لندن | كان اسمه الحركي في ملفات الموساد «الملاك». ورغم المحاولات البائسة للنخبة المصريّة الفاسدة تصويره بطلاً قوميّاً لمصر، فإنه سيذهب في التاريخ كأحد أهم جواسيس العدو الإسرائيلي الذين كشفت عمالتهم للعموم.
وصفته سيرة عبريّة صدرت عنه قبل عقد بالجاسوس المصري «الذي أنقذ إسرائيل» (انظر مقالة أسعد أبو خليل ـــ الأخبار 20/8/2016) لدوره في تنبيه الموساد عن ساعة الصفر للهجوم السوري - المصري على جبهتي الجولان وسيناء عام 1973. تروى عنه بطولات أسطوريّة في خدمة الموساد خلال فترة خدمة تجاوزت ربع قرن. كانت غولدا مائير تتدخل شخصياً مع وزارة المالية الإسرائيليّة للإفراج عن الدفعات الماليّة المبالغ بها التي يطالب بها مقابل خدماته. إنه أشرف مروان (1944 ـــ 2007)، زوج منى ابنة جمال عبد الناصر، وأحد أهم مستشاري ومبعوثي أنور السادات، والبليونير وتاجر السلاح وسمسار العقارات والأوطان المصري، الذي هوى إلى حتفه من شقته الباذخة في الطابق الخامس من برج سكني في قلب لندن قبل عشرة أعوام تماماً.
تقاطعت السرديات عن حياة مروان وموته. الاستخبارات العسكريّة الإسرائيليّة تتهمه بأنه زودها بمعلومات مغلوطة عن موعد الهجوم. أمر أعطى القوات السوريّة والمصريّة وقتاً ثميناً تسبب في تلقي الجانب الإسرائيلي خسائر كادت أن تطيح بالجولان كله على الجبهة الشماليّة مع سوريا بالتوازي مع اختراق خط بارليف على الجبهة المصريّة، غامزة بذلك من قناة الموساد الذي كان يدير «الملاك». الموساد في المقابل كان يرى في مروان أحد أهم أدواته، لتأكيد المعلومات القادمة من القاهرة عبر المصادر الأخرى (المتعددة) وكذلك التشبيك مع المخابرات السعوديّة لتنفيذ مخططات الموساد في إفساد نخب العالم العربي وإفشال أي جهود عسكريّة أو تصنيعيّة قد توظّف يوماً ضد إسرائيل.
وبينما صوّرته مصادر صحافيّة كسمسار نخبوي يحقق أرباحاً هائلة من خلال ربط الخطوط بين تجار السلاح والسياسيين ومختلف أجهزة المخابرات الغربيّة والعربيّة، تظاهر نظام حسني مبارك المرتبك بأن مروان كان بطلاً لا يشك في ولائه ونظم له جنازة رسمية ولفّ جثمانه بالعلم المصري.
لم تحسم بالطبع أي من هذه الروايات، وعلى الأرجح أنها جميعاً صور من زوايا مختلفة لسيرة الرّجل. لكنّ المؤكد أن الموساد يهمه تضخيم بطولات مروان وخدماته المزعومة لإسرائيل ربما كجزء من الحرب النفسيّة، لكن أيضاً للتغطية على جهود جواسيس وعملاء عرب كانوا – ولا يزال بعضهم – في أعلى مستويات الحكم في البلاد العربيّة، وأسدوا خدمات لا تقدر بثمن لتمكين المشروع الصهيوني في الشرق الأوسط. وحتى موضوع إنقاذ إسرائيل الذي نسب إليه لتحذيره تل أبيب من الهجوم السوري – المصري الوشيك عام 1973، فإنه لم يكن أكثر من تأكيد معلومات القيادة الإسرائيليّة التي كانت حصلت عليها مسبقاً سواء من جواسيس مصريين ومن الملك حسين وبالتأكيد من الجانب الأميركي الذي كان وراء تولية أنور السادات السلطة في مصر بعد وفاة عبد الناصر. السادات كان مضطراً حينها لشن حرب تحريك بهدف امتصاص الغضب المتصاعد في أجواء الجيش والشعب معاً بعد هزيمة 1967 المذلة. من دون ذلك، فإن موضوع الانقلاب عليه كان مسألة وقت لا أكثر، لا سيما أن عبد الناصر كان قد شرع في بناء قدرات الجيش المصري من جديد لشن حرب مضادة قبل أن يبعده موت غامض مبكر عن ساحة الأحداث.
السيرة الموساديّة عن حياة أشرف مروان ستتكرّس «حقيقة نهائيّة» في ما يبدو. تلك السيرة «المؤسطرة» كما كتبها الأكاديمي الإسرائيلي يوري – بار جوزيف (الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل) ستكون موضوع فيلم أطلق تحالف شركات إسرائيليّة للإنتاج الفني تصويره في لندن بداية تموز (يوليو) الماضي، بتمويل من «نيتفليكس» الأميركية التي ستحتفظ بحقوق بث العمل بالكامل، على أن يعرض العام المقبل. علماً بأن الموساد يدفع باتجاه إقناع «نيتفليكس» بعرض الشريط في قاعات السينما وعدم قصره على قاعدة البث الإلكتروني للشركة، كما هي الحال في جميع الأعمال التي تتولى إنتاجها الشركة بنفسها.

انطلق التصوير في لندن، على أن يعرض العمل في عام 2018


«نيتفليكس» التي ثوّرت عمليّة عرض الأفلام والمسلسلات في العالم وغيّرت طريقة تلقي الجمهور للأيديولوجيات المعلبّة بالإفادة من أحدث منتجات التكنولوجيا، تبدو على نحو متزايد كأنها تتقاسم ذات السرير مع الموساد. هي شرّعت أبوابها لتقديم وجهة النظر الإسرائيلية عن القضية الفلسطينية من خلال توزيع وإنتاج الأعمال الدرامية الإسرائيلية عبر العالم كله. هناك الآن مسلسل متعدد المواسم عن بطولات الموساد الإسرائيلي (موساد 101) وآخر عن انتصارات جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي «الشين بيت» (فوضى)... وكلّها تقدّم الإسرائيلي والفلسطيني على نسق الثنائيّة الأميركية الساذجة عن راعي البقر الطيّب والهندي الأحمر السّيئ، وتوصلها إلى جمهور أبعد بكثير من حدود الجليل والنقب. لكن الفيلم الجديد عن أشرف مروان سيكون بمثابة نقلة نوعيّة في التعاون بين الجانبين.
الموساد الإسرائيلي في علاقته مع «نيتفليكس» لا يبتدع جديداً في هذا المجال. فالبريطانيون جعلوا من السينما والأفلام الوثائقيّة على نحو مبكّر - حتى قبل ظهور التلفزيون - أدوات تكوين أيديولوجي لتشكيل وجهة نظر المواطنين حول المسائل المختلفة. أمر تفاخر به عرّاب الوثائقيات البريطاني جون غريرسون (1898 – 1972). كما أنه من المعلوم الآن أن المخابرات الأميركيّة منذ تأسيسها عام 1947 على علاقة حميمة مع صناعة السينما والتلفزيون الأميركيّة. من خلال أموالها ومستشاريها وخدماتها لها، توجه أعمال تلك الصناعة لإنتاج نسق من الحقيقة يكرّس الهيمنة ويحقق أغراض الدعاية الأيديولوجيّة للإمبراطوريّة. وهي في ذلك انتقلت من العمل السري قبل أحداث 11 سبتمبر إلى العلن بتأسيس دائرة مختصة بشؤون صناعة الترفيه اعتباراً من عام 1996 عينت على رأسها أحد كبار ضباطها تشيس براندون، وتتولى إلهام المخرجين وتوجيههم لما تحبه وترضاه، بل تصفية من يحاول منهم الخروج عن الخطوط المرسومة.
الموساد تعلّم من لانغلي (مقر وكالة الاستخبارات المركزية الأميركيّة) أصول اللعبة ووجد في «نيتفليكس» ضالته الأمثل لتمرير السرديّات الإسرائيليّة عن التاريخ القديم أو المعاصر وتمويل أعمال دراميّة بمستوى عالمي لإيصال تلك السرديّات إلى أوسع نطاق ممكن.
يتولى إخراج فيلم «الملاك» الإسرائيلي أرييل فرومن وسيلعب الممثل التونسي - الهولندي مروان كنزاري (1983) دور مروان بينما عُهد للممثل الإسرائيلي ساسون غاباي دور السادات. تقدم بقيّة الشخصيات الأخرى مجموعة من الممثلين المنحدرين من فلسطين 1948 إلى جانب ممثلين إسرائيليين وأوروبيين. وستكون الحوارات بالعربيّة أو الإنكليزيّة أو العبريّة بحسب السياق الدرامي.
التصوير يتم في لندن هذه الأيام في شارع يبعد أقل من ثلاثة أميال عن الشقة التي سقط منها مروان إلى حتفه، على أن يستكمل لاحقاً في كل من بلغاريا والمغرب.
إلى جانب سرد المحطات الرئيسة في الحياة المهنيّة للجاسوس (الملاك)، سيقدم الفيلم أجواء الصراع العربي الإسرائيلي في الستينيات، وكذلك النقاشات الحادة التي خاضها المجتمع الإسرائيلي بعد حرب الـ1973 وتركزت حول تقصير مزعوم في إدارة مجهود الحرب على نحو تسبب في خسائر بشريّة فادحة للجانب الإسرائيلي، في الوقت الذي كان فيه مجموع سكان «إسرائيل» لا يزيد كثيراً عن ثلاثة ملايين نسمة.
موت أشرف مروان يلفه الغموض تماماً كما حياته الطويلة العريضة. هو سقط من شرفة شقته في وضح النهار، وكانت معه في الشقة إحدى الخادمات. وقال شهود عديدون إنّهم شاهدوا الرجل يهوي بينما وقف رجلان تبدو عليهما ملامح شرق أوسطيّة يراقبان المشهد من تلك الشرفة قبل أن يختفيا. وقد اتسمت تحقيقات الجانب البريطاني بانعدام كفاءة غير مسبوق. إذ فقد المحققون أغراضه الشخصيّة واختفت من بيته ثلاثة مجلدات مجموع صفحاتها 600 صفحة يعتقد أنها كانت نسخة أولى من مذكرات شخصيّة قالت عائلة مروان إنه كان يعكف على تحضيرها للنشر. وجهت أسرة الجاسوس أصابع الاتهام للموساد باغتيال مروان، وقال بعضهم إنّ الرجل انتحر. لكنّ كثيرين يعتقدون الآن أنه قتل على يد المخابرات المصريّة بعدما أكدت مداولات محكمة إسرائيليّة قبل أيام فقط من سقوط «الملاك» أن مروان كان فعلاً ذلك الجاسوس المصري الذي تصفه أوراق الموساد بـ «الملاك».
ربما قدر أشرف مروان أن يكون في خدمة إسرائيل حيّاً، وهو برعاية «نيتفلكيس» هذه المرّة، سيكون في خدمتها ميتاً أيضاً. أي لعنة تلك التي ألمّت بنا؟