«إن كلاً من الرأسمالية والاشتراكية واضح بشأن الظروف الضرورية لخلق الثروة، أما الشعبوية فلا»الان غرينسبان

في الآونة الأخيرة، ارتفع بشكل مفاجئ للكثيرين منسوب الخطاب الاقتصادي لدى أركان الأحزاب الحاكمة في لبنان. من وثيقة بعبدا إلى خطط الـ8 مليارات دولار لرئيس الوزراء وصولاً إلى مؤتمر منتدى المؤسسات المتوسطة والصغيرة الذي عُقد الثلاثاء الماضي.

للوهلة الأولى قد نرحّب بهذا التوجه ونقل النقاش الوطني من أفقه السياسي البحت، الذي بدأ يأخذ أكثر وأكثر أشكالاً طائفية ومذهبية، إلى فضاءات الاقتصاد الذي في السنوات الأخيرة، وبالتحديد منذ 2006 وحتى الآن، وُضع على «التسيير الذاتي» مدفوعاً بالعزم المتلاشي للنموذج الاقتصادي الريعي القديم متجهاً نحو تعمق الازمة وصولاً إلى احتمال الانهيار على جميع الصعد.
لكن هذا التحول في الخطاب يبقى أسير المفاهيم القديمة وسجين الفانتازيا التي تأخذ بعض الأشكال الجديدة وإن حاولت تضمين بعض التوجهات التي نادى البعض بها من أجل التغيير الاقتصادي في محاولة تجميلية للنموذج القديم بدلاً من خلعه وإنهائه. وهنا سأضع في هذا الإطار بعض الملاحظات على أجزاء متفرقة من هذه «الخطط» المتعاقبة، أو الأصح، المتهافتة.
أولاً، إن الأزمة الاقتصادية هي أزمة النموذج الاقتصادي القديم والخروج منها لا يكون «تجميلياً»، أي أن «نضيف» اقتصاداً «إنتاجياً وعصرياً» إلى اقتصادنا الريعي المسيطر عليه من قبل الرأسمال المالي؛ فليس صدفة أن القطاعات الصناعية والزراعية والتصديرية اضمحلت في الخمس وعشرين سنة الماضية... وليس صدفة تنامي القطاعات المتدنية الإنتاجية وهجرة الشباب المتعلم وانخفاض الأجور وعدم استعمال القدرات الهائلة الكامنة للبنانيين... وكذلك عدم خلق فرص العمل وزيادة عدم المساواة... بل إن كلّ هذه المساوئ والتشوهات هي نتاج تراكم سنوات عديدة من سياسات اقتصادية خاطئة لا يمكن عكسها بالسهولة التي تتحدث عنها هذه المشاريع الجديدة. إن الاقتصاد السياسي هنا أساسي، فالمصالح الريعية لا يمكن كسرها فقط بالإقناع ولا يمكن الانتقال إلى استعمال أساليب «الاقتصاد العلمي» ولا تحقيق «مصالح الناس» إلا باتباع سياسات راديكالية جديدة تكسر مع الماضي في السياسات الاقتصادية والمالية والضريبية والنقدية، وهي بالمناسبة لا علاقة لها بما عاد الحديث عنه من شعبويات كـ «قطع الحساب» والـ «11 مليار دولار» كبقايا - ملهاة مستوحاة من تلك الوثيقة السيئة العنوان والذكر في آن: «الإبراء المستحيل».
ثانياً، إن القطاع الخاص اللبناني لا يمكنه ضمن متغيرات حسابات الربح قصيرة الأمد التي توجّه استثماراته وعمله، ولا ضمن ضيق أفق الطبقات المتحكمة به وتركزها في الريع والعقار، أن يقود عملية التحوّل نحو اقتصاد منتج وعصري. وبالتالي فإن التعويل على القطاع الخاص لن يجدي نفعاً، وآن الأوان لطرحه جانباً اقتصادياً وحتى فلسفياً. يقول وزير الاقتصاد إن «القطاع الخاص اللبناني يمتلك كل شروط النجاح، من الموارد البشرية الخلاقة». فهذا القول يعكس سيطرة «الخاص» على العقل الاقتصادي اللبناني، فاللبنانيون كقوة عمل فكرية هم من يملكون المهارات وليس «القطاع الخاص»، كما أن «الافتتان» المستجد بالمؤسسات الصغيرة في غير محله، بل أيضاً متأخراً جداً، وهو يذكرنا بكتاب ارنست شوماخر الذي صدر في السبعينيات (Small is Beautiful) طبعاً من دون بعده الفلسفي. فأسطورة المبادر الفردي والمؤسسة الصغيرة لا مكان لها في الاقتصاد الحديث، كما أن دور الدولة أساسي في الرأسمالية ليس فقط في إنتاج المعرفة والعلوم وتطبيقاتها (كانت رداً في أميركا على إطلاق الاتحاد السوفياتي سبوتنيك) بل في كونها المحرك الأساسي للريادة، كما أن الريادة أيضاً في المجتمعات الاقتصادية الحديثة المعقدة هي ريادة جماعية (collective entrepreneurship). إن الريادي الفردي المناضل في الخواء، والذي فقط بحاجة إلى الحصول على «حقوق الملكية» ليزدهر، هو أسطورة ساعد على نشرها اليميني البيروفي هرناندو دى سوتو كحلّ لمعضلة التنمية ولم يعد يؤمن بها أحد لديه مقدار أدنى من الجدية؛ وفي لبنان إن المرادف لنظرية دى سوتو وهو حصول الريادي على «التمويل» وذلك لن يجدي نفعاً لأن الكثير من هذه الريادة كما عرفها الاقتصادي ويليام باومول هي ريادة غير منتجة وحتى تدميرية؛ وهذا ما نراه اليوم في تزاحم وتقليد الرياديين اللبنانيين بعضهم البعض في القطاعات المتدنية الإنتاجية والمنعزلة وتنتج في أكثريتها عمالة غير نظامية وبطالة مقنعة.

القديم قد مات «اقتصادياً» ولكنه يستمر في السيطرة

ثالثاً، إن الخطط الاقتصادية ليست أحلاماً صيفية أو مجموعة مشاريع نضيفها إلى بعضها البعض حسابياً، بل هي عملية معقدة لإعادة توزيع الموارد وحشدها نحو أهداف محدّدة وهي تحلّ محلّ الأسواق وميكانزماتها جزئياً أو كلياً. كما أن أهدافها لا يمكن أن تكون «ارادوية» أي أن لا تأخذ الواقع بعين الاعتبار. في هذا الإطار يقول وزير الاقتصاد إن لبنان لديه القدرات على مضاعفة الناتج من 52 مليار دولار إلى 100 مليار دولار في سبع سنوات، إضافة إلى المقدرة على الخفض الكبير في عجز الميزان التجاري.
لا أريد أن أستفيض هنا، فقط للتذكير فإن الخطط الخمسية الثلاث الأولى في الاتحاد السوفياتي، والتي نقلته من اقتصاد فلاحي متخلف إلى اقتصاد صناعي متقدم ومكّنته من كسر الآلة الرهيبة للجيش النازي، لم تحقق زيادة الناتج الحقيقي 100% بين 1928 و1939 (حققت زيادة ضخمة بلغت 75%). إذاً فهذه الخطط الجديدة لا تعكس سياسة جدية أو علمية بل إنها تدل بحديثها غير العلمي عن «الإغراق» على بوادر «مركنتيلية جديدة» في لبنان تنظر إلى التجارة الخارجية كشكل من «الاستحواذ» على الثروة عبر الحمائية وليس خلقها، أي كمراكمة الذهب في السابق. وهنا يمكن ربط هذا التفكير الجديد بسياسات المصرف المركزي الأخيرة أي الهندسات المالية، أو الأفضل تسميتها بالخيمياء المالية، وذلك لمراكمة الاحتياطات بالعملة الأجنبية، لتُضاف إلى الذهب الراكن والثروات المجمدة لا أكثر ولا أقل.
كما يمكن وضع التفكير بـ «الاستفادة» من الصراع القطري- الخليجي (ذكرها أيضاً وزير الاقتصاد في مقابلة مع OTV الأسبوع الماضي!!) في إطار هذا الفكر المركنتيلي الجديد، وأيضاً «إعطاء» أرض معرض رشيد كرامي الدولي، الذي صممه المعماري الكبير أوسكار نيماير، للمناطق الاقتصادية الحرة المزعومة في ما يمكن اعتبارها جريمة في حق الفضاء العام والتراث المعماري في لبنان.
رابعاً، يقول وزير الاقتصاد أيضاً: «بالنسبة إلى موازنة عام 2018، فلن نقبل إلّا أن تكون جزءاً من الخطة الاقتصادية الهادفة إلى تحقيق نمو اقتصادي وتحسين إيرادات الدولة دون زيادة الضرائب»! إذاً السؤال الذي يطرح نفسه: من أين ستأتي الموارد لهذا التغيير المنشود؟ وهل يمكن خلق اقتصاد جديد من دون كسر القديم الذي مدخله التغيير الجذري في النظام الضريبي اللبناني؟ وهل الاعتماد على الخارج والاستدانة (خطة الـ 8 مليارات) ستكون الطريق المأخوذ الذي تعودنا عليه منذ 1992 وحتى الآن، لأننا لا نريد أن نمسّ مصالح الثروات العالية والمصارف والريع والرأسمال المالي بإبقائهم في جنتهم الضريبية بينما اقتصاد لبنان ينهار أكثر فأكثر؟ أما التحفيزات الإقراضية من مصرف لبنان فهي لن تكون كافية وآن الأوان للتوقف عن الاعتماد عليها لأنها تغطية دعائية من المصرف على عمله الحقيقي في حماية مصالح الرأسمال المالي، وكما يتجه الكثير من هذه التحفيزات أيضاً نحو تلبية مصالح تفريعات لنفس هذه الطبقات المسيطرة من دون أن يكون لها أثر مستدام تطويري في الاقتصاد اللبناني.
إن إطلاق المنتدى حول الشركات المتوسطة والصغيرة، وإن تطرق إلى بعض الأفكار الجديدة والحاجة إلى تنسيق الأهداف الاقتصادية وتعزيز القدرات التنافسية، إلا أن مضمونه الأساسي بقي خاوياً متضمناً أفكاراً يعاد دوماً تدويرها وأفلاماً دعائية لم تعد تنطلي على أحد. كما أن رمزياته من حيث أن المتحدثين الأساسيين فيه، من حاكم مصرف لبنان إلى رئيس غرف التجارة والصناعة، الذين هم من أسس النموذج القديم الذي أساسه ليس خلق الثروة بل الاستيلاء عليها من قِبل القلة، تؤشر إلى أن المنتدى لن يؤدي إلى التغيير الذي يتطلع له اللبنانيون، ولن يؤدي فعلاً إلى حشد موارد لبنان الفكرية لبناء اقتصاد جديد. إن هذا التغيير لن يحصل قبل أن تحدث ثورة فعلية في الفكر والممارسة تطيح بالقديم بالكامل، لأن القديم قد مات «اقتصادياً»، ولكنه يستمر في السيطرة فيميت معه كل حيوية فكرية تستطيع أن تربط بين العمل والتطور وبين العمل والثروة وبين العمل والإنتاجية، وهي العلاقات التي منذ أن أطاح آدم سميث بالمركنتيلية هي أساس خلق الثروة، وقد آن الأوان في لبنان للإطاحة بمركنتيلييه الجدد وريعييه القدامى لمرة أولى وأخيرة.