بين تحرير جرود عرسال وجريمة التلاعب بالأدوية السرطانية، صورتان متناقضتان. الأولى مفرحة برغم الإشكاليات التي تطرحها، والثانية قاتمة وصادمة في تهافت تعرية واقعنا المرير.
على أنَّ الصورتين، تتقاطعان في النهاية عند الأزمة الجوهرية للعالم العربي وخصوصاً في المشرق الغنيّ بالعصبيات، وهي أزمة الدولة وفشلها في أداءِ وظائفها ومواجهة تحدياتها، ما جعل المسار الموازي بين الدولة والقوى التي تنافسها، شئنا أم أبينا، أمراً واقعاً لا بل طبيعياً وسائراً نحو التشريع. ولهذه الأزمة طبقات متعددة:
في البدء كان الانكشاف الاستراتيجي أمام الهيمنة الإسرائيلية، والسيطرة الأميركية التي استفحلت في غزو العراق عام 2003 وتدمير الدولة والجيش، وبالتالي إطلاق العنان للعصبيات في تناحرها وللأداة الإرهابية التكفيرية لتمزيق المجتمع. هذا الانكشاف الذي تنامى بفعل سقوط النظام الإقليمي العربي، مهّد الميدان لصعود القوى المسماة في علم السياسة، بـ«القوى غير الدولتية Non State Actors»، أو «الميليشيا» بتعبير خصومها، لمشاركةِ الدولة في وظائفها وأبرزها احتكار العنف والدفاع عن السيادة. وامتدَّ هذا المشهد حتى إلى سوريا الذي ما تزال فيه الدولة على الرغم من كل الحرب ممسكةً بزمام الأمور، حيث اضطر النظام إلى تأسيس «الدفاع الوطني» وإشراك قوى خارجية وسورية غير نظامية في الحرب الدائرة.

الامتحان الأصعب هو
في التعاطي مع الواقع
السياسي والطائفي


وتتقاطع الطبقة الأولى مع طبقة الفشل في إدارة المجتمع بتنوعه، وسقوط المشروع الوطني للدولة في المساواة بين المواطنين وتأمين احترام الخصوصيات الثقافية للمجموعات. عندما تسقُط الرافعة الوطنية في مشروعٍ مدنيٍّ جامع، طبيعي أن تشرئب عصبياتُ المذاهب والطوائف والقوميات والعشائر، لتسيطِر وتُفتِن وتفكِّك، وتحاول فرض مشاريعها الخاصة والبحثَ عن ملاذٍ آمن إما في حلولٍ تقسيمية، وإما من خلالِ الهيمنة والإقصاء.
يؤمِّن هذا الواقع البيئةَ الحاضنة المُثلى لازدهارِ الفساد وتمأسُسه، فينخُر ويجوّف إلى درجة تصبح معه الدولة هيكلاً متزعزعاً، على ما بينته الحال العراقية التي تفوقت على التجربة اللبنانية في هذا المجال. وفي وقتٍ يكون هذا المجتمع المكشوف يواجه بدولتِه وبقواه غير النظامية الوحش التكفيري الذي يعربِد في جحور ظلاميته، تواصل مشنقة الفساد التفافها على جسده وعنقه.
هنا بالذات يكمن تحدي البندقية في ما بعد انتصاراتها على الإرهاب. فتحقيق الاستقرار الاستراتيجي الذي يقتضي مواجهة المشروع المتلطي بجماعات الإرهاب التكفيري، هو مهمة جلّى من ضمن بناء السقف الذي يحمي مجتمعاتنا المنكشفة ودولَنا الضعيفة.
لكن هنا، التحدي مختلف. يصبح «العدو» أرقاماً مخيفة من نوع وصول الدين العام إلى ما يناهز المئة مليار دولار، وتهديداً بانهيار الضمان الاجتماعي لمئات آلاف المواطنين، وتصاعداً في نسبة البطالة، وضعفاً في منظومة القضاء. الامتحان الأصعب هو في التعاطي مع الواقع السياسي والطائفي الذي يحمي السفاحين الذين أمعنوا فينا قتلاً وتشنيعاً، على ما أظهرته مأساة التخلف عن محاسبة قاتلة مرضى السرطان ومعاقبتها.
إنها أزمة كلمةٍ واحدة هي «الدولة». والدفاع عنها لا يكون إلا بالتمسك بمشروعِ دولةٍ عادلة فاعلة وعن أدواتها الكاملة، لأن مشاركة إحدى وظائفها لن تؤمن سوى حماية جزئية، على أهميتها. فإذا نجونا من نار الإرهاب، لا يعني بالضرورة نجاتنا من إرهاب فساد، أقسى وأقوى وأكثر قدرةً على التكيف والتخفي. وإذا طالت المعالجة، قد ينزل المقاتلون من الجرود فلا يجدون إلا يباساً وانهياراً عظيماً.
*صحافي وباحث سياسي