آخر ما تحتاج إليه مصر أن تغيب قواعد القانون والعدالة وأيّ حساسية سياسية في الأداء العام، فتنشأ أزمات بلا ضرورة وتتسع فجوات بلا حدّ. وقد كانت الصدامات التي جرت في جزيرة «الوراق» ــ أكبر الجزر النيلية ــ بين الأمن ومواطنيها كاشفة لأوجه خلل جسيمة لا سبيل لإنكارها.
أخطر أوجه الخلل غياب أيّ قواعد قانونية وإجرائية سليمة ومنضبطة تضمن حق الدولة في استعادة أيّ أراض مملوكة لها جرى التعدي عليها من دون إخلال بحق سكان الجزيرة، وغالبيتهم الساحقة من الفئات الأكثر فقراً وعوزاً، في ما يحوزونه من بيوت ليس لهم ما يؤويهم غيرها.
لم يجرِ تمهيد لقرار الإزالات ولا استبيان لحقائق الموقف، وجرى الاحتكام إلى قوة الدولة المجردة باسم الحفاظ على هيبتها. من دون مقدمات وجد أهالي الجزيرة قوات أمن تقتحمها بعد حصارها بالكامل و«البلدوزرات» تبدأ بهدم بيوت قيل إنها تعديات على ممتلكات الدولة.
حدث ما حدث من صدامات بالطوب والحجارة مقابل قنابل الدخان، وبدا المشهد كله أقرب إلى حروب شوارع استخدمت فيها أسلحة نارية، فسقط قتيل وأصيب العشرات من الأهالي ورجال الشرطة. اختلطت الدماء على شاطئ النيل من دون أن يكون هناك مبرر: لماذا هذا كله؟ ومن يتحمّل المسؤولية؟ وكيف صدر قرار الإزالات العشوائية؟ ولماذا اعترفت جهات عديدة ــ بعد الواقعة لا قبلها ــ بأنه لم تكن هناك دراسات كافية عن الملكيات؟ في غياب الحساب السياسي تكاد الأسئلة تتبدد، كأن ما حدث في «الوراق» مما يمكن تجاوزه بقرار إداري أوقف الإزالات مؤقتاً من دون أن يفصح عن خطوته التالية، وإذا ما كان الملف أغلق أم أننا قد نجد أنفسنا من جديد أمام مشاهد دموية أخرى. هناك فارق جوهري بين استعادة أراضي الدولة المغتصبة والاعتداء على ممتلكات المواطنين من دون تعويض باسم تطوير الجزيرة والاستثمار السياحي فيها؛
الأول، مشروع وله حجة لا شك فيها في تأكيد هيبة الدولة. والثاني، عسف يناقض أيّ قانون وكل عدل ويسحب على المفتوح من أي رصيد، فلا هيبة تتأسس على تنكيل.
بالمستندات والعقود وفواتير المياه والكهرباء وأحكام قضائية باتّة ملكية الأهالي ثابتة باستثناءات يسهل حصرها وإنفاذ القانون عليها.
حسب أغلب التقديرات، فإن أملاك الدولة في الجزيرة النيلية لا تتجاوز ٦٠ فداناً من مساحتها التي تبلغ نحو ١٨٠٠ فدان، ونصف ما تملكه مؤجّر للمواطنين بحق الانتفاع.
لم تكن هناك مشكلة في استبيان الحقيقة والحوار السياسي والمجتمعي وكشف ما لدى السلطات المحلية من مشروعات تطوير وتعويض الأهالي بصورة مناسبة إذا ما اقتضت المصلحة العامة هدم منازل وتوفير بدائل ملائمة لمن تثبت عليهم مخالفة القانون، فقد تقادمت عليهم عشرات السنين في المكان. غير أن إغواء القوة غلب أيّ اعتبارات لها صلة بالرشد السياسي.
لم تكن هناك حجة للعقود والمستندات والأحكام القضائية بقدر ما كانت لأسباب غامضة استدعت العجلة في الإخلاء بالقوة.
غابت المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية عن نحو ٦٠ ألف مواطن قد لا يجد بعضهم مأوى، واختفت الشفافية في كل المداخلات الرسمية عن تطوير الجزيرة. شاعت تساؤلات عن حقيقته، وإذا ما كان هناك مستثمرون ورجال أعمال وراء القرار المفاجئ بالإزالات.
في التساؤلات تعبير صريح عن أزمة ثقة في السياسات المتبعة وشكوك في أن هناك من يستضعفهم بسبب فقرهم وقلة حيلتهم. وردت مقارنات بين العنف الذي استخدم مع أهلها والتسوية التي جرت في حالات أخرى تنتسب إلى عوالم الأثرياء لتؤكد شعوراً بالغبن الاجتماعي والتمييز على أساس الثروة.
هذا وجه خطير لأزمة «الوراق» تمتد وطأته إلى قطاعات واسعة من المصريين تنتظر بصور أخرى مصيراً مماثلاً. التمييز الاجتماعي عواقبه وخيمة على التماسك الوطني الضروري أمام تحديات وجودية. إذا لم يشعر عامة المواطنين بأنهم أصحاب مصلحة في تثبيت الدولة، فكل شيء تحت حدّ الخطر، والجريمة الجنائية مرشحة للتفاقم، والثقة العامة بالمستقبل سوف تتراجع بفداحة. قوة الدولة في مدى ما توفره من رضا عام وثقة بالمساواة أمام القانون.
إذا غابت دولة القانون فكل شيء مباح، وما جرى في «الوراق» جرس إنذار يدوي في المكان. تحت وطأة الشعور بالتمييز الاجتماعي أبدى أهلها قدراً عالياً من إرادة المواجهة، كأنهم أرادوا أن يقولوا: «لسنا ضعفاء إلى هذا الحد». في خلفيات ما جرى أناس عاديون أرادوا أن يثبتوا جدارتهم الإنسانية وحقهم الطبيعي في أبسط متطلبات الحياة ــ أن يكون هناك سكن يُؤوى إليه.
قضية جزيرة «الوراق» لها تاريخ عكست المحاكم بعض فصوله ولخّصت الدراما التلفزيونية بعض مشاهده.
لا شيء جديداً باستثناء أن هناك من تصور أنه بالقوة وحدها يمكن إخضاعها لمصلحة مجموعة من المستثمرين. وكانت النتائج كارثية على هيبة الدولة.
رغم ما ينسب للأمن من تجاوزات، فإنه إحدى الضحايا السياسيين لهذه الأزمة. بلا غطاء سياسي، لا أمن بمقدوره أن يؤدي أدواره الطبيعية. وبلا غطاء شعبي، هو في حالة انكشاف كامل. في أزمة «الوراق» دفع بالأمن إلى المواجهة بلا تمهيد ولا تخطيط ولا دراسة تحت ستار كلام غائم عن هيبة الدولة. هيبة الدول تحفظها قواعد العدالة والقانون لا اقتحام الكتل السكانية بالمدرعات والبلدوزرات وفرض الحصار البحري على أهلها من دون تحسّب للنتائج.
أيّ دولة عاقلة تطلب استقراراً لا تقحم أمنها في صدامات مجانية مع مواطنيها.
للقوة حدودها، والإفراط في استخدامها علامة سلبية على مستوى الأداء العام.
الأمن ليس بديلاً من السياسة، تكفيه وزيادة مهماته في مواجهة الجريمتين الإرهابية والجنائية المتفاقمتين. أيّ تغوّل زائد سحب من رصيد أيّ دعم شعبي يحتاج إليه أمام الاستهداف المنهجي لضباطه وجنوده في الحرب مع الإرهاب. بالعشوائية تضررت هيبة الدولة واضطرت إلى وقف الإزالات إلى حين إشعار آخر.
التوقف إجراء صائب بذاته، وأطراف عديدة غسلت أيديها سريعاً من المسؤولية، كأن الأمن تحرك من تلقاء نفسه. التصريحات الرسمية تكاد تكون مأساة سياسية كاملة، فالكلام متناقض ومرتبك، بعضه يعزو الأزمة إلى جماعة «الإخوان» ومتطرفين، وبعضه الآخر يتحدث عن مندسين وبلطجية، من دون أدنى استعداد للاعتراف بأن هناك كتلة سكانية يستبد بها الشعور بالظلم وتخشى التشريد، وبعضه الثالث يكاد يستهتر بأي عقل، كقول وزير الري إن «حملة الإزالات إجراء استباقي يهدف إلى حماية الأهالي من الغرق عند ارتفاع منسوب المياه في النيل» ــ كأن الحماية تستدعي التشريد والإنقاذ يتطلب حصار الجزيرة بالمدرعات.
الفرضية نفسها غير واردة بالنظر إلى بدء ملء سدّ «النهضة» الأثيوبي وما قد يعانيه النيل من شحّ مياه يؤثر على إنتاجها من المحاصيل الزراعية.
كان أولى بالوزير أن يصارح شعبه بحقائق ما يجري الآن في أزمة سد «النهضة» بدلاً من الاستغراق في نظرية إنقاذ أهالي «الوراق» من الغرق.
في أزمة الجزيرة تبدّى فادحاً انكشاف الخطاب السياسي وفقر مفرداته وعجزه شبه الكامل عن إبداء رواية متماسكة لما جرى من صدامات، وكاد يلامس الحركة في الفراغ. بالقدر ذاته كان انكشاف الخطاب الإعلامي مأسوياً في مستوى التغطيات، بعضه مال إلى التبرير، وأغلبه تجاهل الحدث كله. هكذا أخلى الإعلام المتداعي مواقعه لشبكة التواصل الاجتماعي، التي اهتمت بالحدث وتطوراته على مدار اليوم الدموي. بتلخيص ما، فإن أزمة «الوراق» كاشفة لأوجه الخلل في الأداء العام، وكلها مزعجة.
* كاتب وصحافي مصري