مجتمع «النّجوم»
لدى صديق نظريّة عن أنّك، في لبنان، حين تتعامل مع طبقة النّخب والنّجوم الذين يملأون المجال العام ــــ مراسلو القنوات التلفزيونية، «الناشطون» الذين يعملون في منظّمات غربيّة، الإعلاميون في الصحافة الخليجية، والجمهور الصغير الذي يتحلّق حولهم ويتمنّى أن يصير مثلهم ــــ فإنّه لا يجب أن تنظر اليهم على أنّهم «أفراد»، يكوّن واحدهم رأيه باستقلاليّة وقناعة، بل يجب أن تعاملهم على أنّهم «حزب»، بل لعلّهم الحزب السياسي الوحيد، والأكثر تنظيماً، في لبنان (وفي كلّ بلدٍ عربيّ تنشأ نسخٌ مشابهة عن هذا المجتمع، وإن بأوزانٍ مختلفة؛ فبيروت صغيرة، يمكن أن تشتري فيها جلّ المدينة وناشطيها بأقلّ من ألف وظيفة).

هم يتكلّمون، جميعاً، عن القضايا ذاتها، ويأخذون الموقف نفسه، ويقرّرون جماعياً ما هو موضوع النّقاش اليوم، واين هي «الفضيحة»، وما هي النكتة، ومع من سنتعاطف هذا الأسبوع، وصولاً الى المرشّح الذي نريده في الانتخابات الأميركية. الكلّ قد يردّد، مع الجوقة، «بيان اليوم» والحجّة نفسها وهو مقتنعٌ بأنّه يأخذ موقفاً «مخالفاً» ويعبّر عن فردانيّته، فيما هو يمارس «طقساً» حزبياً، وشعائر ولاء وانتماء. الوهم الآخر ــــ من الجّهة المقابلة ــــ هو أن تأخذ هذه الحملات المنظّمة ببساطةٍ وطيبة، وتناقش مطلقيها بافتراض حسن النيّة فيما هي لا تمثّل ــــ حتّى الكلام والنكات على «فايسبوك» ــــ الّا جزءاً من حربٍ ثقافية وسياسية مستمرّة.
بل أنّ هناك من يأخذ هذه الفكرة خطوةً اضافيّة فيقول حسن الخلف أنّه، في مجتمعات الجنوب، تولد «فقاعات» نخبويّة، متّصلة بالمركز الغربي مادياً وسياسياً وثقافياً؛ وهذا المجتمع «الغرباوي» لا يمكن تشبيهه الّا بأنّه «دينٌ جديد»، لأفراده الذين ينتمون اليه نمط حياةٍ خاصّ، وآراء سياسية متشابهة، ويتشاركون شبكة علاقاتٍ وعمل، ونظرة الى العالم تختلف عمّن هو خارج هذه «الجماعة». الخطاب السياسي الذي يحمله هؤلاء قد يبدو اشكالياً ومتناقضاً لمن هو خارجه (ما العلاقة، مثلاً، بين أن تكون لديك حساسية ليبرالية وأن تخدم سلالات الخليج؟)، ولكنّه منطقيّ ولا يطرح اسئلة بالنسبة لمن يمارسه. منطقهم السياسي يقوم على «سلّة» من الفرضيات، منتشرة منذ عقودٍ بين نخبنا، أكثرها يبدو صحيحاً ومتّسقاً شكلياً لو لم تدقّق فيه («مشكلة بلادنا هي في هؤلاء الثوريين الذين أشعلوا الحروب وخرّبوا كلّ شيء»، «الاشتراكية دمّرت بلادنا الجميلة»، «المقاومة تستجلب الاحتلال»، «ستتحرّر فلسطين حين يقتنع العالم بأننا على حقّ وأناسٌ جيّدون» الخ). لهذا السّبب، يضيف الخلف، قد لا يكون من المجدي النقاش مع بعضهم بالحجّة والاقناع، فهم يحملون نظرة متكاملة الى العالم والسياسة والتاريخ (وهي نظرة «خاصّة» بهم، من سرديتهم عن سقوط اليسار في لبنان الى تأريخهم للحرب السوريّة) هي قويّة ومتماسكة ــــ لا بمعنى أنّها معقّدة وعميقة، بل هي بسيطة وانتهازيّة ولكنّ قوّتها تتأتّى، تحديداً، من بساطتها وانتهازيتها.
حين نتكلّم على «النّخبة» هنا، فنحن لا نقصد التعبير بالمعنى الايجابي، أي أن هؤلاء أفرادٌ يتمتّعون بقدرات ومواهب تميّزهم عن «العامّة» وتضعهم في الضّوء؛ بل بالمعنى المعاكس، أيّ أنّ هؤلاء هم الذين انتخبهم النّظام (بفضل الولادة أو التسلّق أو الامتياز الطّبقي) وجعلهم نجوماً وأعطاهم منصّة ليملأوا الهواء (أو «امتياز النشر»، بحسب تعبير السوسيولوجي رائد شرف) ووظائف مجزية لا يحلم بها أكثر مواطنيهم أو من هم في مستوى تعليمهم وكفاءتهم. الأساس المادّي هنا لا يمكن تلافيه، فهذا المجتمع «الليبرالي المعولم» لم يولد نتيجة تغيّر في الأمزجة والايديولوجيا، بل هو نتاج استثمار مئات ملايين الدولارات سنوياً، وعلى مدى أعوامٍ طويلة، في بلادٍ تفتقر الى الفرص وامكانيات العمل (الى جانب المال السياسي والاعلامي، هناك في لبنان حالياً أكثر من 7,000 منظّمة مسجّلة، أكثرها لم يكن موجوداً منذ عقدين، وهي قد تشكّل أحد أكبر القطاعات الاقتصاديّة في لبنان بعد المصارف والعقارات. منظّمات مثل «أطباء بلا حدود» أو «الصليب الأحمر الدولي» توظّف الواحدة منها مئات الأفراد في بلدٍ صغير، أي أكثر من أيّ مصنعٍ أو مصلحة اقتصاديّة؛ والحملات الاعلانية الضّخمة، التي تدفع مثل هذه المنظّمات أكلافها من المنح والتمويل الخارجي، لا تقدر عليه أكثر الشركات في الاقتصاد اللبناني الراكد).
في القرن الماضي في دول الجنوب، كنت كثيراً ما تجد شكلين من النّخب «الحداثيّة»: مجتمع نخبوي مرتبط بالمخيال الاشتراكي والثوري، يرعاه الاتحاد السوفياتي ويموّل أحزابه وتعليمه، وهذا «المجتمع» يدعم أنظمةً معيّنة ويملك نظرةً الى السياسة الدولية، مقابل نخبةٍ «ليبرالية» قريبة الى الغرب، لها ايضاً تفضيلاتها الايديولوجية والسياسية. أمّا في عصر الهيمنة، فلم يعد هذا الازدواج قائماً، وأصبح السعي الى التماهي مع المركز الغربي يأخذك، مباشرةً، الى الليبرالية والمقاييس الأميركية وخطاب المنظّمات الغربيّة. الحزب الشيوعي اللبناني، مثلاً، كانت له قوّة وحضور ثمّ خفت لا لأسبابٍ تنظيمية أو ذاتيّة، بل لأنّه كان هناك اتّحادٌ سوفياتي، يموّله ويبني له مراكز ومشافي وجمعيات، ويرسل آلاف الطلاب في منح للدراسة، ويعطيه مكاناً في المجتمع ويزوّده بالايديولوجيا والتكتيك، بل ويسلّحه عند الحاجة؛ ثم سقط الاتّحاد السوفياتي و»الأنظمة الثورية» ولم يتبقّ من مموّل خارجيّ (ومثالٍ عن الحداثة والرفاه وأسلوب الحياة الذي نريد استنساخه) سوى اميركا والاتحاد الاوروبي والخليج.

حنة آرندت والخيار والفعل

بالمعنى الديمقراطي، فلسفة حنّة آرندت في السياسة رجعيّةٌ اقصائيّة. حين كنّا نقرأ آرندت مع الفيلسوفة الأميركية وندي براون، كانت تحذّرنا من أنّ قراءتها «مؤذية»، فأنت تصارع نفسك طوال الوقت حتّى ترفض ما تتلقّاه رغم اتساقه وجماله النّظريّ. بالنسبة الى الفيلسوفة الالمانية، فإنّ كلّ الأفكار «المساواتية»، التي تعتبر أنّ للجميع الحقوق نفسها، ويجب أن يشاركوا بالمقدار ذاته في اتّخاذ القرار السياسي، وأنهم يمثّلون كلّاً اسمه «الشعب» أو «الأمّة» يستوون فيه، هي كلّها أفكارٌ خطيرة لن توصل الّا الى مجتمع «توتاليتاريّ» على هيئة الفاشيّة أو الشيوعيّة (العدوّان الأساسيان لآرندت). مستلهمة الفلسفة الافلاطونية، قسّمت آرندت (في «The Human Condition») المجتمع الى دوائر ثلاث، لكلّ منها منطقها الخاص ولا يجب، في عرفها، أن تختلط. هناك من يعمل بيديه، وهناك من يعمل بعقله (كالمهندس والمخطّط والبيروقراطي) وهناك، في المنتصف، دائرة «الفعل» ــــ حيث يفكّر النّاس فعلاً بحريّة، ويجرّدون القضايا ويحكمون عليها فلسفياً. وهنا يجب أن يكون، حصراً، مكان السّياسة، ويجب أن يُقفل على هذا «الحصن» ويُمنع اختلاطه بباقي دوائر المجتمع. المشكلة التي حذّرت منها آرندت هي أنّه، مع صعود النزعات الديمقراطية المساواتية، والامتناع عن بناء «ارستقراطية سياسية»، يسود منطقٌ «أداتي» و»حسابي»، يريد أن يعقلن مجال السياسة بمنطق العمل، وأن يصنع نظاماً لا مكان فيه للاستنسابيّة والقرار البشري، فينتفي مجال «الفعل» وتدير المجتمع عقليّة «ميكانيكية»، تخسر فيها السياسة سيادتها ويُدار المجتمع فيها بلا عقلٍ مفكّرٍ حاكم، ويصبح السياسيّ محض موظّفٍ و»مسيِّرٍ» للنظام.
الّا أنّ هناك في كلام آرندت ما هو وثيق الصّلة بنخبنا وسلوكها. فكرة أن تكون «عضواً» في النّادي المعولم، وجزءاً من برجوازية محلية مرتبطة بالغرب أو بالخليج، هو الموازي للمنطق «الأداتي» الانتهازي حيث لا يعود السياسة مجالٌ للتفكّر والخيار و»الفعل» وكسر المألوف، بل تتبّع واستنساخ لمنطق القوّة في العالم، ورغبة السّلطة التي تموّلك، وتوافق «النادي» الذي تنتمي اليه. نمطٌ يختلط فيه الكسب الفردي والطموح الطبقي مع الرأي «الصحيح» والخيارات السياسية. حتّى مفهوم النّجاح والفشل لدى نخبنا هذه يختلف عن السّائد، فهم ــــ في كثيرٍ من الحالات ــــ يعرفون جيّداً أنّ مشاريعهم لن يكتب لها النّجاح وأنّ القيم التي يروّجون لها (وهي، كما يشرح جوزِف مسعد، استنساخ لثقافة الطبقة العليا في الغرب، يتماهون معها ويقدّمونها على أنها ثقافة «كونيّة») ستبقى أقلويّة ولن تنتشر في عموم المجتمع. غير أنّ هذا كلّه لا يعني فشلاً لهم، فاستمرارهم واستمرار وظائفهم ومواقعهم يرتبط بلعب دورٍ معيّن لصالح الأقوياء، لا بنجاح رهانهم السياسي، وهم أساساً لا «يحتاجون» لشعبهم وتأييده أو للمؤسسات المحلية في مجتمعهم. هم نتاجٌ للهيمنة وليسوا مهيمنين. حتّى بروز هذه الفئات على المسرح السياسي، في لحظاتٍ مفصليّة، لا يكون من فعلهم، بل هم ينتظرون على الدّوام سياقاً سياسياً يتمّ «استخدامهم» فيه، مثل 14 آذار 2005 أو الحرب السوريّة أو الحرب الأميركية المستمرّة ضدّ المقاومة؛ وهنا ايضاً أنت تلعب دوراً مرسوماً سلفاً، لو لم تقم به لاستخدموا غيرك ببساطة، وهو أبعد ما يكون عن الفردانية والاعتراض والرأي السياسي المستقلّ.
في لبنان، حيث المؤسسات الوطنية أضعف من غيرها، والتنافس على الموارد أكبر، والاستثمار السياسي الخارجي حاكم، وصل هذا «الحزب» الى حالة متطرّفة من الوضوح. سياسياً، كلّ جهود هذه النّخبة ــــ على تنوّع فئاتها ومموّليها وادّعاءاتها ــــ تلتقي في مكانٍ واحد: الحرب على المقاومة. هي الأولوية بالنسبة الى الخارج، وهي تالياً بطاقة دخولك الى «مجتمع النجوم». من هنا شاهدنا، في السنوات الماضية، لبنانيين يشاركون في التحريض على أبناء جلدتهم فيما السيارات المفخخة تنفجر في مدنهم، وليبراليين يدعمون منظّمات اباديّة، و»شركاء في الوطن» ينخرطون ــــ علناً ــــ في الحرب الخليجية على بلادهم ومقاومتها. هؤلاء أنفسهم ينتفضون ويشعرون بـ»التهديد» والفضيحة حين يشرح لهم أحدهم أنّ الأفعال لها نتائج، وأنّه ليس من المنطقي أن تكون جزءاً من حربٍ علينا، وأن تستدعي لنا الاحتلال والدّمار، وأن تتوقّع أننا سنعاني التهجير والقتل والفوضى وحدنا، فيما تظل انت سالماً و»صاحب رأي»، لا علاقة لك بما يجري. أحداث الأيّام الماضية في جرود عرسال كانت تكراراً لنمطٍ اضحى مألوفاً: النخبوي التابع سيحارب المقاومة، وينتج البروباغاندا ضدّها، ولو كان عدوّها تنظيمات «القاعدة» و»داعش» أو اسرائيل. هو يسلّح نفسه بفوقيّة زائفة ويعتقد أنّه، بسبب راتبه الكبير وسفراته الكثيرة ونجوميته ونمط حياته، «يعرف أفضل». ولكن الصورة التي لا يراها هي أنّه، على مدى العقود الماضية، ظلّ أمثاله يقفون على الضفاف، وينتقلون من مموّلٍ الى آخر ويراكمون «التجارب»، فيما شبابٌ من جيلهم ومن موطنهم قد حملوا السّلاح وانتظموا في مشروعٍ حقيقيّ و»فعلوا» وغيّروا التاريخ. الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي قد تداعب نرجسية المرء، ويتوهّم أنّه حقّاً فاعلٌ ومستقلّ، ولكنّ الحقيقة هي أنّ وجوده أو غيابه سيّان. من جهةٍ أخرى، فإنّ كلّ مقاومٍ أخذ «الخيار» الحقيقي، وتجرّد من المقاييس الطبقية التي تحكم بلده، وشارك بدمائه في صنع واقعٍ جديد ــــ من جنوب لبنان الى العراق ــــ قد حجز، حيّاً أم شهيداً، مكانه الخاص في التّاريخ؛ وهنا معنى السياسة والفعل والوجود.