كانت حرب التحرير المعلنة سنة 1954 الفصل الأخير من المقاومة ضد بربرية الاستعمار الفرنسي التي لم يسبق لها مثيل. عندما «وضعت فرنسا يدها» على مدينة الجزائر (في إشارة الى كتاب بيار بيان) سنة 1830، لم تكن بقية البلاد قد تم غزوها بعد. باي (حاكم) منطقة قسنطينة، رفض رفضاً قاطعاً استسلام داي الجزائر (الحاكم الأعلى للبلاد)، ودخل في مقاومة شرسة ضد الاحتلال، شملت شرق البلاد، واستمرت لسبع سنوات.
أما في الجهة المقابلة، فقد استطاع العالم والمتصوف الأمير عبد القادر، تأسيس أول دولة جزائرية حديثة وبسط نفوذه على مجمل وسط البلاد وغربها.
باسم «الحضارة» تارة، وبهدف خلق وهم أرض من دون شعب تارة أخرى، مارس الفرنسيون طوال مدة حملتهم الغازية، سياسة الأرض المحروقة. وذهبوا حتى إلى تجميع قبائل بأكملها في المغاور قبل خنقها بالدخان، إضافة إلى الاغتصاب الجماعي والإبادة الجماعية وتدمير آلاف القرى. أشهر المجازر الجماعية مروية مع أبشع التفاصيل في مذكرات الماريشال سان آرنو. وفي واقع الأمر، بما أنّ العنصرية تعطي وجوداً لـ«اللاإنسان» وتعرّفه، فإنّ «لاإنسانية» الآخر تجعل كل الأعمال الوحشية ممكنة.

لا يمكن أن
يعتمد النضال ضد الاستعمار على
الوسائل السلمية

ابتداء من 1860، بدأ نظام سياسي تمييزي يحلّ تدريجياً محل النظام العسكري القائم. أُصدِر «قانون الأهالي»، فقنن العنصرية وكرس مبدأ العقاب الجماعي لكل قبيلة عما يقوم به أحد أفرادها، وهذا كان يتم غالباً بمصادرة الأراضي، أو النفي من دون محاكمة إلى ما وراء البحار، في كاليدونيا الجديدة وكايين. قانونياً، أصبح الجزائريون رعايا فرنسيين تحت طائل العبودية.
في سياق آخر، سمح إدخال وتطبيق القانون العقاري الفرنسي بالمصادرة الجماعية للأراضي، في ظل غياب وثائق ملكية رسمية. ففي مجتمع تقليدي ما قبل رأسمالي، لا يعترف بالملكية الفردية، ويعتبر أنّ ملكية الأراضي تعود إلى الله، لم تكن مختلف القبائل تتمتع إلا بحق الاستغلال والانتفاع، ما أعطى الحجة للنظام الاستعماري لإعلان هذه الأراضي من دون ملكية بغية تسهيل إعادة توزيعها على المستعمرين الوافدين بقوة بعد «وباء الفيلوكسرا» الذي نخر معظم الكروم الفرنسية سنة 1880.
نزح الجزائريون المهجّرون إلى الجبال، أو تحوّلوا نحو العمل الصغير الموسمي في أراضيهم التي أصبحت مزارع للمستعمرين. أما سياسة التجهيل الممنهجة المطبقة من طرف الاستعمار، فكانت تهدف بوضوح إلى استعباد السكان بواسطة الجهل.
يضع تحليل فرانتز فانون في كتابه «المعذبون في الأرض»، الخط تحت البنية الثنائية لنظام يكون فيه التناقض الرئيسي بين مجتمعين منفصلين؛ هذا العالم، المجزأ جزءين نمطيين، أحدهما «طيّب» والآخر «شرير»، والجامد يسير وفق قوانين الفصل العنصري. وفق فانون دائماً، فإنّ «العنف المؤسس للمستوطنة هو ذاك الذي يسنُّ قانوناً جديداً للحياة. نظامٌ يكون فيه تصنيف الأهالي كرعايا يتمتعون بشخصيتهم القانونية، مطروحاً افتراضياً ومُغيّباً في الوقت نفسه، وعدم تمكنهم من التمتع بكامل إنسانيتهم يُستعمل كمبرر للعنف الممارس ضدهم».
ضمن تفكيره التنويري حول العنف السياسي الذي لا يتوقف فقط عند اعتباره أداةً، يقول فانون: «إنّ التاريخ أثبت أنه لا أمة استعمارية تقبل الانسحاب دون أن تستهلك كل فرص بقائها». من هذا المنطلق، لا يمكن أن يعتمد النضال ضد الاستعمار على الوسائل السلمية فقط، ذلك أنّ جوهر النظام الاستعماري هو أنّه فُرِضَ بالعنف.
في الجزائر، في مواجهة وحشية هذا النظام، امتدت الثورات الشعبية طوال القرن التاسع عشر، فسجلت المقاومة البطولية لثورات قادتها لالة فاطمة نسومر، المقراني، الشيخ بوعمامة، الشيخ الحداد، على سبيل المثال لا الحصر. ولكن كل هذه الثورات التي أراد الاستعمار تقزيمها وتلخيصها في شخوص قادتها، ظلّت محدودة الامتداد الجغرافي وكانت دائماً متبوعة بإبادة للمدنيين ومصادرة للأراضي.
وفي إطار استمرارية هذه الثورات المقموعة بوحشية من طرف الاستعمار، ظهرت الحركة الوطنية الجزائرية في القرن العشرين حول ثلاثة تيارات رئيسية: دعاة الإدماج؛ الإصلاحيون بقيادة جمعية العلماء المسلمين التي نجحت في إعادة بعث شبكة من المدارس؛ والتيار الاستقلالي القريب من اليسار بقيادة مصالي الحاج، الذي استطاع إذكاء الوعي الوطني بالنضال السياسي والنقابي.
كانت هذه الحركات تنادي بالنضال على المستوى السياسي، من أجل المساواة في الحقوق أولاً. لكن القمع الاستعماري، والتزوير الانتخابي (كان النظام الانتخابي غير عادل بالمرة، حيث كان يسمح لمليون مستعمر بتمثيل يعادل ذاك الذي كان يتمتع به 10 ملايين جزائري حتى 1958)، جعلا هذا النضال غير ذي فائدة. وأقنعت المجازر الرهيبة للثامن من أيار/ مايو 1945 في سطيف وقالمة الشعب الجزائري بأنّ الخيار العسكري هو السبيل الوحيد لنيل حريته.
في صيف 1954، وقعت أزمة داخل حركة انتصار الحريات الديموقراطية (التسمية الجديدة لحزب الشعب الجزائري الذي مثل التيّار الاستقلالي) وضعت وجهاً لوجه «المصاليين» المتعلقين بشخصية مصالي الحاج، الذين لم تكن لهم غالباً مسؤوليات داخل الحزب، والمركزيين (أعضاء اللجنة المركزية) الذين كان معظمهم من متخرجي المدارس الفرنسية. قبل ذلك، في سنة 1950، كان حزب الشعب الجزائري قد أسس حركة شبه عسكرية سريّة مكوّنة من مناضلين شباب تملأهم العزيمة مثل: محمد بلوزداد، أحمد بن بلة، محمد بوضياف وحسين آيت أحمد. كان هؤلاء، بمعية مناضلين آخرين مثل مصطفى بن بولعيد، قد سئموا من نزاعات القادة، وهم الذين وضعوا اللبنة الأولى لجبهة التحرير الوطني عبر تأسيس اللجنة الثورية للوحدة والعمل التي حضّرت بيان الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 1954، والذي سجّل بداية الثورة. لم يتأخر المركزيون في الالتحاق بهم، بعكس «المصاليين» الذين فضّلوا إنشاء منظمتهم المسلحة الخاصة تحت مسمى التيار الوطني الجزائري.
لم تمر أشهر قليلة حتى بدأت جبهة التحرير الوطني بتسجيل الانتصار تلو الآخر، والفوز بتمثيل الشعب الجزائري. أما عن تنظيم الثورة، فقد حدده بفاعلية مؤتمر الصومام الذي انعقد في صيف 1956، ولكن دون رسم معالم ما بعد الاستقلال الذي كان النقطة الرئيسية على جدول أعمال مؤتمر آخر انعقد في طرابلس غداة الاستقلال، حيث تم اعتماد الخيار الاشتراكي.
من الغزو الفرنسي حتى حرب التحرير، كان إذاً قرن من المقاومة قد أثبت عدم جدوى مفهوم «قابلية الاستعمار» لدى الشعوب المستعمرة.