدنا وضغطنا إلى إيجابيات ما حققناه من أجل تعبئة قوى وتحالفات إضافية لتحقيق ما لم نتمكن من تحقيقه. يتصل بمبدأ «خذ وطالب» مبدأ آخر مكمِّل ومتكامل معه: «ما لا يُدرك كله لا يُترك جلُّه». وهكذا يتبلور مسار منطقي ومنسجم في خدمة هدف مركزي يوجِّه البوصلة ويجنِب مخاطر الشطط أو الضياع.
لا بأس من تبرير وتفسير ما نُسب إلى الوزير باسيل من «نطنطة» ومبالغة في اقتراح الصيغ والمشاريع، بأن هذه، وإن تعددت وتباينت أحياناً، فإن هدفها كان واحداً. هذا الهدف هو ببساطة تحقيق «الميثاقية». والمقصود بذلك تمكين المسيحيين من انتخاب ممثليهم في المجلس النيابي إنفاذاً لكوتا المناصفة الطائفية (المحاصصة بالتساوي). يقع في نطاق التفسير والتبرير، أيضاً، أن «قانون الستين» الذي بات عاراً في هذه المرحلة قد كان اعتماده انتصاراً لـ«التيار الوطني الحر» في انتخابات عام 2009. يومها، ووفق مبدأ «خذ وطالب»، كان القانون المذكور يؤمن للمسيحيين انتخاباً صافياً لأكثر من نصف ممثليهم. وهو بات بعد مجيء «الرئيس القوي» متخلفاً قياساً للطموحات المتجددة والمتعاظمة في استعادة زمام المبادرة، في السلطة والإدارة، ليس على مستوى الكوتا المسيحية وحسب، بل على مجمل القرار العام في البلاد. لهذا الهدف استمر التحالف مع «حزب الله». ومن أجل ذلك، خصوصاً، تمّ «إعلان المبادئ» مع «القوات اللبنانية» وتحولت، هذه الأخيرة، من عدو إلى حليف. وبعد ذلك كان التعاون مع «المستقبل». وهو تعاون يتحول، بقوة، إلى تحالف يمتد من حاضر الحكومة الراهنة إلى مستقبل رئاسة الجمهورية القادمة. الخطوة الأولى تمثلت في إيصال رئيس «قوي» إلى قصر بعبدا. والثانية الحكومة، والثالثة، وبالإستناد إلى الأولى والثانية، إقرار قانون جديد للإنتخابات النيابية. هذه الخطوات يجب أن تؤمن الحد الأقصى من «الميثاقية» الطائفية (مجسّدة بالمناصفة) التي نصَّ عليها الدستور (كتدبير مؤقت وإنتقالي) في المادة 95 منه.
لا يكتمل هذان التفسير أو التبرير إلا بتناول الاجتماع «التشاوري» الذي صدرت عنه «وثيقة» بعبدا الأسبوع الماضي. كان لافتاً أن هذا الاجتماع الذي انعقد بدعوة من رئيس الجمهورية، واقتصر على رؤساء الأحزاب الممثلة في الحكومة، قد فاجأ الكثيرين بسرعة انعقاده، وأثار الكثير من التساؤلات حول أهدافه الحقيقية. لكن سرعان ما تبين من خلال مشروع «الوثيقة» الذي خضع لبعض التعديل، أن ذلك اللقاء كان امتداداً مباشراً لمعركة التيار العوني التي قادها رئيس التيار في مشروع قانون الانتخابات والمحتوى الذي حاول تكريسه، كلياً أو جزئياً، في القانون المقر قبل حوالى أسبوعين. وفي هذا السياق نسبت جريدة «الحياة» للرئيس نبيه بري أنه «أوضح لزواره أنه رفض تمرير 3 مسائل في لقاء بعبدا هي تكريس التوزيع الطائفي للوظائف دون الفئة الأولى، وإنشاء مجلس الشيوخ مع تكريس المناصفة في البرلمان (ينص الدستور على أن مجلس الشيوخ الممثلين للطوائف ينشأ عند انتخاب برلمان خارج القيد الطائفي – التوضيح لـ«الحياة») وأخيراً موضوع اللامركزية، إذ كان مشروع البيان الختامي ينص على تطبيق اللامركزية فأصر بري على إضافة الإدارية... فهو لا يقبل بأي توجه يشتم منه أي احتمال تقسيمي...».
طبعاً لا يفسر الكلام المنسوب للرئيس بري كل ما جاء في «الوثيقة»، لكنه يتناول مسائل أساسية فيها. جوهر هذه «الوثيقة» (ليس إلغاء «إعلان بعبدا» الذي أُقر في غفلة من الكثيرين ممن صدر عنهم واعترضوا عليه لاحقاً، وكان يُراد له أن يشكل حلقة مهمة في محاصرة دور «حزب الله» وسلاح المقاومة قبل تدهور علاقة الرئيس السابق ميشال سليمان بالمقاومة وحلفائها)، بل جوهره، شيء آخر تماماً. إنه في السعي إلى تمرير بعض خلاصات معركة التيار العوني في قانون الانتخابات عبر نص «سياسي» مجاز من رؤساء الأحزاب الأكثر تمثيلاً لمصلحة «الميثاقية والمناصفة»، ومحاولة تثبيتهما بمعزل عن المتغيرات «الديموغرافية والجغرافية»... والتصدي، حسب نص «الوثيقة» المعلن، لـ«أي تلاعب بالهوية الديموغرافية للبنان وضرورة صونها تشريعياً إقامة وانتشاراً... ومنع نقل سجلات القيد والهجرات الداخلية...».
لا شك أنّ هذا التوجه الذي كان يُراد له أن يتكرس، بشكل أولي، من خلال لقاء بعبدا، هو توجه متعارض مع الدستور. يدرك واضعو مشروع الوثيقة ذلك. لكنهم، استكشفوا، وفي بعبدا، بالذات، إمكانية إطلاق معركة إلغاء البند الإصلاحي الجوهري في «إتفاق الطائف» وانسجاماً مع شعار محوري من شعارات «التيار الوطني الحر» والرئيس ميشال عون الذي وإن شدَّد في خطاب القسم على تطبيق كل بنود الدستور (إصلاحات «الطائف») إلا أنه يعتمد نظرية أن البدء يكون بتطبيق «المناصفة» بشكل فعلي كمحطة إجبارية لا يمكن تجاوزها لبناء دولة مدنية يحتفظ دستورها، مع ذلك، بتكريس المناصفة في مجلس النواب وليس بإلغاء القيد الطائفي منه وفق النص الدستوري، ووفق مهل وآليات قاطعة في المواد 22 و24 و95 منه. وقد تكرّرت هذه النظرية في وثيقة بعبدا، ولو على شيء من الالتباس!
معركة التيار التي قادها، أساساً، الرئيس ميشال عون، قبل بلوغه سدة الرئاسة وبعدها، هي ما وجَّه ويوجه سياسة التيار عموماً في السلطة وخارجها. في خدمة أهداف هذه المعركة يضع ممثلو التيار برامجهم ويقيمون تحالفاتهم: في الانتخابات والتعيينات، في الداخل والخارج. في هذا السياق يندمج على نحو وثيق حضور المسيحيين في السلطة والإدارة وتمثيلهم بالتيار العوني بوصفه، وفق سياسة أقطابه، الأحرص والأقدر على تجسيد المثياقية الطائفية واستعادة المبادرة في مؤسسات القرار السياسي والإداري والمالي... في البلاد. هذا هو أساساً، معنى «الإصلاح والتغيير» الذي يتبناه التيار شعاراً لتكتله النيابي. وهو شعار خاص وليس عاماً. يمكن القول إنه شعار فئوي وليس وطنياً بمقدار ما يتجاهل ضرورة إصلاح مجمل النظام السياسي الذي حال دون بناء وحدة وطنية سليمة، ومنع المساواة بين المواطنين، وهجّر وشرّد أكثرية اللبنانيين في أربع أرجاء الدنيا، وهدّد استقرار ووحدة البلاد وسيادتها... وأبقى لبنان، عموماً، وطناً قيد الدرس.
للتيار العوني خطته. للقوى الأخرى خطتها أيضاً. ينبغي أن يكون لدعاة بناء دولة مدنية، دولة قانون ومؤسسات ومساواة، خطتهم المعارضة الخاصة والمنافسة.
* كاتب وسياسي لبناني