يضاف إلى فشل السعودية في تحقيق أهدافها في عدوانها على اليمن، منذ سنتين ونصف، فشل آخر في إدارة سياستها الإقليمية في ما سُمي الأزمة الخليجية مع جارتها قطر، ما يضع مجالها الحيوي، المهم جداً في استقرارها الداخلي، على المحك. وفي حال استمرار الجمود لوقت طويل في تلك الأزمة، مع رجحان لمصلحة الدوحة، فإن السعودية مرشحة لمزيد من التأزم، بل قد تتشجع دول أخرى تدور في فلكها للخروج من عباءتها إلى محاور أخرى، أو النأي بالنفس كما تفعل حالياً سلطنة عمان.
المطلعون على خفايا العلاقات الخليجية ــ الأميركية يجزمون بأنّ الأزمة الخليجية الحالية ما كانت لتحدث لولا استفادة ولي العهد محمد بن سلمان، من زخم القوة التي ضختها زيارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الشهر الماضي للرياض، وتغريداته في بداية الأزمة التي دعت قطر إلى وقف تمويل الإرهاب. لكن واشنطن سارعت عبر العديد من المسؤولين، وعلى رأسهم ترامب، إلى وضع ضابطتين كسقف للأزمة الخليجية، ومنعها من التدهور، هما: مكافحة الإرهاب، والحفاظ على «مجلس التعاون الخليجي». وكل المساعي الأميركية تنطلق من هاتين الضابطتين، ولم تكترث واشنطن لبقية المطالب الخليجية الـ13 التي قدمت إلى قطر، بل رأتها غير واقعية مستبعدة تنفيذها بأي حال.
ولمنع ترجيح كفة طرف على أخرى، عمدت الإدارة الأميركية إلى إجراء توازن يمنع الرياض من التجرؤ والتفكير خارج ضوابطها: الأول عسكري، بإجراء بحريتها في مياه الخليج مناورة عسكرية شكلية مع البحرية القطرية، أعقبها توقيع اتفاق شراء 35 طائرة «إف ــ 15» بمبلغ 12 مليار دولار، إضافة إلى تجنبها الاعتراض على تنفيذ اتفاقية التعاون العسكري القطري ــ التركي التي بدأت بموجبها أنقرة إنزال خمسة آلاف مقاتل في قطر.
وعلى المستوى السياسي، وقّع وزير خارجية الولايات المتحدة مذكرة تفاهم لمكافحة تمويل الإرهاب مع الدوحة في زيارته الأخيرة للخليج، وبذلك تكون واشنطن قد خففت عن قطر تهمة تمويل الإرهاب ودعمه، الموجودة في مطالب دول المقاطعة والحصار للدوحة. ويجب التذكير أيضاً بأن إحداث التوازن الأميركي في الأزمة الخليجية يصبّ في مصلحة قطر بلا نزاع، الأمر الذي اعتُبر خليجياً انحيازاً أميركياً إلى جانب الدوحة، وإن كان لا يزال بعض القادة في الدول الخليجية يعلقون آمالاً على العلاقة الشخصية مع ترامب لعقد صفقة معه يستجلب فيها انحيازاً أميركياً إلى دول المقاطعة والحصار، أو بالأحرى ليس لديهم سوى هذا الخيار.
ويشار إلى أن السعودية ترفض الوساطة الأميركية في أزمات دول تعتبر المجال الحيوي لها، ولا سيما في دول الجزيرة العربية بضفتيها الشمالية (الخليج) والجنوبي (اليمن)، وإن كان بعض المحللين قد فوجئوا بتصريح وزير خارجية السعودية، عادل الجبير، الأحد الماضي، عقب لقائه نظيره الفرنسي الذي قام بجولة خليجية لدعم جهود الوساطة لحل الأزمة بين قطر والدول الأربع المقاطعة، حينما قال إن السعودية تأمل حلّ الأزمة مع قطر داخل البيت الخليجي. فقد كان كلامه لافتاً لجهة قطع الطريق على محاولات واشنطن والدول الغربية الأخرى للتدخل في حل الأزمة.
في البواطن غير المرئية للعلاقات الأميركية ــ السعودية، تحرص الرياض على إبعاد الغرب، وخصوصاً واشنطن عن التدخل في البيت الخليجي، ولا تتعارض الممانعة السعودية للتدخل الأميركي والغربي في مجالها الحيوي مع هرولة الرياض لبناء أفضل العلاقات مع الغرب وواشنطن بالتحديد، ولا تعتبر الممانعة السعودية رفعة في الشعور الوطني أو القومي أو دفاعاً عن مصالح المسلمين، بل تسعى الرياض دائماً إلى تمتين الروابط مع واشنطن إلى أبعد مدى، والتماهي مع سياسة الإدارة الأميركية في كل القضايا.
وكما نقل عن ابن سلمان، ستكون علاقاته مع واشنطن بلا حدود، لكن خشية الأسرة الحاكمة في الرياض خصوصاً في السنوات الثلاث الأخيرة، بالإضافة إلى خسارة دورها الوظيفي بعد هزيمة حلفائها في كل من سوريا والعراق، هي تمادي واشنطن في الزحف نحو الجزيرة العربية، ولا سيما في الخليج ليطاول المجال الحيوي السعودي (دول الخليج واليمن)، ما سيعرضها للابتزاز الأميركي في ساحتها الداخلية، والوصول في نهاية المطاف إلى إلزام الرياض القبول بالصفقة الكبرى، وهي المناصفة في اقتسام الثروة النفطية السعودية. وهذا الأمر أُسمِع لابن سلمان في زيارته الأولى لواشنطن في الأشهر الأولى من تولي ترامب البيت الأبيض. وفي هذه الحالة، لا يعود للمملكة خيار سوى الموافقة على تلك الصفقة.
في غضون ذلك، تخترق واشنطن جدار الحماية السعودي للبيت الخليجي بالتواصل المباشر مع دولة الإمارات التي لا تزال تسير في الفلك السعودي، لكنها تعمل وفق الأجندة الأميركية الكاملة وتقدم نفسها أنها الذراع الأميركية الواعدة في المنطقة، وتستفيد منها واشنطن بالسيطرة على جنوب اليمن والقرن الأفريقي مقابل الحضور السعودي ممثلاً في ما يسمى «شرعية هادي». وعادة تحرك واشنطن ذراعها الإماراتية في جنوب اليمن ضمن رسائل تذكيرية للرياض من وقت إلى آخر.
بالإضافة إلى التماهي الإماراتي مع واشنطن، تأخذ كل من سلطنة عمان والكويت مسافة عن السياسة السعودية، بل إن مسقط في موارد كثيرة متباعدة عن تلك السياسة كلياً كموقفها المعارض لما يسمى «عاصفة الحزم» (العدوان على اليمن). وقد برز في الساعات الماضية التباين الأول في الأزمة الخليجية بين السعودية والإمارات، إذ لم تمضِ ساعات على تصريح الجبير برفض التدخل الأميركي في الأزمة الخليجية، حتى أعلن وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، عكس ذلك تماماً، مطالباً بحل إقليمي ومراقبة دولية لحل الأزمة مع قطر.
أما في اليمن، الجانب الآخر للجزيرة العربية، فاستعادت السعودية الملف اليمني من واشنطن منذ بداية العدوان على اليمن بعد أن استطاعت الأخيرة سحب البساط من تحت أقدام المملكة منذ بداية الألفية الثالثة إثر تنامي قوة «القاعدة» وتشكيلها تهديداً إقليمياً ودولياً. ومن ذلك الحين، بدأ ينمو دور السفير الأميركي لدى صنعاء مقابل تراجع حاد للدور السعودي في إدارة الشأن اليمني.
لكن صمود الشعب والجيش و«اللجان الشعبية» وعجز الرياض عن تحقيق أهدافها، يضع من جديد الدور السعودي المستقبلي في اليمن على المحك، خصوصاً أن إحراز أي تقدم سعودي، إن وجد، سيكون بمساعدة أميركية. ومن دون ذلك، ستستمر الحرب بلا جدوى، أو تقر السعودية بالعجز وتسمح لواشنطن بإجراء تسوية سياسية عبر الأمم المتحدة. وبالتأكيد ستعمل الإدارة الأميركية على استعادة دورها في هذه التسوية عبر حلفائها اليمنيين.