كان من المُفترض أن تصدُر التشكيلات القضائية قبل نهاية شهر نيسان الماضي، بعد توقيع مرسوم تعيين القاضي بركان سعد لرئاسة هيئة التفتيش القضائي، وانتظار اجتماع مجلس القضاء الأعلى لإصدار مسودة التشكيلات وإحالتها على وزير العدل للتوقيع عليها. غير أن هذا الجسم القضائي الذي تحوّل إلى حقل خصب لتدخّل النافذين «جمّدها». لماذا؟ الخلاف السياسي ــ الطائفي.
وكل ما يقال من على المنابر عن استقلالية القضاء وإبعاده عن المؤثرات السياسية لا يعدو كونه شعارات بلا معنى. وقد خرج في الأيام الأخيرة كلام كثير عن عائق يضعه رئيس مجلس النواب نبيه برّي، وآخر مردّه إلى خلاف بين وزير العدل سليم جريصاتي ومجلس القضاء الأعلى، وثالث بين أعضاء المجلس أنفسهم.
رداً على يُقال، يُجيب الرئيس برّي: «أنا أكدت منذ زمن على اعتماد مبدأ الكفاءة. وقلت إذا أرادوها عالسكّين يا بطّيخ، فلتكن كذلك». وأضاف في حديث إلى «الأخبار» قائلاً: «هم يريدونها عالسكين. لذا كل ما أقوله أنه يجب أن يكون هناك توازن في القضاء بين الطوائف». وأكد برّي أن «المشكلة ليست عندنا كما يقولون، فلا أحد يُحمّلنا المسؤولية وحدنا»، مشيراً إلى أن «المشاكل موجودة أيضاً بين وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى.

مصادر مجلس
القضاء: ما زلنا في مخاض «التوازن»
ولم نبحث في
الأسماء بعد
وهناك تباين حتى داخل مجلس القضاء نفسه يتعلّق بالمناطق والمراكز. وهناك من يضع فيتوات على المناطق الكبرى ويمنعها عن الآخرين باعتبارها من حصته ويريد إعطاء الآخرين ملحقات. وهذا غير مقبول». ولفت إلى «أنني لم أدخل في التفاصيل، لقد تحدّثت بشكل عام وما زلت أنتظر»، مؤكداً أن «طلب زيادة بعض المراكز لتحقيق التوازن، يقابله في نفس الوقت مطالبات بمراكز إضافية، وهذا يعني أننا لم نغيّر شيئاً». وعن الخلافات التي أشار إليها، قال برّي «فليُسأل مجلس القضاء الأعلى عنها».
غير أن لرئيس مجلس القضاء الأعلى جان فهد كلامٌ آخر. ينفي فهد وجود أي تدخلات سياسية في الجسم القضائي «فهل من يصدق أن هناك تدخلات في التشكيلات القضائية»؟ يسأل فهد. ليس هناك من مشكلة، يؤكّد الرئيس الأول لمحكمة التمييز، نافياً وجود أي خلاف مع وزير العدل أو داخل مجلس القضاء. واختصر كل الموضوع «بوجود 22 قاضياً ننتظر تخرّجهم نهاية الشهر الجاري، لإدارجهم ضمن التشكيلات، لا سيما أن هذا العدد يحقق حركة كبيرة داخل العدلية». وأضاف: «هناك توافق بيننا وبين الوزير على المبادئ التي تؤكّد على الأقدمية والمداورة والإنتاجية والكفاءة. ولا أحد، سواء كان الرؤساء الثلاثة أو الوزير أو مجلس القضاء الأعلى، يقبل بأن يضحّي بقضاة يتمتعون بالكفاءة والنزاهة».
التشكيلات القضائية لا يزال صداها يصدح في أروقة العدلية، التي تضجّ بكلام عن صفقات واتفاقات تحت الطاولة، وبكلام آخر عن «عقدة لم تُحلّ بين وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى»، حيث يُسجّل جريصاتي استياءه من «لجوء عدد من القضاة إلى مرجعياتهم السياسية»، خصوصاً أنه «كان قد طلب قبل عيد الفطر إنجاز تصوّر جديد حيادي للانطلاق منه كركيزة لصدور التشكيلات». وفيما نفت أوساط سياسية مطّلعة على الملف «حصر المشكلة بما حُكي عن المراكز السنيّة والشيعية»، أعادت مصادر «المجلس» تأخّر التشكيلات إلى «واقع أن من المفترض أن تكون شاملة، وهذا يعني أن تراعي جملة من الأسس أهمها المؤسساتية»؛ بمعنى «إصدار تشكيلات وفقاً للآلية المنصوص عليها قانوناً. حيث إن صاحب الكلمة الفصل في إصدار التشكيلات هو مجلس القضاء الأعلى وفقاً للمادة 5 من قانون القضاء». وهذه النقطة متفق عليها داخل «المجلس» وتقتضي بأن «يعرف كل طرف دوره وحدوده، لا سيما أننا اليوم نقرّ تشكيلات في ظل عهد جديد يؤكدّ المحافظة على دولة المؤسسات». أما النقطة التي لا تزال مسار بحث داخل مجلس القضاء الأعلى فهي، بحسب المصادر، تتعلق بالتوازن الطائفي، وخاصة لجهة مطالبة حركة أمل بمواقع لقضاة شيعة توازي في أهميتها ما يحصل عليه القضاة السنّة والموارنة. ويقول معنيون بالتشكيلات: «بما أننا لم نصِل إلى مرحلة وضع القاضي المناسب في المكان المناسب، وما زلنا نسير بمنطق المحاصصة الطائفية في هذا القطاع أسوة بباقي القطاعات، لا بدّ إذاً من تحقيق التوازن، حتى لا تشعر فئة معينة بأنها مغبونة وليس متاحاً لها ما هو متاح لغيرها. نحن نعمل على أن يكون هناك توازن بالحدّ الأدنى لتقليص الفوارق، حتى تكون هذه الفوارق مقبولة».
«لا أسماء قيد التشاور» تقول مصادر مجلس القضاء، وكل ما يقال خلاف ذلك «غير صحيح». عندما ننتهي من مخاض «التوازن، حينئذ تُبحث الأسماء كي نطلّ على الناس وأصحاب الحقوق بتشكيلات تلبّي طموحاتهم. ولا شكّ في أنها ستعطي القضاة النزيهين ما يستحقونه». وكشفت هذه المصادر لـ«الأخبار» عن طرح بعض الأطراف «تأليف لجنة لوضع تصوّر أوّلي لتوزيع المراكز، غير أن الإصرار أولاً على المؤسساتية أطاح هذا الطرح».
في ظل تبادل الاتهامات «ضاع الشنكاش»، بيد أن الحاجة إلى التشكيلات القضائية تبدو ملحّة، لا سيما أن تصدّع الجسم القضائي بات عائقاً أمام تسيير أمور الناس، بسبب اختلاط حابل القضاء بنابل السياسة، والشواهد على ذلك كثيرة! والحاجة إلى التغيير في السلك القضائي ما كانت لتظهر بهذا الإلحاح لو حُصرت الأمور بأخطاء وتجاوزات شخصية. فهل سيكون العدل أساس التشكيلات التي ستصدر ليستعيد هذا الجسم هيبته؟ أم انه سيستمرّ وفق منطق «عالسكين يا بطّيخ»؟