«يا رجال أثينا؛ ليس هناك الكثير من الوقت للعظات، ولكن بالنسبة إلى الرجال الشجعان قلة الكلام وكثرته سيان»
أبقراط الأثينيّ، قائد جيوش أثينا
عند التعرّض لدور الإمبراطوريّة في صناعة الأحداث في منطقتنا، وهي إحدى الأطراف التي تطمح إلى ضمّها، لا يمكننا إغفال تموضع النخب الإعلاميّة والسياسيّة والأهليّة التي تسعى إلى صناعة وقولبة الرأي العام. فمنذ زمن الإمبراطوريّة الرومانيّة ما تفتأ معظم هذه النخب تتماهى مع قيمها.

نخبٌ بين إمبراطوريتين

في كتابه «سلام الهيمنة والإمبراطوريّة: باكس رومانا، بريتانيكا وأمريكانا»، يرسم علي برشامي صورة سطوة روما على نخب الأطراف المحلّية؛ حيث يؤشّر إلى توسّع شبكة الزبائنيّة والمحسوبيّة الرومانيّة ضمن علاقة تكافليّة بين هذه النخب والإمبراطوريّة. فهي شكّلت حليفاً لا غنى عنه للإمبراطورية في مقابل مكافآت عينيّة وامتيازات اقتصاديّة ـ اجتماعيّة. ولكي تثبت ولاءها للإمبراطوريّة وتحافظ على مكتسباتها، كانت هذه النخب تتبنّى طواعيّة عادات وقيم الطبقة الرومانيّة العليا. وكان يدفع هذا النمط من العلاقة الرغبة بالترقي الاجتماعيّ والطموح السياسيّ والاقتصاديّ وحرّية التنقّل الجغرافيّ.
ويمكن تلمّس ذلك النمط من العلاقة التكافليّة بين المنظومة الإمبراطوريّة التي أرستها الولايات المتحدّة والنخب التي تمشي في ركابها. لكن بداية لا بدّ من تحديد القيم التي تتماهى معها وتتبنّاها النخب المعنيّة.

هؤلاء يتضامنون مع الشعب الفلسطينيّ كشعب مسكين متجاهلين الجزء الأساسيّ من القضيّة

يشرح جوناثان فريدمان تشكّل منظومة القيم عند هذه النخب ما بعد الحرب العالمية الثانية، في بحثه المعنون «أمريكا مجدداً، أو العصر الإمبراطوريّ الجديد؟». فيقول إنّ النخب خضعت لسيطرة قيم معولمة ونيوليبراليّة عابرة للدول ومهجّنة، وباتت تمتلك نظرة فوقيّة تنفر من كلّ ما هو محليّ وتُعجب بكل ما هو عالميّ عابر للحدود ويزخر باستعارات الاستهلاك والاستيلاء. وفي بحث آخر له، بعنوان «العولمة وعملية انزياح الهويّة»، يشرح أنّ قيم هذه النخب انزاحت إلى أن أصبحت التقدّميّة والديموقراطية تعنيان التعدّد الثقافي والنيوليبراليّة والعولمة، بينما الرجعيّة هي العنصريّة والنزعات المحافظة (التي أصبحت تعني دولة الرعاية الاجتماعيّة) والمحلّية والقوميّة. ويصف فريدمان هذه القيم بأنها ممثّلة للقوّة الأميركيّة ولأسوأ ما في الرأسماليّة، والتي أصبحت في قلب مفهوم التقدّميّة اليوم.
ومما كثر شرحه، في منطقتنا في الآونة الأخيرة، كيفيّة انتفاع وارتباط هذه النخب بالإمبراطوريّة. فلم تعد خافية على أحد منظومة المؤسّسات الإعلاميّة (المملوكة والمموّلة من وكلاء الإمبراطوريّة المحلّيين) والمنظّمات غير الحكوميّة التي تدأب على توظيف هذه النخب مقابل بدلات مادّية كبيرة وفرص ترقّ اجتماعيّ وإمكانيّة السفر إلى الخارج كنقلة مهنيّة تالية. والذين ينشطون ضمن هذه المنظومة يعلمون بوجود شرط بضرورة تبنّي مجموعة من القيم قبل التمكّن من الولوج إلى هذا العالم. والمتابع للإعلام ووسائل التواصل الاجتماعيّ سيلاحظ من دون شكّ تكاثر هذا النوع من النخب المبشّرة بالتقدّمية والديموقراطيّة، اللتين وصّفهما فريدمان، وسيلاحظ أيضاً اختلاف أدواتها عن أدوات نخب العقود السابقة، وجموحها نحو استعمال الأسلوب الفكاهيّ حتّى حين يفتقد الفرد منها إلى حسّ الفكاهة.

الكوميديا السلاح

فعملاً بما هو سائد في مركز الإمبراطوريّة، أي الولايات المتحدة، نجد هذه النخب في بلادنا تنحو صوب استعمال الأدوات الكوميديّة والفكاهيّة طريقاً سريعاً لإيصال وتثبيت الفكرة عند الرأي العام. والحقيقة أن هذا الأسلوب ناجع ويصعّب تحدّي ونقاش الأفكار المطروحة. والصعوبة لا تأتي من عدم قدرة الطرف المقابل على المحاججة، بل تعود إلى خصائص استعمال الفكاهة كأداة لإيصال فكرة. وفي هذا الشأن يقول دون وايزانِن، في مقالته البحثيّة «روح الدعابة البديلة: مشاكل تقاطع الكوميديا والسياسة في الخطاب العام»، أنّ الفكاهة إذا ما استطاعت أن تضحك الناس بشكل جماعيّ تعطيهم حسّ الانتماء إلى جمهور وتربطهم اجتماعيّاً. ولكن هذه المميّزات نفسها تحوّل الفكاهة إلى أداة قمعيّة، فالضحك الجماعيّ يحثّ فيزيولوجيّا على الامتثال مع الجماعة أو المغامرة بالعزلة عنها، بحيث أنّه لا يوجد شكل تواصل أمضى بالتهديد بالعزل من الفكاهة. ويذهب وايزانِن أبعد من ذلك فيقول إنّ الفكاهة يمكن أن تؤدي إلى ممارسات عازلة تتجاوز القدرة على التواصل النقديّ والمحاججة.
ولكن أكثر النكات إضحاكاً لا يمكنها التعمية على نمط مقاربة الشؤون العامّة من بوابة إسقاط قيم الإمبراطوريّة عليها. فلا يمكن مقاربة قضايا محلّية، في أسبابها والخصوصيّات المكوّنة لتعقيداتها، بشعارات وخطط مبنيّة على قيم هي نتاج سياقات تاريخيّة، سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة، مختصّة بالولايات المتحدة. ومن ثم رفد هذه الشعارات بشرعيّة العناوين التي خصّها فريدمان بالذكر، كـ«التقدمية» و«الديموقراطية» و«التعدد الثقافي والحضاري».
إلاّ أنّ الأخطر المتأتّي من هذا النمط هو أنّه ينسحب في الكثير من الأحيان على مقاربة شؤوننا المحليّة الأكثر خطورة. فأهل هذه المنطقة يعيشون مخاضات دمويّة ستحدّد مستقبل أحفادهم لمئات السنين المقبلة، ضمن صراع طويل مع الإمبراطوريّة، علماً أنّ بعضه من النوع الذي سيحدّد مستقبل الإمبراطوريّة نفسها.
فلا يمرّ يوم من دون أن نرى وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي زاخرة بالآراء الأشبه بالوصلات الكوميديّة، والتي تنتقص من قيمة وأهميّة الصراع تحت عناوين أغلبها تصبّ لصالح حجّة افتقاد الأطراف المتصارعة «للقيم العالميّة» التي تحدّد مدى تقدّميّة القضية. وفي الحالات التي لا يمكن إغفال أحقيّة القضية أو فداحة الحدث نلاحظ العمد إلى قذف كمّ هائل من المشاعر الجياشة التي تقف عند حدود الخروج عن «القيم العالميّة». ففي حالة القضيّة الفلسطينيّة يتضامنون مع الشعب الفلسطينيّ، بشكل مبهم، كشعب مسكين حُرم من حقوقه الطبيعيّة، ولكنّهم يتجاهلون عمداً الجزء المحلّي والأساسيّ من القضيّة، أي كيف يحصّل حقوقه في ظلّ الظروف التي تمرّ بها المنطقة وانعكاساتها على أوضاع هذا الشعب السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ففعل المقاومة منسيّ في معاجمهم الاصطلاحيّة، ولا يرون حراكاً إلّا في التحرّكات الصغيرة (بغض النظر عن قلّة جدواها) التي تتوافق مع القيم «التقدّميّة والكوزموبوليتيّة» والسلميّة التي تبنّوها.
وإذا ما انتقلنا إلى متابعة ما يبثّونه من آراء في القضايا الأخرى الملتهبة في المنطقة، من اليمن إلى العراق فسوريا، سنجد سلسلة تفسيرات للدمار الذي يفتك بشعوب هذه البلدان مبنية على إسقاطات مستوحاة من منظومة «القيم العالميّة». لا بل نرى أداءً فيه نفور واضح من القوى التي تقاوم ما تحاول أن تفرضه الإمبراطورية على المنطقة. وتحت وابل من الاتهامات التي لا تنحصر «بالرجعية» و«الشموليّة» و«الديكتاتوريّة»، تحاول هذه النخب تهشيم صورة مقاومي أدوات الإمبراطوريّة، من جيوش وتنظيمات وأفراد، على كافة الميادين. وفي الكثير من الأحيان نرى الآراء التي تساوي بين أدوات الإمبراطوريّة والقوى التي تناوئها. وهذه الآراء، وبعمليّة تراكميّة، تشكّل صورة نمطيّة تُزرع في العقل الجمعيّ لمجتمعاتنا؛ لتخلق، في الكثير من الأحيان، لغطاً وتردّداً وحيرة في الاصطفاف ضمن الصراع القائم.

الزبد وما يمكث في الأرض

وفي بحثهما «المؤثّرون، الشبكات، والرأي العام»، يقدم دانكن واتس وبيتر شيردان دودز شرحاً لهذه الظاهرة. فيفسّران النتائج التي خرجا بها بعدما طبّقا محاكاة عن عمليّات التأثير عبر التواصل الإنساني البيني ومبنيّة على مجموعة نماذج رياضيّة، بترجيح أن «المؤثّرين» (أقلية من الأفراد الذين يؤثرون على عدد استثنائي من أقرانهم) لا يضطلعون بالدور الأساسيّ في عمليّة صناعة الرأي العام؛ بل التأثير الأساسيّ يكون عبر «الكتلة الضروريّة» (وهم المتبنون الأوائل لفكرة أو منتج ما وتعدادهم كاف ليشكّلوا شبكة فرعيّة تترسّب الفكرة منها إلى شبكة التأثير المستهدفة) التي تؤثّر بشكل كبير في من يسهل التأثير بهم، بالرغم من أنّ هذه الكتلة قد تتأثر «بمؤثّر» ابتداءً. ويخلصان إلى أنّه من الأسهل دائماً إعادة النجاح في أي حراك شعبيّ أو حملة إعلانيّة أو ما شابههما من عمليّة صناعة الرأي العام إلى أشخاص «مؤثّرين».
هنا تكمن مشكلة نخب الإمبراطوريّة في بلادنا، عند محاولتها الولوج والاستحواذ على كامل عقل المتابع، أنّها، وبالرغم من الإمكانيات التي تتيحها وسائل التواصل الاجتماعيّ، لا زالت معزولة بشكل كبير عن واقع محيطها. فالأفراد المنتمون لهذه الفئة يتصرفون كما وأنّهم قد ترّقوا اجتماعيّاً بمجرّد ربط أنفسهم بقيم الإمبراطوريّة، ونجدهم يحصرون نشاطهم وتفاعلهم الاجتماعيّ جغرافيّاً في أماكن محدّدة من المدن (دائماً ما تكون حيث تتواجد أرقى المقاهي والحانات) ومع أشخاص يتشاركون معهم المنظومة القيميّة نفسها والطموح إلى الوصول إلى رتبة «نخبة الإمبراطوريّة». وهذا يضيّق هامش قولبة وصقل خطابهم ليتناسب مع نسق الشارع والمجتمعات، التي تشكّل مخاضات المنطقة جزءاً جوهريّاً منها. فلا تتمكّن هذه النخب من استقطاب «كتلة ضروريّة» وتصبح قدرة تأثيرها محدودة بإثارة اللغط والتردّد والحيرة، مدفوعة بالأسلوب الفكاهي.
وفي ظلّ نشوة وهم الانتماء إلى نخب الإمبراطوريّة، يتجاهل هؤلاء مصير أدوارهم ومواقعهم في مجتمعاتهم في حال فشل الإمبراطوريّة في ضمّ بلدانهم إلى دائرة هيمنتها، وإذا كانت ستبقي على امتيازاتهم مع انتفاء الحاجة لهم. وبينما هم لا يرون إمكانيّة لسقوط الإمبراطوريّة، أو على الأقل فشلها في بلدانهم، هنالك نخب من نوع آخر تعمل في الساحات نفسها على تحدّي الإمبراطوريّة.
ففي المقابل استطاعت القوى المناوئة للإمبراطوريّة في المنطقة أن تستقطب «كتلة ضروريّة» قوامها عشرات الآلاف من الذين تطوّعوا وخرجوا من بين الفقراء لمقاومة مشاريع الهيمنة. قد لا تمتلك هذه الكتلة، معاجم مصطلحيّة منمّقة، ومنظومات قيميّة «برّاقة»، أو حتّى إدراكاً لقوّة الفكاهة كسلاح تواصل، وهي بالتأكيد لا تمتلك رغبة جامحة بامتطاء وسائل التواصل الاجتماعي لاستعراض آرائها وإنجازاتها، ولكنّها تمتلك نوعاً من الوعي السياسيّ والتاريخيّ دفعها لأن تنخرط في الصراع، لا رغبة بالترقي الاجتماعيّ والاقتصادي، أو طمعاً بفيزا تتيح التقاط الصور حول العالم. بل هي تستند الى قناعة بأنّ الوضع السياسيّ والاجتماعي المحلّي هو القيمة الأساسيّة التي ستؤمّن لها أرضية الانتصار، وأنّ الإمبراطوريّة ليست قدراً حتى لو تفوّقت عليهم بكلّ مناحي الموارد الماديّة. قد لا تتمكن هذه الآلاف من التعبير عن هذه القناعات بفصاحة خطابيّة وبالمصطلحات الأنيقة والمنمّقة، ولكن الأكيد أنّها تمارسها على الأرض كلّ يوم، لتصنع الإنجاز وتغيّر الوقائع، كما نرى في غير ميدان. وهذا الإنجاز هو بالذات الذي «يترسّب» ليحفر بشكل بطيء، في عقول الأفراد من المؤمنين بحتميّة النصر والمترددين والحائرين بسبب تشويش نخب الإمبراطوريّة، ويصنع رأياً عامّاً يتبنّى هذه القناعات. وعند الانتهاء من مقارعة الإمبراطوريّة، ستعود هذه النخب إلى الحقول والمشاغل والمصانع، لتكدّ بصمت، كثير الشبه بالصمت الذي تحاول أن تسطّر به اليوم مستقبل المنطقة، وتقرع به، على أسماع باقي الأمم، ناقوس إمكانيّة مقارعة الإمبراطورية.
* باحث لبناني