قد يقتبس طالب ــ باحث محتوى رسالة بحثية بالكامل باستثناء الجداول الإحصائية وبعض البيانات، ولا يتردد باحث آخر في تقديم الأطروحة المترجمة من لغات أخرى كعمل أصلي، و«يجتر» باحث ثالث أبحاثاً سابقة له ويجري تعديلات بسيطة عليها، ثم يعيد نشرها على أنها أبحاث جديدة.
ويمكن أن يسطو أستاذ جامعي يحمل درجة علمية عالية على بحث أحد زملائه المنشور قبله بسنوات، ويستبدل بياناته بالبيانات داخل جداول النتائج، ولا يغيّر سوى كلمات معدودة، وعندما يُسأل عن هذا السلوك يقول: إن هذا نتيجة الاستعجال لأغراض الترقية أو السعي إلى نيل جائزة معينة، ولا يعكس مخالفة علمية! وقد يسمح أستاذ جامعي آخر باستخدام اسمه للإشراف على رسائل جامعية من دون أن يكون قد أسهم في أيٍّ من مراحل البحث، إن لجهة طرح الفكرة أو العمل في المختبر أو مركز الأبحاث، ولا حتى في تحليل النتائج (هذا يحصل تحديداً في المشاريع البحثية الثنائية (cotutelle) بين جامعات في لبنان وجامعات في فرنسا مثلاً، وهناك باحثون لبنانيون يستسهلون الأمر ولا يصرون على مقاربة موضوعات تخدم المجتمع اللبناني). إلى ذلك، قد يستل أستاذ أبحاثاً من رسائل طلاب الدراسات العليا وينشرها بأسمائهم في دوريات علمية، من دون علمهم، بل يحدث أحياناً أن ينشر المشرف على أبحاث طلاب الدراسات العليا نتائج الأبحاث من دون ذكر أسماء الطلاب. ويتقدم أحد الباحثين بطلب الحصول على تمويل من مركز أبحاث باسم معين ثم يقدم الطلب نفسه باسم آخر في السنة التي تليها من دون أن يذكر في الطلب أنه حصل على التمويل في السنة الماضية. ويمكن أن يشجع أستاذ تلميذه على أن يأخذ إفادة شكلية من بلدية أو جمعية بتمويل أطروحة الدكتوراه ويستفيد الأستاذ على ظهر التلميذ الذي يأكل الضرب، لأنه ليس هناك تمويل فعلي. وفي تعامل الباحث مع ممولي البحث، يمكن أن يُقبَل تمويل بحثي يضع شروطاً لا تتفق مع الوسيلة أو المنهج العلمي لإجراء البحث، كأن يقبل بأن يعطّل الممول نتائج البحث لأنها جاءت ضد رغبته أو ما كان يتمناه. وفي بعض الأحيان، قد يتأثر الباحث أو يخضع للأهداف السياسية التي يتبناها الممول، سواء أكان الباحث يشارك الممول هذه التوجهات السياسية أم لا.

سباق محموم بين الجامعات

هذا غيض من فيض الانتهاكات التي تواجه البحث العلمي وسط السباق المحموم بين المؤسسات البحثية، سواء أكانت جامعات أم مراكز بحثية لاحتلال مواقع متقدمة في المؤشرات العالمية للنشر العلمي وبراءات الاختراع أو التصنيف العالمي (ranking). هل هذا التنافس يبرر تراجع نوعية الأبحاث والتعجيل في إعلان نتائج غير محققة أو استسهال اللجوء لنقل وترجمة المنشورات من لغات أخرى وانتحال نتائج الغير؟ هل من شأن التقاليد الضامنة لفعالية العمل الأكاديمي المعتمدة في عدد من الجامعات ومراكز البحوث العربية التي تخضع ترقية واستمرارية عمل الأستاذ/الباحث لشروط النشر العلمي الموثق واستقطاب التمويل الخارجي أن تبرر اللجوء إلى ممارسات غير نزيهة؟ كيف نتحاشى أن تتحول شرعة المبادئ الأخلاقية وآليات تطبيقها إلى نيابة عامة رادعة ومعطلة للحريات الفكرية والعلمية؟ هل من الممكن توحيد المبادئ الرئيسية لأخلاقيات البحوث العلمية واعتمادها بنحو متوازٍ في الدول العربية المتعاونة في ما بينها وضمن البرامج الدولية؟

حذر من أن تتحول الشرعات الأخلاقية إلى نيابة عامة رادعة للحريات الأكاديمية

مشاورة لوضع شرعة عربية

كانت هذه الأسئلة/الإشكالية محور مداولات أجراها باحثون وأساتذة جامعيون عرب ضمن «المشاورة الإقليمية حول أخلاقيات البحث العلمي وتطبيقات التكنولوجيا في المنطقة العربية»، الذي نُظمت أخيراً بالتنسيق بين المجلس الوطني للبحوث العلمية واللجنة الوطنية لليونسكو والإسكوا والمكتبين الإقليميين لليونسكو في بيروت والقاهرة وأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر.
المشاركون كانوا يتشاورون في إمكان وضع شرعة أو ميثاق عربي يتضمن ضوابط أو قواعد يسترشد بها الباحثون بهدف ضمان شفافيتهم وصدقيتهم، والحد من آفة التزوير والسرقات وبهدف توظيف أبحاثهم في خدمة الخير العام وتجنب محاذيرها وانعكاساتها السلبية، على خلفية عدم الانجراف وراء التسليم بأنّ كل ابتكار ينتج الأفضل. المناقشات كشفت أنّ هناك مبادرات وجهوداً على مستوى بعض الدول العربية، فبعضها أصدر شرعة أو ميثاقاً أو نظاماً، لكن من دون أن يوفر في كثير من الأحيان بيئة حاضنة لتشق طريقها إلى التطبيق.
وفي حين أن للعلوم الطبية تقليداً طويلاً وراسخاً في التقويمات الأخلاقية، يجري حالياً تطوير أطر أخلاقية لتخصصات أخرى مثل العلوم الاجتماعية. لكن هل القضايا الأخلاقية المنبثقة من العلوم الطبية مختلفة عن تلك التي ترافق أبحاث العلوم الاجتماعية؟ يتفق معظم الباحثين على أنّ البحث العلمي في كل ميادينه، وبغض النظر عن التخصص، لا بد أن يتقيد بضوابط أخلاقية. فالضغوط التي تمارسها المؤسسات البحثية من مراكز وجامعات، ولا سيما لجهة اشتراط عدد معين من المنشورات للترقية وما شابه، تدفع الباحثين إلى التحايل على الضوابط، وبالتالي هناك حاجة برأيهم لحد أدنى من الضبط ليس لمزيد من التعقيد بل للتحسين.

موافقة المبحوث

يشير بهاء درويش، رئيس قسم الفلسفة في جامعة المنيا في مصر، إلى أهمية هذه الضوابط التي تحمي المواطنين من استغلالهم استغلالاً سيئاً في تجارب قد تكون ضارة لهم. برأيه، الضوابط تشترط على الباحث إعلام المبحوث بالمنافع والمضار الخاصة بالتجربة، وأن يسلّم نسخة من توقيع موافقة المبحوث للجنة خاصة بالأخلاقيات ينتمي إليها الباحث. يقول: «العلماء بطبعهم طموحون، من هنا كانت الحاجة لضوابط تقوم بدور اللجام، بحيث يوجه العلم لخدمة المجتمع والإنسان، ولا يستغل الناس كفئران تجارب». بل أكثر، يرى ضرورة نشر الوعي بين المواطنين لجهة عدم انخراطهم في أبحاث قبل توضيح كل جوانب البحث لهم، وأن يُعلَموا بحقهم في الانسحاب متى يشاؤون من دون إبداء أي سبب.

نظام لكل بلد

يقول غياث الأحمد، عالم أبحاث طبية مشارك في إدارة الأخلاقيات الطبية في المملكة العربية السعودية إنّ تاريخ البحث العلمي مليء بالانتهاكات، بدءاً من التجارب التي قام بها الأطباء على المرضى ــــ وأغلبهم كانوا مساجين ــ أثناء الحرب العالمية الثانية في المرحلة النازية، فإذا كان إهدار كرامة المبحوثين والإساءة إليهم في العهد النازي هو ما أدى الى الاهتمام بوضع ضوابط ومعايير أخلاقية للبحث العلمي في العالم الغربي، فما الذي يمنع الباحثين الغربيين من أن يمارسوا البحث العلمي على مواطني المنطقة العربية في غياب ضوابط وقواعد أخلاقية مماثلة. لا بد، بحسب الأحمد، لأن يكون هناك نظام في كل بلد لحماية المواطنين وتشجيع الباحثين على إجراء الأبحاث، إذ لا يكفي إجراء التجربة على دواء مثلاً في بلد وتطبيقه على بلد آخر. ينفي أن يكون تنظيم العمل البحثي وإيجاد قواعد إجرائية ضرورية عملية مضرة، بل تحمي الباحث من الشركات الدوائية مثلاً التي تضغط على الباحثين لإعطائها نتائج ايجابية عن دواء معين، فتعطي كل باحث مبلغاً لقاء كل مريض مشارك في البحث، وهناك أطباء يستخدمون مرضاهم من دون أن يجروا عليهم الأبحاث.

فبركة النتائج بضغط من القطاع الخاص

من شأن الشرعة الأخلاقية أن تضبط، بحسب فواز الكرمي، الأمين العام المساعد للشؤون العلمية والتكنولوجية في الأردن علاقة الباحث مع نفسه ومع فريق العمل الذي يعمل معه وتحميه من مؤسسته ومن القطاع الخاص الذي لا يتوانى في دراسات الجدوى عن الاستخفاف بالأسلوب العلمي الرصين للباحث ودفعه إلى فبركة النتائج والأرقام. يؤكد الكرمي أن الشرعة يجب أن تناسب الجميع، فلا بأس من بعض البيروقراطية وتقييد الحرية التي يشعر بها الباحثون المنضبطون عادة، على أن يترك الأمر على غاربه لضرب مبادئ الحياد والموضوعية والنزاهية العلمية.




شرعة المبادئ الأخلاقية في لبنان

أصدر المجلس الوطني للبحوث العلمية في عام 2016 شرعة المبادئ الأخلاقية للبحث العلمي. ويقول الأمين العام للمجلس معين حمزة، إن الشرعة وضعت نتيجة مجابهة المؤسسات البحثية، ومنها الجامعات لتحديات متزايدة تمسّ بصدقية المنشورات وسلامة بعض المناهج والطرق البحثية، في ظل غياب الضوابط المنظمة. وقد وقعت على الشرعة 19 جامعة ومؤسسة بحثية، وأضحت جزءاً لا يتجزأ من كل برامج المجلس وعقوده التعاونية في دعم مشاريع البحوث وأطروحات الدكتوراه في لبنان. إلا أنه ليست للشرعة حتى الآن أي صفة تقريرية لعدم تبنيها من الدولة اللبنانية بتحويلها الى مرسوم او قانون. ماذا عن التطبيق؟ يشير حمزة إلى أنّ بعض الجامعات بدأت بتشكيل لجان أخلاقيات داخلية، معرباً عن اعتقاده بأنّ الضوابط تضمن فعالية الحريات الأكاديمية، وإن كان هناك خيط رفيع يجب التعاطي معه بحذر كي لا تغدو الشرعة نظاماً رادعاً. الشرعة تناولت الممارسات غير المسؤولة للبحث العلمي مثل الانتحال والتزوير واختلاق النتائج ومخالفة مبادئ الملكية الفكرية. كذلك حاولت الوثيقة تحديد بعض توجهات العمل البحثي المشترك الذي يستقطب باحثين من تخصصات مختلفة وأطراف متعددة. كذلك تطرقت إلى أخلاقيات نشر نتائج البحوث وحقوق المؤلف والملكية الفكرية للمشاركين في البحث ومسؤولية المؤسسات الراعية للبحث. لم تفصل القول في كل الشروط الواجب توافرها في البحث، تاركة للمؤسسات وضع سياسات تفصيلية تحدد المواصفات والشروط الأخلاقية والقانونية التي تحكم مسار البحوث الطبية والعلمية.

* للمشاركة في صفحة «تعليم» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]