على عكس ما قد يرى صف «المعارضة» في مصر، ليس وعي «الناس» منحصراً بالدعاء للرئيس وحكمه بالسداد وتوفيق الخُطى، إنما ما يقصده هذا الصف هو وعي شريحة من الطبقة الوسطى، يشرع في التحرك الآن ببطء نحو وجهة مختلفة بحكم الواقع المادي الذي يبتعد أكثر فأكثر عن الصواب وحسن التدبير في أبسط معانيهما.
من ناحية أخرى، دأب الصف المعارض ــ نظراً إلى العديد من العوامل والأسباب ــ على انتظار هَبّة شعبية أو السخط على «الشعب» إن لم يحققها، وهي طبعاً فكرة مفهومة تماماً وتعبر عن واقع انفصال هؤلاء عن الناس. فالقوى التي تفترض في نفسها العمل على تغيير المجتمع، وهو مهمة شاقةً علمياً وعملياً، من الطبيعي أن تكون جزءاً من هذا الكيان العضوي والاعتباري ــ أي المجتمع ــ وحركته، وبالتالي عليها أن تفعل فيه ومن خلاله مهمتها وهي الشروع في تغييره، وهو ما يتناقض بداهةً مع مقولات مثل انتظار جموع المصريين أو «استنهاضهم» والمراهنة على تحرك لهم، مع كل دلالات ذلك من كارثة في وعي الصف المعارض بذاته وبدوره، ما يدفع بدوره إلى التساؤل عن كنه هذا الصف وما يطرحه وعن أي مصالح يعبّر وجوده وعمله الاجتماعيين أصلاً.
في الشارع، يبدو أن لدى جموع المصريين، ونتحدث هنا عن الطبقة الوسطى والطبقات الشعبية التي انضمت إلى شرائحها شريحة الطبقى الوسطى الصغيرة، مبدئين أساسيين في السياق الحالي بخصوص السياسة العامة للدولة ومسألة تغييرها، الأول هو أنه ليس ثمة بديل واقعي للكتلة الطبقية والسياسية الحاكمة للدولة الآن، بديلٌ يكفل الإبقاء على كيان الدولة من حيث هي دولة أي هيكل بنيوي ودولاب عمل يومي، ويوفر الحدود الدنيا من الخدمات الإنسانية الطبيعية والأمان بمعناه اليومي وما غير ذلك من أدوار دفع «الشعب» ثمن غيابها لفترة لم تكن بالقصيرة في أعقاب كانون الثاني/ يناير؛ والمبدأ الثاني يقوم على النظر البديهي للمشهد الإقليمي حول مصر وما به من دول منهارة أو شرعت في الانهيار لفترة، ما يؤدي تلقائياً إلى رفض شعبي يبدو حاسماً ومبدئياً لأي خطوة قفز في الهواء، فالنظام المصري لم يقم دعايته لنفسه كبديل من الفوضى الكاملة على أساس حماقات وأوهام شعبية، إنما على أساس واقعي تماماً ومدعوم بحقيقة أن الدولة المصرية لم تسقط في موجة سقوط دول العرب، من حيث هي دولة، وهذا بدوره يستخدمه النظام دعائياً في تمرير تخريبه هو ذاته لبنية الدولة المصرية بل وأركان الوطن المصري على خُطى آل سعود وصندوق النقد الدولي وسياسات السوق.

لم يعد الأميركيون قادرين على
قبول السعودية بشكلها الحالي كحليف

ثمة فكرة عامة لدى الصف المعارض هي أن إجراءات كاستكمال الجِباية ورفع الأسعار والتفريط في أرض الوطن ستكفل احتقاناً شعبياً لا يُستهان به، وهذا حقيقي طبعاً، أما تداعيات ازدياد غضب الناس ومفاعيله وتحولاته وكيفيته وإيقاعه فمسألة مختلفة ومعقدة، وتُعَد قراءتها عملية غاية في الصعوبة إن تمت بمنهج علمي يقوم على فهم وتحليل الاجتماع البشري والتشكيلة الخاصة بالمجتمع المفحوص، مثلاً، ثمة صنف من المراكز البحثية في الولايات المتحدة أكثر تطوراً حتى من مؤسسات البحث الاستراتيجي وبنوك الأفكار ومؤسسات الحرب النفسية المتقدمة، وهو مَعْني بقراءة بالغة الدقة للرأي العام لمجمل الناس ولا سيما الكتلة التصويتية الانتخابية بحجمها الكامل، عمل يتم بمنهج إحصائي وباستخدام قدر هائل من البيانات مختلفة الأنواع والفحوص، يصل إلى استنتاجات عالية الدقة وقابلة للتعميم إلى حد مناسب وكافٍ بخصوص الاتجاهات النظرية للسكان وميولهم الفكرية والسلوكية، ومن ثم توصيات وتطبيقات سياسية وإعلامية تختلف باختلاف ما هو مطلوب. الجدير بالذكر أن ترامب استخدم أحد تلك الشركات في حملته الانتخابية، ولا يُستبعَد أن يكون لذلك دور في فوزه المريح، الشاهد في الأمر أنه طالما كان موقف النخبة السياسية، وهي ليست نخبة حتى الآن ولا «سياسية» إلا بالمعنى الوجداني، هو «المناشدة» المعنوية أو الشفوية الصِرف للجماهير (كأنه ابتهال لله) بأن تخرج دفاعاً عن مصالح نفسها، فإن وجود تلك النخبة سيبقى على مقعد المتفرج لا المشارك، والمقتصر على الصمت والانتظار، وهو نفس ما ينتقدونه في الجماهير أنفسها، في سابقة تاريخية أن تلقي شريحة يُفترَض كونها طليعة سياسية اللوم على شعبها.
على جانب آخر، يفيد النظام جيداً من عمله على قمع الحريات باختلاف أنواعها (عامة وسياسية ونقابية)، الأمر الذي يمنع أساساً قيام مجموعات سياسية على اتصال سياسي طبيعي بأغلبية المصريين يمكنها ممارسة حد أدنى من النشاط السياسي الطبيعي وسط الشعب في مواقعه في اتصال مباشر به. ممارسة قد تنعكس على وعي تلك المجموعات فتصل إلى طرح سياسي عملي حقيقي يمثل مصالح أغلبية الناس، أي الأغلبية بالمعنى العلمي، وينهي التكلس السياسي الذي يلقي النظام بمسؤوليته على المعارضة باعتبارها تكتفي بالشعارات ولا تفعل شيئاً في الواقع، ويكفل تغيير مفهوم «العمل السياسي» حالياً الذي لا يحمل معنى سوى المناشدة الإعلامية وإطلاق الكلمات، ومع ازدياد الترهيب بالقمع لم يعد حتى الصياح في الشارع متاحاً وهو ما يهدف إليه النظام طبعاً، في ظل تشكيله لمناخ انسداد وتراجُع وهزيمة في ظل أزمات حقيقية خلقتها أزماته هو نفسه، بتبعيّته التي طبع بها المجتمع منذ بدايته في السبعينيات، فأصبحت تغذّيه ويتغذى عليها، وتخلفه الذي هو سبب ونتيجة - معاً - لتخلف الوطن، وكلاهما يتغذيّان على التخلف العام للمجتمع، الذي تعود جذوره إلى وضعه كمجتمع منتقص الاستقلالية وذي تشكيلة اجتماعية خارج العصر والتاريخ الإنسانييَن.
لم يكن غريباً إذاً ألا تبدو أي استجابة شعبية للدعوة التي أطلقها رمز معارض كان مرشحاً رئاسياً بارزاً بمنافسته لعبد الفتاح السيسي بالتظاهر في التحرير إذا ما وقّع الرئيس على اتفاقية الحدود البحرية (تيران وصنافير)، فلو كان للرجل قاعدة جماهيرية حقيقية لانضم له الناس في الأيام التي سبقت التوقيع خلال تحضيرات ماراثونية لاحتجاجات «شعبية» لم تتم أبداً، بل وتم خلال التحضيرات الاعتداء عليه من قِبل الأمن. لكن الحقيقة أن المصريين تلقوا خبر التفريط النهائي في أرضهم وهم يعدون إفطار اليوم الأخير في رمضان وخلال استعدادات عيد الفطر، ومع غضبهم الواضح برغم كتمه على هوان شأن بلادهم التي يبعث تخلفها وتراجعها إحباطاً دائماً لديهم، لم يشهد الشارع تحركات شعبية عفوية، في دليل إضافي على أن شعب مصر قد استوعب درس «يناير 2011» جيداً في حين لم يفعل الصف المعارض، الذي كثيراً ما يصر على إقامة المقدمات نفسها التي أدت إلى عكس النتائج المرجوة، وقد يفتح له انعدام الحريات منظوراً مغايراً أقل سطحية وقشرية للعمل السياسي.
* كاتب مصري