إن أي تناول صادر عن وعي وتفكير منطقي لموضوع الخيال، كثيراً ما يعطي للحياة صورة زائفة لا حرارة فيها. وهذا شيء لا ينفعنا في الفن وخاصة على خشبة المسرح، لأن ما يتطلب من الممثل أن ينسجم بكل طبيعته إيجابياً في ما يقوم به، وأن يكرس نفسه جسداً وروحاً للدور الذي يؤديه، لأنه لا بد من أن يشعر بالدافع أو المادة، ليستطيع بطريقة انعكاسية أن يؤثر في المتلقي. هذه الملكة ذات أهمية عظيمة في مهارات الممثل العاطفية. لذا فإن كل حركة يقوم بها، وكل كلمة ينطقها هي نتيجة لمسار الحياة الصحيحة، وحيوية خيال الممثل الذي يستمده من تراكماته الواقعية، وخبراته الثقافية واطلاعه، ومقاربته شخصيات عدّة في الحياة.
ما سبق يعتبر بنية إحدى القواعد الهامة للاشتغال على الخيال واستلهامه من الحياة وفقاً للمنظر الأوّل في فن التمثيل قسطنطين ستانسلافسكي (1863/1938) ولا بد من أن هذه القاعدة تنطبق على العديد من الممثلين السوريين. لكنها تتلاءم بتطابق حاد مع مقاسات موهبة ممثل كنضال نجم (1973) الشاب الأسمر، وصاحب خامة الصوت العميقة التي تترك انطباعاً بالغاً عند تطويعها لصالح الأداء، بطريقة تتفوّق على ردات الفعل وحركات الجسد، تلاشى كلياً عن الشاشات السورية مع اندلاع فتيل الحرب.
امتثالاً لحرص وخوف والدته المبالغ فيه عليه، قرر سنة 2012 أن يرحل عن «عاصمة الأمويين» مدينته المحببة إلى قلبه. فرغم أنه درس في معهدها العالي للفنون المسرحية، وتتلمذ على يد أبرع أساتذتها، ومن ثم صاغ نجوميته في أشهر أعمالها، وحفر ذكرياته في ساحاتها ومقاهيها، لكنه ينتمي من حيث الأصول إلى فلسطين المحتلة والمملكة الأردنية، حيث لا تزال تقييم عائلته إلى الآن. احترم نجم «وشاء الهوى» (يم مشهدي وزهير قنوع-2006) رغبة أمه التي تربطه بها علاقة عاطفية عميقة، وشدّ الرحال إلى «هوليوود الشرق» تاركاً تاريخه خلفه، رغم أنّه كان في عزّ نقلاته النوعية، وحضوره الجماهيري الخاص وسنوات عطائه الغزيز. اختار الإقامة في مصر. هناك يقيم أبناء بلده وأساتذته، وقد اقتنص السوريون صولتهم وصار بعضهم مخولاً للترشيح ومنح الفرص. إلا أن «النجم» انكفأ، وبقي وحيداً رغم أنه لعب على مدار حياته أكثر من ثلاثين بطولة تلفزيونية، وعشرات العروض المسرحية، لم تمتد له يد واحدة ولو من أبناء بلده، إضافة إلى المزاج العام الذي يسيطر على المنطقة العربية. كل ذلك جعل نجم «الدوامة» (عن «الضغينة والهوى» لفواز حدّاد سيناريو وحوار ممدوح عدوان وإخراج المثنى صبح) يغيب عن مشاهديه. هكذا، قرر أخيراً العودة إلى أرضه وجمهوره. طار إلى بيروت، ومن هناك تلقّفه رفيق دربه المخرج الفلسطيني السوري المثنى صبح وسلكا معاً خطّ الشام. في شوارع المدينة التي تقهر الحرب بازدحامها اليومي، استرجع نضال حياته العامرة بالتفاصيل، ولم يمسك نفسه عن التأثر البالغ، تزامنا مع «حصاره» بجمل الترحيب من كل حدب وصوب. بعد قليل، تحوّلت مقاهي حيّ الشعلان لما يشبه الكرنفال الفني الذي أخذ على عاتقه مهمة الترحيب بالزميل العائد بعد غياب. لم يتغيّر في الرجل شيء سوى أنه صار أكثر رشاقة بدنية. ما زالت طاقته في إضحاك كلّ من حوله في أوجها. قدرته على التقليد وسبك الكوميديا في أعتى درجاتها، لكن حيله في سحب البساط من تحت أقدام مجالسيه، لصالح حنكته في صناعة الطرفة تعمّقت أكثر. الإجماع على خفة ظله واستحقاقه للنجومية من جديد أمر لا يختلف عليه اثنان. فعلياً كأن دمشق يوم أمس من «بابها إلى محرابها» ومن بوابة «جديدة يابوس الحدودية» حتى أصغر حارة فيها كانت تقول: «مرحبا بعودتك... نوّرت يا نجم»