هنا، في الطابق السفلي لمُستشفى رفيق الحريري الحكومي، كانت تعمد رئيسة قسم الصيدلية في المُستشفى، منى بعلبكي، لسنوات طويلة وعلى مرأى من بقية الصيادلة، إلى بيع أدوية لمرضى المُستشفى لمصلحة «جيبتها الخاصة». يقول أحد العاملين في الصيدلية لـ «الأخبار» إن الصيادلة كانوا يُشاهدونها يومياً وهي «تُعبّي جيوبها من عمليات بيع أدوية في الصيدلية... كنا نسمعها وهي تتكلّم مع الأطباء وتطلب منهم تخفيف جرعات الدواء كي توفر عبوات لتبيعها لمصلحتها الخاصة، وكنا نراقبها وهي تبيع أدوية المُساعدات من حرب تموز المنتهية الصلاحية كي تستفيد منها أيضاً».
يُردّد هذا الموظّف أن ممارسات بعلبكي كانت علنية، وأن قرار الهيئة العليا للتأديب بعزلها من وظيفتها، الذي صدر منذ يومين، كان منتظراً منذ 2009، «يومها شكونا للإدارة هذه الممارسات، وطلبنا إجراء تحقيقات تنهي هذا الواقع».
يروي عاملون في المستشفى «المنكوب» أن بعلبكي فُصلت من وظيفتها احترازياً في عام 2009، وأحيلت على التفتيش المركزي في 13/11/2014، أي بعد مضي 5 سنوات من افتضاح أمرها، ولم يصدر قرار الهيئة العليا للتأديب إلا في 2 آب الماضي، أي بعد مضي 3 سنوات من إحالتها على «التفتيش»، و8 سنوات على افتضاح جريمتها.
يصرّ الصيادلة العاملون في المُستشفى على أنهم هم من اشتكى من بعلبكي، في محاولة لتبرئة أنفسهم من صيت التمسوا أنه قد يطاولهم. شأنهم شأن الكثير من الموظفين الذين استاؤوا من «صيت» المُستشفى الذي بات يلاحقهم. يقولون إن الدولة تأخرت في تلقّي شكواهم، و«إنها هي التي أسهمت في خلق نموذج بعلبكي التي كانت تتصرف وكأنها محمية، وإن أحداً لن يطاولها. بالنسبة إلينا سُررنا بمصيرها، ونأمل تغييراً جذرياً يطاول المُستشفى والصيدلية».
في هذا القسم من المُستشفى، حيث «ساحة الجريمة»، ينشغل الموظفون في «نبش» العوامل التي أوجدت بعلبكي. معظم هذه العوامل يصبّ في إهمال الدولة والمعنيين لهذا المرفق العام. يقول أحد الصيادلة إن أجهزة الرقابة في المُستشفى لم تتحرّك إلا بعد وقوع الجريمة «وشفنا بعد أديه لطلّعو القرار».
بحسب هؤلاء، إنّ مناقصات الأدوية السنوية متوقفة منذ عام 2011، هذا الواقع قضى بالارتهان لمزاجية بعلبكي، التي أُعطيت صلاحيات أكثر مما هو مسموح لها.
مصادر مُطلعة في المُستشفى قالت لـ «الأخبار»، إن الإجراءات الداخلية سمحت لبعلبكي بأن «تفتح قسماً خاصاً بها ومنفصلاً عن مصلحة المُشتريات. فباتت هي التي تفاوض الموردين وتقوم بتصحيح المخزون وغير ذلك». وتختم المصادر بالقول: «إن غياب العمل المؤسساتي في المُستشفى، وتغاضي الإدارات السابقة، سمحا لبعلبكي بأن تقوم بما قامت به».
يقول أحد الموظفين في المُستشفى إن بعلبكي «هي مثل صغير على ما يحصل في هذا المرفق. كلن هيك، وبكل الأقسام، وإذا ما غيّرو الهيكلية والتعاطي مع المُستشفى في كتار رح يموتوا».

سكرية: المناخ السياسي
الفاسد يُشجع على خلق
نماذج متكررة من بعلبكي

يُقدّر العجز المالي المتراكم للمُستشفى بنحو 100 مليون دولار، فيما يجري استحداث وظائف وتتداخل الصلاحيات وتهمّش الرقابة الداخلية ولا تجري عمليات التدقيق وتنشأ الثُّغَر بفعل الإجراءات الداخلية المخالفة للقوانين... كل ذلك يفتك بالهيكلية المؤسساتية لهذا المرفق. تُفيد المعطيات مثلاً بأن ديوان المحاسبة الذي يملك صلاحية الرقابة اللاحقة لم يُجرِ التدقيق الذي يُمنح بموجبه المدير العام أو المدير المالي براءة ذمة الإدارات المتعاقبة الماضية منذ إنشاء المؤسسة!
في الطبقة الأرضية للمُستشفى، يبدو وقع الجريمة «أعلى» على لسان العاملين هنا. يقول أحد الأطباء العاملين سابقاً في قسم السرطان في المُستشفى، إن الطبيب ر.ج.، شقيق نائبة سابقة ومسؤول في تيار المُستقبل والمشتبه في تورطه مع بعلبكي، «كان مشهوراً في المُستشفى بصفقات الأدوية التي كان يعقدها بالاتفاق مع بعلبكي». تُظهر المعطيات في هذا الصدد، أن الطبيب ر.ج. كان يعمد إلى إصدار وصفات طبية بأسماء عدد كبير من المرضى، فيما يكون العدد المُستفيد الفعلي من هذه الأدوية محدوداً جداً. بمعنى آخر، أشبه بـ «وصفات بأسماء وهمية» تهدف إلى الحصول على أكبر قدر من هذه الأدوية من مركز الأدوية المستعصية التابعة للوزارة، الأمر الذي أسهم في «تفريغ» المركز من الأدوية. هذا الأمر فضحته المُقارنة بين سجلات مستودع وزارة الصحة مع ملفات المرضى.
في إحدى الزوايا المحاذية لصالة الاستقبال، تقف مجموعة من الممرضات يتحدّثن عن «صندوق أسود» كانت توضع فيه الأموال المُحصَّلة من أدوية السرطان، ولم يكن يندرج ضمن حسابات إدارة المُستشفى، في إشارة إلى وجود متورطين آخرين كانوا يوزعون الأموال. إذ كان يأتي مرضى السرطان إلى المُستشفى طالبين أدوية لعلاجهم بسبب انقطاعها في مركز الأدوية التابع لوزارة الصحة، فيُعرض على هؤلاء أدوية «رخيصة» أو «مزورة» أو «منتهية الصلاحية» ويوهمونهم بأنها هي نفسها التي تُوزع في المركز، وتُعطى لهم تحت عنوان «إعارة»، مقابل دفعة يُقدمها المريض كـ «رهن» لإعادة الدواء فور توافره في المركز، وبالتالي بيعه لاحقاً لحساب المجرمين. تظهر المعلومات أن الأموال الناتجة من هذه العمليات الجرمية كانت توضع في صندوق، وكانت إدارة المُستشفى على علم به، ولم يكن يُدرَج ضمن الحسابات المالية الرسمية ولا أحد من العاملين في المستشفى لا يعرف مصير هذه الأموال ومن كان يستفيد منها وعددهم وهوياتهم.
لماذا لم تُثيروا هذه القضايا من قبل؟ يُسأل العاملون. بعضهم يقول إن المُتورطين «نافذون»، وغالبهم محميّون من قبل أحزابهم، وبالتالي لا حاجة لخوض معركة خاسرة، فيما يذهب البعض إلى لوم «الإعلام» الذي لا يُتابع القضايا التي تمسّ الناس مباشرة.
بحسب الدكتور إسماعيل سكرية، فإنّ المُستشفى الحريري الحكومي، أُسس على شكل مرافق الإدارات العامة «حيث لا ضوابط للفساد الذي تُغذّيه التدخلات السياسية». ويُضيف: «انطلق العمل في المُستشفى بإمكانات كبيرة جعلت الطامعين يعتبرونه بمثابة مشاع للتوظيف السياسي الذي استوطن في المستشفى وبات محكوماً فيه». ينطلق سكرية من هذه النقطة ليُشير إلى أن «المناخ السياسي الفاسد والملوث يُقيّد القضاء ويربط أيدي الأجهزة الرقابية. هذا المناخ من شأنه أن يُشجع على خلق نماذج متكررة من منى بعلبكي».
يأمل وزير الصحة العامة غسان حاصباني، أن تستكمل الإجراءات التأديبية بحق بعلبكي بسرعة، واعداً بأنّ أحداً «لن يفلت من العقاب». ولكن ماذا تنوي وزارة الصحة لمنع نماذج كثيرة من بعلبكي منتشرة هنا وهناك؟
يقول حاصباني، الذي عقد مؤتمراً صحافياً أمس، إن الوزارة بصدد القيام بمشروع «لنهوض المُستشفيات الحكومية»، لافتاً إلى أن مُستشفى الحريري مرفق عام يخضع لسلطات مجلس الإدارة. ولكن ماذا عن دور وزارة الصحة التي تُعَدّ سلطة وصاية؟ يقول سكرية إن وزارة الصحة تستطيع أن تلعب دوراً مهماً في مُساءلة الإدارات، «فلتسأل الوزارة عن سبب العجز المتراكم على المُستشفى. هذا أقل الإيمان».
من جهتها، اكتفت إدارة مُستشفى رفيق الحريري بإصدار بيان تعلن فيه أنها «على تعاون كامل مع القضاء اللبناني بشأن هذا الملف»، مُشيرة إلى أن «جميع الأدوية المستخدمة في المستشفى صالحة ومرخصة من وزارة الصحة العامة، وتؤكد قيام فريقها الطبي والتمريضي بكل الإجراءات اللازمة لحصول المريض على العناية الصحية والعلاج المناسبين، وأنها لن تتوانى عن القيام بواجباتها في تلبية الحاجات الصحية لمراجعيها».