«إن المكان ليس موضوعاً علمياً منفصلاً عن الايديولوجيا أو السياسة»هنري لوفافر

«إن المهم ليس العمارة بل النضال من أجل حياة أفضل»
أوسكار نيماير

هناك الآن في لبنان موضة اقتصادية جديدة. في الماضي كانت ايرلندا البلد ذا المعجزة الاقتصادية الذي أرادوا أن يحولوا لبنان إليه (طبعاً من دون أن يفعلوا شيئاً كالعادة لتحقيق ذلك) أما الآن فهي سنغافورة.

الاختيار ليس سيئاً، من ناحية الشكل على الأقل، فهي بلد صغير متعدد الاثنيات اقتصاده حر، وبالتالي فإن النظرية بسيطة وجذابة: إذا كانت سنغافورة تستطيع تحقيق التقدم الاقتصادي فبالتأكيد لبنان يستطيع أيضاً (شبيه بشعار برنامج الطبخ الصيني الذي اشتهر في الولايات المتحدة: If Yan can cook so can You). وعطفاً على ذلك، مع أنني لا أحبذ التنبؤ عملاً بمقولة نيلز بوهر "إن التنبؤ صعب جداً خصوصاً إذا كان يتعلق بالمستقبل!"، فإن حظوظ سيدات المنازل الأميركيات من الوسط الغربي الأميركي اللواتي كُنّ يملأن مقاعد برنامج Yan Can Cook أعلى بكثير في تعلم الطبخ الصيني منه أن يتحول لبنان إلى سنغافورة الغرب.
لا أريد أن استفيض في الجواب عن سؤال: لماذا؟ لأن لائحة الأسباب طويلة، تتراوح من طبيعة النظام السياسي إلى السياسات الصناعية الجادة التي من الصعب ضمن المتغيرات اللبنانية اتباعها وإلى عدم وجود مصالح ريعية واحتكارية تجارية متجذرة عند بدء التحول في سنغافورة في خمسينيات القرن الماضي. ولكن أريد ان أتناول موضوعاً واحداً حول اقتصاد سنغافورة لا يذكر أبداً عند التغني بها واضعاً التحدي بأن يبدأ لبنان بنسخ هذا النموذج.
في مجلة الايكونوميست مؤخراً تقرير تحت عنوان "لماذا يعيش 80 بالمائة من السنغافوريين في شقق معطاة لهم من الدولة؟". يقول التقرير إن الزائرين إلى ذلك البلد يتفاجأوون بنظام الإسكان الاجتماعي المتطور لديها لأنهم كانوا يظنون أنها بلاد حيث فقط الضرائب متدنية ومرتع للبنوك والشركات المتعددة الجنسيات. هذا النظام الإسكاني مبني على شراء الناس للشقق المدعومة من قبل الدولة (نعم مدعومة للذين يريدون في العالم العربي إلغاء الدعم عن السلع الأساسية المتبقية طبقاً لإملاءات صندوق النقد الدولي) وبأسعار اقل بكثير من أسعار الشقق المماثلة في الأسواق الخاصة، ممولة من قبل ادخار السنغافوريين الذين يخضعون لنظام ادخار إجباري يجبرهم على ادخار 20 بالمئة من أجورهم بالإضافة إلى 17% يدفعها أرباب العمل. أخيراً، تقول الايكونومست إن الدولة تفرض نظاماً للملكية يضمن أن خليط مالكي الشقق في الأبنية الحكومية من صينيين وهنود ومالاي يعكس التكوين الاثني للبلاد وذلك بهدف الإبقاء على التنوع الاثني في الأحياء والمناطق السكنية وضمان عدم تكون "جيوب عرقية".
أما في لبنان، تترك الدولة معضلة تأمين السكن للقطاع الخاص بالكامل مع تدخل محدود في سوق الاقراض. فأسواق العقار تخضع كلياً لآليات السوق وأسعار الشقق في أواسط المدن أصبحت خارج متناول الطبقات الوسطى والعاملة، وتمثل أسعارها ما يعادل عشرات السنين من متوسط دخلها، وبالتالي فإن أسواق العقارات تجتاح من قبل الشارين الأجانب والمغتربين والعاملين اللبنانيين في الخارج وأصحاب الثروات الكبيرة. وحيث الدولة كان لها حيز للتدخل في قانون الإيجارات القديم، الذي وإن أوقف مفعوله في 1993 كان لا يزال يؤمن مخزوناً لا بأس به من الوحدات السكنية للطبقة الوسطى والعاملة والمتقاعدين في بيروت خصوصاً، تم التخلي عن هذا الحيز خدمة للقطاع الخاص والراسمال المالي حين أقر قانون الإيجارات الجديد. وهذا القانون يهدد من تبقى منهم خصوصاً في بيروت، وفي الحمرا والأشرفية وسائر الأحياء، بالتهجير أو دفع أجزاء أكبر وأكبر من دخلهم للإيجارات أو للدفعات الشهرية لقروض المنازل، من دون الأخذ بعين الاعتبار مدى تأثير ذلك على مقدرتهم على الإنفاق على السلع الأخرى وأهمها الصحة وعلى الادخار من أجل تأمين معيشتهم عند التقاعد وهم الذين أصبحوا في فئات عمرية متقدمة.

استعمال الأراضي
يخضع لمصالح الرأسمال
المالي والعقاري

وهنا نطرح السؤال، هل هناك من بين الذين يدعون إلى اتباع النموذج السنغافوري يحب أن يتبنى أيضاً نظامها الإسكاني الاجتماعي؟ بل لنطرح أمراً أقل من ذلك. كنت دعوت سابقاً إلى تعديل قانون الإيجارات بحيث يتم تأميم الشقق الخاضعة لقانون الإيجارات القديم وإلى قيام مؤسسة عامة تدير هذه الملكية العامة (راجع مقال: قانون الإيجارات: التأميم هو الحل- الأخبار- العدد ٣٠٩٥ الخميس ٢ شباط ٢٠١٧) مما يبقي المستأجر القديم في مسكنه القديم ويحصل المالك القديم على عوائد على ملكيته وإن فقد هذه الملكية خلال عملية التأميم. كما أن هذا الحل سيساعد على الإبقاء على بعض من التنوع الطائفي، إذ على الرغم أنني لا أعلم درجة الاختلاط الطائفي في الأبنية القديمة، ولكنها بالتأكيد أعلى من الأبنية الجديدة حيث يطغى أكثر وأكثر عليها الصفاء المذهبي. هل يستطيع هؤلاء تبني مثل هذا الطرح؟ الجواب أكيد كلا؛ فإن ما يطرح حتى الآن من وثيقة بعبدا الاقتصادية إلى منتدى الشركات الصغيرة وصولاً إلى ورقة التيار الوطني الحر الاقتصادية، يبقى على مستوى "لائحة تمنيات" التي لن تجد لها تطبيقاً في الواقع، لأن تغيير الواقع يتطلب سياسات علمية واضحة بالإضافة إلى اتخاذ قرارات صعبة بكسر الاقتصاد السياسي للنموذج الاقتصادي الريعي السائد الذي لا يمكن كسره بالشعارات أو عبر طرح بعض الإجراءات التجميلية هنا أو هناك.
أمر أخير في هذا السياق. في مقابلته الأخيرة في الـ OTV، قال وزير الاقتصاد إنه "أعطى" أرضاً في معرض رشيد كرامي الدولي في طرابلس لتستعمله "المنطقة الاقتصادية الخاصة في طرابلس" في مشاريعها، لأن الأرض في مرفأ طرابلس غير جاهزة! وهذا القرار وبهذا الشكل يشكل أكبر تعدٍّ حتى الآن على هذا الصرح العام الكبير الذي صممه المعماري العالمي أوسكار نيماير. وهو ما يكشف مدى ضحالة هذا التفكير الاقتصادي "الجديد" ومدى هزال هذه المشاريع، كالمنطقة الخاصة التي لم تنجز شيئاً حتى الآن على الرغم من عدة سنوات من إنشائها. ولأن استعمال الأراضي يخضع لمصالح الرأسمال المالي والعقاري، كما أن استعمال أراضي الدولة يخضع لمنطق تعدي المصالح الخاصة عليها وللتحاصص الطائفي وعدم كفاءة دولة الطائف الفاشلة، فهم الآن يريدون وضع يدهم على أهم منشأة عامة لا حام لها.
منذ عدة سنوات قال لي أحد المسؤولين عن المعرض إنه عند التفكير بأول تعدٍّ على المعرض لتحويل بناء فيه إلى فندق Quality Inn أو كما أطلق عليه أحد المعماريين المشهورين (Quality Out!)، تمت الكتابة إلى نيماير الذي اعترض على ذلك وأضاف هذا المسؤول بما معناه أن نيماير كان يدافع عن فكرته أن المبنى هو سكن للعمال في المعرض لأنها فكرة شيوعية. في الواقع، نيماير في خطته الأساسية لم يكن فقط يريد أن يكون هناك سكن للعمال المستقبليين العاملين في المعرض، بل أراد أن يشكل هذا البناء نموذجاً تجريبياً لمناطق سكن اجتماعية تضم كل متطلبات الحياة المدينية حول المعرض، فتكون هي والمعرض هذا الفضاء السكاني والمعماري المتميز في طرابلس. هكذا كانت رؤية نيماير للمعرض كجزء من شيء جديد حيوي إنساني وجمالي في نفس الوقت. وهكذا المعرض منذ ذلك الوقت كان يشكل هذه النظرة الحداثية شبيهة بالتي أطلقت سنغافورة نحو التطور والتقدم، ولذلك كان يراد تحطيمه دوماً ليس كصرح معماري فقط بل لأنه يمثل إمكانية حياة أفضل لأكثرية خارج حدود سيطرة الراسمال المطلقة على جميع نواحي الحياة اليومية في لبنان.
إن أوسكار نيماير لم يكن فقط ماركسياً بل منتسباً حتى مماته، عن عمر ناهز الـ 104 سنوات، إلى الحزب الشيوعي البرازيلي، كما أنه كان من أعظم معماريي القرن العشرين وأعماله من أهم الأعمال المعمارية وتضم إلى الأبنية والمتاحف والمعارض مدينة برازيليا الجديدة. من المؤسف والمخزي على المؤسسات الحكومية اللبنانية أن تهمل أولاً هذا الصرح (أنصح بزيارته و/أو رؤية صورته من الجو حيث يبدو كسفينة فضائية مستقبلية) ومن بعد ذلك لا تكمل بناءه ومن ثم تحاول إحدى المؤسسات أن تحوله إلى مدينة ملاهٍ في عام 2004، والآن وصلنا إلى درك تسليمه إلى منطقة اقتصادية لا تجد مكاناً آخر لها في أرض الخراب الثقافي والحضاري الذي تحول لبنان إليها. هكذا أرادت دائماً ولا تزال اليوم تريد بشراسة أكثر هذه الراسمالية اللبنانية بوجهها القبيح أن تحوّل كل الأشياء إلى شاكلتها: جامدة ميتة باردة وبلا روح ولهذا كرهت تاريخياً أوسكار نيماير والصرح الذي يقف شامخاً كبيراً ومتحدياً لها.