تتمركز فرق بحثيّة في «المركز الأوروبي للأبحاث النوويّة» CERN، الذي توجد مختبراته ومراكز أبحاثه ومعجّلات الجزيئات الضخمة الأكبر في العالم التابعة له تحت مدينة جنيف السويسريّة في شبكة متداخلة من الأنفاق. ورغم تمركزها على بعد مئات الأمتار فقط في منشأة بحثيّة واحدة، إلّا أنّ لكل من هذه الفرق أدواته ومقارباته وطرقه لرصد ودراسة المادة المضادة بالاستناد إلى خصائص فيزيائيّة مختلفة، ممّا يجعلها عمليّاً مستقلّة عن بعضها وتدخل في حالة تنافس وتعاون في آن من أجل استكشاف ما خفي عن العلم حتى اليوم حول هذه المادة المضادة الغامضة.
إنتاج المادّة المضادة

في مختبرات CERN يوجد الجهاز الوحيد في العالم القادر على إنتاج جزيئات البروتون-المضاد، وهو مثيل البروتون العادي الموجود في نواة الذرّات وله نفس وزنه وكافة خصائصه الفيزيائيّة لكنّه يحمل شحنةً (-1) بدلاً من الشحنة الإيجابية التي يحملها البروتون. ويتم إنتاج هذه الجزيئات في معجّل دائري يبلغ محيطه 182 متراً، ثم يجري إطلاق البروتونات المضادة بسرعة الضوء لتتباطأ تدريجيّاً قبل اصطدامها بمكوّنات المادة المحيطة وفنائها معها مطلقةً كميةً من الطاقة. في هذه الفترة الزمنيّة القصيرة، على الفرق البحثيّة رصد كل خصائص المادة المظلمة بمساعدة أجهزة استشعار وكاشفات فائقة الدقّة، وحواسيب عملاقة تقوم بتسجيل كل الدفق المعلوماتي ليقوم الباحثون بدراستها، كلّ من زاوية بحثه. وخلال السنوات الماضية حصلت تطورات مهمة، حيث أصبح العلماء قادرين على معرفة وفهم خصائص الذرّة المضادة الأصغر وهي الهيدروجين المضاد بعد جهود استمرّت لعقود.

مسائل أساسيّة مبهمة

لكنّ السؤال البحثي الأعمق، وهو من المسائل الكبرى في الفيزياء وعلم الفلك التي ما زالت بحاجة إلى تفسيرات، يبقى قائماً دون إجابات ويبقى هو الهدف النهائي من الأبحاث. فوفق نماذج العلم حول تشكّل المادّة في اللحظات الأولى من عمر الكون، لا توجد أية أفضليّة لتشكّل المادة أو المادة المضادة، ما يعني ضرورة تشكّلهما بكميات أو نسب متساوية.

الجهاز الوحيد في العالم القادر على إنتاج جزيئات البروتون-المضاد موجود في مختبرات CERN

لكنّ ما نعرفه حول الكون يشير إلى أنّه يتشكّل بالكامل من المادة وحدها دون المادة المضادة. ولو تشكّل الكون فعلاً من كميّات متساوية من المادة والمادة المضادة، لكانت هذه المكونات تفاعلت مع بعضها في لحظات وأفنت بعضها مطلقة كميات هائلة من الطاقة، ولانتفى وجود المادة والمادة المضادة في آن. لذلك، تسود اليوم في علم الفلك نظرية تقول بضرورة وجود، ولسبب ما غير معروف حتى الساعة، كميّة أكبر من المادة في مرحلة تشكّل المواد، ممّا أدى إلى إفناء كل المادة المضادة مع جزء من المادة، وبقيت المادة هي السائدة وحدها في الكون. إلّا أن فكرة وجود مادّة أكثر في المراحل الأولى تحتاج إلى إسنادٍ علمي هو غير موجود فعليّاً اليوم، وتهدف الدراسات التي يجريها العلماء إلى إيجاد فوارق معيّنة أو خصائص مختلفة تعطي تفسيراً لهذه الفكرة/النظريّة. لذلك، لا تكمن أهميّة البحث في تقديم أسئلةٍ حول خصائص المادة المظلمة فقط، بل يرتبط البحث أيضاً بأسئلة أساسيّة حول فهم أسباب تشكّل الكون غير المتماثل من المادة وحدها.
أمام هذه الأسئلة الوجوديّة المرتبطة بهذا البحث، لا تزال أمام العلم طريق طويل لن ينجزها قريباً. فالتماثل الفظيع بين مكونات المادة وضدّها تجعل من عمليّة البحث عن الاختلاف أو اللاتماثل بينهما مهمّة شاقّة، ولو وجدها العلماء لأحدث ذلك ثورةً في الفيزياء الحديثة. لكن على الرغم من هذه التحديات تواصل الفرق البحثيّة عملها، وهي ستستفيد من معجّلات الجزيئات الجديدة التي سوف يتم تشغيلها في نهاية العام الحالي بقدرة إنتاجية أقوى بمئة مرّة من المعجّلات الحالية، مما سيعطي وفراً في الجزيئات والمعلومات الناتجة منها.

لمحة تاريخيّة

تبلورت فكرة المادة المضادة من خلال «معادلة ديراك» Dirac Equation التي وضعها الفيزيائي بول ديراك عام 1926 لتوصيف الجزيئات وتحديداً الإلكترونات التي تقارب سرعة الضوء، وهي تأخذ بعين الاعتبار تأثيرات نظرية النسبيّة على معادلات الفيزياء الكموميّة التي سبقتها. وفي الحلول الرياضيّة لهذه المعادلات يوجد احتمالان سلبي وإيجابي مما دفع ديراك في ذلك الوقت إلى افتراض وجود مادّة مضادة للإلكترونات التي كانت تحت الدراسة في معادلته. وبالفعل، جرى اكتشاف المادة المضادة للإلكترون، وهي تدعى البوزيترون Positron في عام 1932 عندما أظهرت الاختبارات وجود مادة مماثلة تماماً للإلكترون في وزنها وكافة خصائصها باستثناء أنها تنحرف بشكل معاكس داخل حقل مغنطيسيّ مما يعني أنّها تحمل شحنةً معاكسة. أمّا مسألة إنتاج البروتون المضاد فانتظرت طويلاً حتى عام 1982 فيما تمكّن العلماء من إنتاج أوّل ذرة من الهيدروجين المضاد عام 1995.

تحدّيات مستقبليّة

تتنافس الفرق البحثيّة في CERN على دراسة اختباراتها وتطوير دراسات أخرى مثل دراسة تسارع الجاذبيّة لذرات الهيدروجين المضاد عبر استعمال تقنيّات اللايزر لحجز الذرّة المضادة ثم إفلاتها دون تأثيرات كهرومغنطيسيّة لتقوم بالسقوط الحرّ بفعل الجاذبيّة، وهو ما سيفتح مجالاً بحثيّاً جديداً على هذا الصعيد. كذلك تقوم مبادرات أخرى بتطوير اختباراتها الخاصة مثل «المعجّل الدولي» الذي يجري تطويره بين عدّة دول في مدينة دارمشتاد في ألمانيا لكنّه لن يدخل الخدمة قبل عام 2025 إلى جانب مشاريع مماثلة في دول أخرى، ليتداخل عمل عدة فرق في عدّة دول لإعطاء إجابات مقنعة عن المسائل الأساسيّة الغامضة حتى الآن.