أحد الأسباب الرئيسية لأزمة الرأسمالية الأوروبية هو العجز المتزايد لدى نخبها الحاكمة عن حلّ إشكاليتي التراكم والتوزيع، وخصوصاً بعد تغيُّر وظيفة الدولة إبّان القطيعة النيوليبرالية وتحوِّلها من جابٍ لمصلحة الرأسمال المحلّي إلى منسّق لحركة الرساميل الدولية التي تنظّمها اتفاقيات التجارة الحرة.
تدخُّل الدولة هنا لمصلحة الرساميل العابرة للحدود حدّ من قدرتها على تخفيف الآثار السلبية لعملية التراكم، ودفع بالقطاعات الشعبية التي كانت مستفيدة من دورها التدخُّلي السابق إلى رفع الصوت ضدّ الوصاية التي تمارسها المؤسّسات الأوروبية البيروقراطية وغير المنتخبة في بروكسل. الاعتراض هنا ركّز على مسؤولية الترويكا الأوروبية (المفوضية والاتحاد والبنك المركزي الأوروبي) عن الحال الذي وصلت إليه اقتصادات دول الجنوب.

سياسات المديونية

بالنسبة إلى المتقاعدين والعاطلين من العمل وبقية المهمّشين هذه المؤسّسات كانت تنسّق مع ألمانيا وباقي دول الشمال الغنية لجعل التراكم يصبّ في مصلحة الفئات المستفيدة من العولمة حصراً، عبر تركيز الثروة في يد الحكومات النيوليبرالية والبنوك والاحتكارات على أنواعها، ومنع توزيعها أو انتقالها إلى الفئات المهمّشة والطبقات العاملة والفقيرة. الأداة الأساسية لفعل ذلك هي سياسات المديونية التي تجبِر الحكومات في حال كانت معارِضة لوصفات التقشّف على الربط بين النمو وخدمة الدين بدلاً من ربطه بالتنمية التي توسّع القاعدة الإنتاجية وتخلق فرص العمل وتحقّق الفوائض، وهو على أيّ حال الشرط الأساسي الذي ترتكز إليه حزم القروض المقدّمة لهذه الحكومات من جانب الدائنين. حصول العكس عبر جعل خدمة الدين أساس السياسة المالية يعني ذهاب كلّ التراكم الذي يحصل لتسديد ديون الدولة الخارجية والداخلية، وبالتالي تركُّز الثروة في يد أقلية مستفيدة من هذه الدورة ومرتبطة بالمؤسّسات المالية الأوروبية التي تُملي سياسات التقشّف، وتختار الحكومات المناسبة لتنفيذها. هذا ما أدّى قبل سنتين إلى انفجار الأزمة اليونانية وصعود حزب سيريزا على خلفية رفضه لسياسات التقشف قبل أن ينتهي إلى القبول بالإملاءات الأوروبية، ويترك قيادة الاعتراض لأحزاب اليمين المتطرف.

تطوُّر الاعتراض

لم تنتهِ المواجهة بهزيمة سيريزا أمام ترويكا الدائنين، وظلّ الأفق مفتوحاً على سيناريوهات عديدة للصراع، ليس أقلّها انحياز الطبقات العاملة التي وثقت باليسار الراديكالي - قبل أن يخذلها- إلى أحزاب يمينية متطرفة لا تملك جواباً واضحاً على الأسئلة التي طرحتها الأزمة. ثمّة إشكالية هنا تتعلّق بافتقار أحزاب اليمين لبرنامج واضح يمكن على أساسه تنظيم اعتراض جدّي على سياسات بروكسل. وهو ما تسبّب لاحقاً بالخلط بين أسباب الأزمة ونتائجها، فاعتُبرت موجة الهجرة إلى أوروبا سبباً للبطالة بين أفراد الطبقة العاملة هناك، بدلاً من النظر إليها كنتيجة لسياسات الاتحاد الأوروبي الخاصّة باستغلال اليد العاملة الأجنبية. لم يرَ اليمين المتطرّف في سياسات الإدماج التي اعتمدتها حكومات كثيرة (أهمها ألمانيا) إبّان صعود موجة الهجرة سوى وسيلة لتمكين المهاجرين من فرص العمل التي «سُرقت من المقيمين»، وغضّ النظر تماماً عن استخدامها من جانب الحكومات لتحقيق فوائض أكبر في عملية الإنتاج، وخصوصاً في ألمانيا التي تضع الإدماج كشرط مسبق لانخراط المهاجرين في سوق العمل.

خاتمة

عدم رؤية هذا الجانب والاكتفاء بالتأويل الثقافوي لمسألة الهجرة فوّت على اليمين المتطرف فرصة الربط بين الجوانب المختلفة للأزمة، وأبقاه عند حدود المعارضة الشكلية للسياسات الأوروبية. وفي المرّات القليلة التي طرح فيها مسائل تمسّ صلب الأزمة كالاعتراض على اتفاقات التجارة الحرّة والمطالبة بفرض قيود على تدفّق الرساميل الخارجية لحماية الصناعة المحلّية كان يستعير خطاب اليسار، وهذا يعني افتقاره ليس فقط للرؤية والبرنامج بل للأدوات أيضاً. معارضة كهذه يمكنها الاستمرار لأعوام اعتماداً على موجة الكراهية للمهاجرين ولكنها لن تكون قادرة على قيادة اعتراض جدّي على السياسات الأوروبية. في أحسن الأحوال ستكون محطّة على طريق تطوُّر الاعتراض سلباً أو إيجاباً.
* كاتب سوري