بات التباكي على مسيرة السلام من صفاتها المتلازمة. وإنعاش ما يُسمّى بعمليّة السلام من ضرورات الإيهام بالإحياء. ومسيرة أو عمليّة السلام هي وصفة للتحايل الأميركي في التعاطي مع العرب منذ هزيمة ١٩٦٧. ومبادرة روجرز (التي قبلها النظام الناصري) كانت تتويجاً لهذا الخداع، مثلما كان القرار ٢٤٢ تعبيراً عن مناصرة أميركا لمنطق عدوان وقوّة إسرائيل، والتصميم على استفادة من نتائج المعركة.
ومبادرة روجرز استمرّت وإن بأسماء وأشكال أخرى عبر السنوات، إلى أن أصبحت ملفّاً من ملفّات اللوبي الإسرائيلي في أميركا. كان على «المسيرة» أن تبدأ وتسويقها، كمسيرة، اعتمد على أن فكرة المسيرة أو «العمليّة» لها بداية ولا حصر زمنيّاً لها، أي يمكن أن تستمرّ إلى ما لا نهاية. المهم أن تبدأ وأن ينشغل الديبلوماسيّون بها لإيهام العرب — فقط العرب — أن أميركا جادّة في سعيها نحو السلام، وأن هناك خياراً حقيقياً للكفاح المسلّح والحرب لتحرير الأرض المحتلّة. لكن لـ«المسيرة» غايات أخرى، منها جرّ العرب للتطبيع مع العدوّ تحت عنوان «مسيرة السلام».
طبعاً، إن مسيرة التفاوض تعكس الواقع على الأرض. ظهر هنري كسينجر ذات مرّة في عام ١٩٧٣ أمام الكونغرس الأميركي للإدلاء بشهادة عن اتفاقيّة باريس بين أميركا والـ«فيتكونغ». أدلى أعضاء المجلس بآرائهم في ذمّ الاتفاقيّة، وثاروا كيف أنها اعترفت بحق الثوّار في الحفاظ على تواجد عسكري في الجنوب، فما كان من كيسنجر إلا أن أجابهم بأنه للصراحة عاجزٌ ديبلوماسيّاً عن تحقيق النصر الذي عجزت عن تحقيقه القوّات الأميركيّة في الميدان. والحكومة الأميركيّة تهرع للترويج للمفاوضات فقط عندما يُهزَم العرب. هي هرعت لفرض مفاوضات لبنانيّة ـ إسرائيليّة (يرفض أبطالها اليوم الاعتراف بدورهم فيها لشناعة سمعتها اليوم) بعد اجتياح ١٩٨٢. أي أن المسيرة التفاوضيّة هي لمنح شرعيّة سياسيّة وقانونيّة للانتصارات العسكريّة الاسرائيليّة (لو أن إسرائيل لم تتعرّض للإذلال والمهانة في حرب تمّوز، لكانت أميركا قد فرضت على لبنان اتفاقيّة لبنانيّة ــ إسرائيليّة مُذلّة: سجّل هذه كجانب باهر آخر للمقاومة).
نشرت مجلّة «نيويوركر» قبل أيّام بكائيّة أخرى عن «مسيرة السلام» لحسين آغا وأحمد الخالدي. والرجلان شاركا على مدى سنوات طويلة — خصوصاً في سنوات قيادة عرفات — في مسيرة السلام هذه، ودائماً بعيداً عن الأضواء وعن اقتناع صادق — وإن خاطئ وضار جداً — من الرجليْن بجدوى حل سلمي (تنازلي) مع العدوّ الإسرائيلي. والمسيرة التفاوضيّة جرت — بقرار من عرفات — على سكك مختلفة، تتقاطع أحياناً وتتضارب — آملاً بذلك أن تصل إحدى هذه السكك إلى مبتغاها. لكن مسيرة أوسلو هي التي قضت على ياسر عرفات ونصّبت أمام عينيْه خليفةً له، لم يكن يجرؤ في الماضي على مخالفة مشيئة سيّده في أمر (كان حال محمود عبّاس في «فتح» مثل حالة أنور السادات، أي الرجل المُطيع دوماً للزعيم والذي لا يُشكّل معارضة له في أي مفصل تاريخي). ورسالة حسين آغا وأحمد الخالدي مفادها أن محمود عبّاس هو الزعيم الفلسطيني الوحيد (والأخير) الذي يحظى بشرعيّة للتوقيع على اتفاقيّة سلام مع العدوّ. لكن كيف قرّر الكاتبان أنه يحظى بشرعيّة الموافقة على اتفاق استسلام وكل الدلائل (من استطلاعات رأي من جهات متعاطفة معه إلى التآكل في زعامته في داخل «فتح» إلى التناحر بينه وبين كل القوى الفلسطينيّة خارج وداخل منظمّة «فتح») تشير إلى عجز عبّاس عن تلبية حاجات العدوّ في الوصول إلى اتفاق لا تريده دولة العدوّ أساساً. أي أن الأحجية في مقالة الخالدي وآغا أنهما يحثّان أميركا وإسرائيل على التوصّل إلى اتفاق لا تريده إسرائيل ولا تكترث له أميركا. والمفارقة أن المقالة تعترف بأن موت عبّاس كفيل بالقضاء على فرص توقيع هذه الاتفاقيّة. لكن ما فائدة اتفاقيّة تحتاج شرعيّتها الفلسطينيّة إلى خلود محمود عبّاس؟
تسرّب مؤخراً نص كلمة ألقاها مستشار الرئيس الأميركي لشؤون كل شيء، أي صهره جارد كوشنر، وفيها شكّك في جدوى عمليّة السلام أو المفاوضات بين الأطراف. لا بل هو قال إنه قد لا يكون هناك حلّ أبداً. وكلام كوشنر جاء ليعزّز الانطباع أن دولة الاحتلال حظيت مرّة أخرى بإدارة أكثر صهيونيّة من سابقتها، وهذا نمط في تاريخ الإدارات الأميركيّة (ربّما باستثناء إدارة جورج بوش الأب، الذي بالرغم من خدماته لإسرائيل كان أقل إعجاباً بها — هو وزير خارجيّته — من باقي الإدارات السابقة واللاحقة). والمولجون بإدارة السياسة الأميركيّة نحو الشرق الأوسط ونحو الصراع العربي الإسرائيلي كلّهم من عتاة الصهاينة الذين يعتنقون مبدأ نتنياهو في نبذ المفاوضات وفي الحفاظ على الوضع القائم، لما فيه من مصلحة لإسرائيل.
تغيّرت إدارة عمليّة السلام في الشرق الأوسط في إدراتها الأميركيّة عبر العقود. كان فريق المستعربين هو المولج بإدارتها لكن من ضمن الضوابط التي يحدّدها الكونغرس (أي اللوبي الإسرائيلي الذي يشرف على كل ما يصدر عن الكونغرس في شؤون الشرق الأوسط) بالتوافق مع البيت الأبيض. وكانت المفاوضات بين منظمّة التحرير والإدارة الأميركيّة في عهد ريغان، ثم في عهد بوش الأب، تُدار من قبل فريق المستعربين. لكن إدارة كلينتون غيّرت كل ذلك إلى غير رجعة. هي قضت بالضربة القاضية على تقليد الاستعراب في وزارة الخارجيّة وأجهزة الاستخبارات والدفاع، وسلّمت الملف بالكامل إلى اللوبي الصهيوني بأجنحته الديموقراطيّة والجمهوريّة على حدّ سواء. اللوبي بات هو المُتحكِّم الكلّي والوحيد بسياسات أميركا في الشرق الأوسط.

مسيرة أوسلو جعلت من حركة «فتح» ذراعاً من أذرع السياسة الأميركيّة


وينضوي في جسم اللوبي الصهيوني هنا جناحان (غير متطابقيْن بالضرورة مع الانشطار الجمهوري ــ الديموقراطي): الجناح الأول (هو جمهوري بالغالب، لكن ليس بالكامل) وهو يقول بمنطق الليكود، وكل مَن على يمين الليكود، حول ضرورة نبذ المفاوضات بالكامل وترك الأمور على حالها، مع تشديد القبضة على السلطة الفلسطينيّة من أجل القيام بمهامها في حراسة الاحتلال. وهذا الجناح يشدّد على توطيد العلاقات بين إسرائيل وبين الدول العربيّة الخليجيّة (والتقدّم في العلاقات قطع شوطاً كبيراً في ظلّ قيادة المحمديْن — في أبو ظبي والرياض. ويرفض الجناح المقولة التي تحذّر من غضبة فلسطينيّة في حال ترك الأمور على حالها لأنه يؤمن بنجاح القمع والفصل العنصري والقصف والقتل المستمر من قبل دولة الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني. الجناح الثاني يخشى على إسرائيل من نفسها، ويرى هذا الجناح أن دولة إسرائيل تواجه مخاطر ديموغرافيّة وإسلاميّة بعيدة المدى، وأن الاحتلال في كل أراضي ١٩٦٧ لا يمكن أن يستمرّ، وأن من مهام الحكومة الأميركيّة — من منظور حمايتها لدولة الاحتلال — أن تدفع قدماً بـ«عمليّة سلام» تضفي شرعيّة على تسوية تنازليّة تسمح لإسرائيل بالحفاظ على معظم المستوطنات، وتسمح لها باقتطاع أراض من الضفة الغربيّة وغزة مقابل دويلة فلسطينيّة لا تتمتّع من مواصفات الدولة والسيادة إلا بالاسم والعلم فقط (وهناك أفكار جديدة حول «عمليّة السلام»، منها ما يتضمّن فصل الجليل الفلسطيني عن فلسطين ١٩٤٨ وإلحاقه اعتباطاً بكيان مسخ في الضفة). ومقابل هذه التسوية تقوم كل الدول العربيّة مجتمعة بقبول دولة إسرائيل في الجسم العربي (حتى أنه حُكي بتغيير طابع الجامعة العربيّة كي تصبح إسرائيل عضواً فاعلاً فيها، وهذه كانت فكرة «الشرق الأوسط الجديد» التي بشّر بها شمعون بيريز، وبشّر بها معه فيها كتّاب الليبراليّة في صحف أمراء آل سعود.) وكان مشروع السلام السعودي العربي في عام ٢٠٠٢، تكريس لهذه الفكرة مع ترسيخ رفض عودة اللاجئين ورفض السيادة الفلسطينيّة على الحرم الشريف ورفض الانسحاب من كل أراضي ١٩٦٧ ورفض فكرة دولة فلسطينيّة ذات سيادة.
ونجح اللوبي الصهيوني في وضع نافذين فيه في مواقع القرار في إدراة المفاوضات الأميركيّة: بقي دينيس روس وأرون ديفيد ميلر يحافظان على دورهما في المفاوضات على مرّ الإدارات منذ عهد جورج بوش الأب. ودينيس روس كان الآمر الناهي في المفاوضات، وكان يأمر الوفد الفلسطيني بأن يقصي من فريقه مَن يشاء ويحافظ على مَن يشاء. حتى أنه في جلسة طلب من ياسر عرفات ألا يستعين بخدمات مترجمه الخاص وأن يستعمل المُترجم الرسمي لوزارة الخارجيّة الأميركيّة. طبعاً، رضخ ياسر عرفات.
المعضلة في مسيرة أوسلو أن لا خروج منها لمَن يدخلها. هي صُمِّمت من قبل إسرائيل وأميركا كي تقضي على كل الخيارات الأخرى للشعب الفلسطيني. هي كانت تكريساً لمنطق الاستفراد بكل طرف عربي على حدة، بدءاً بأنور السادات وانتهاء بياسر عرفات. لكن عرفات أدرك ذلك متأخراً في الانتفاضة الثانية وحاول أن يحافظ (متأخراً أيضاً) على خيار المقاومة الخجولة (والرمزيّة) عبر «كتائب شهداء الأقصى». لكنه كان محاصراً من قبل جيش العدوّ ومن قبل الأنظمة العربيّة التي تركته وحيداً منذ عام ١٩٩٠. والخروج والدخول إلى مناطق أوسلو يحتاج إلى إذن من قبل العدوّ، كما أن تقدّم المفاوضات على مسارات الحلول المؤجّلة ينتظر موافقة العدوّ وحده. طبعاً، يحاول متقاعدو فريق عرفات، مثل مروان كنفاني، الترحّم على إسحاق رابين والإصرار على أنه كان مُصمّماً على السلام معهم، وأنه لو قُيِّض له أن يحيا لكان قد حرّر بعضاً من ٢٣٪ من فلسطين لهم. أي أن تحرير فلسطين كان في المتناول لولا اغتيال شخص إسرائيلي واحد. ما دليل مروان كنفاني على ذلك؟ يقول كنفاني أن رابين كان متعجرفاً وفظّاً في تعامله مع الفلسطينيّين في المفاوضات وأنه كان يأتي دوماً متأخراً وكان يرفض أن يصافح أحداً منهم. لكنه في آخر لقاء معه كان ودوداً. هذا دليل كنفاني.
لكن مأزق نفق عمليّة السلام أنها باتت الخيار الوحيد أمام الفصائل المؤثّرة في القيادة الفلسطينيّة. مسيرة أوسلو جعلت من حركة «فتح» ذراعاً من أذرع السياسة الأميركيّة في المنطقة، وقوّات السلطة ذراعاً من أذرع الاحتلال. أي إن حركة «فتح» هي غير حركة «فتح» بالأمس التي كانت تمثّل تيّاراً من تيّارات العمل الوطني الفلسطيني الذي يؤمن بالكفاح المسلّح كما يؤمن بالعمل الديبلوماسي1. محمود عبّاس قضى بالكامل على خيار الكفاح المسلّح ليس فقط في حركة «فتح» بل لدى كل الفصائل في مناطق نفوذ الاحتلال ــ بالواسطة. وهناك جيل من حركة «فتح» لا يعرف مرحلة النضال المسلّح بل يعرف عن كثب مرحلة التنكيل بأعضاء حركة «حماس» وبأعضاء كل الفصائل الأخرى التي تفكّر في ممارسة العمل المسلّح. وعمد عبّاس إلى الحفاظ على وشائج قربى مع منظمّات فلسطينيّة تاريخيّة (مثل الجبهة الشعبيّة والجبهة الديموقراطيّة) عبر توزيع الفتات من مناصب ومن ميزانيّات منظمّة التحرير لدعم ما تبقّى من بيروقراطيّات حزبيّة. ولا تستطيع حركة «فتح» تغيير مسارها وإعادة تنشيط خيار الكفاح المسلّح، أو حتى خيار تجميد مسار أوسلو لأن طريقها إلى السلطة ـ المسخ مرّ ويمرّ عبر أوسلو، وهي من دونه لا تحكم (إذا أسمينا خدمة الاحتلال على طريقة أنطوان لحد «حُكماً»). يهدّد محمود عبّاس بوقف «التنسيق الأمني» لكن العدوّ يسخر منه ويقول إن التنسيق الأمني هو لصالحه لأنه يحميه من شعبه وهو يستمرّ حتى لو أعلن عبّاس وقفه. كيف يمكن وقف التنسيق الأمني وخروج ومرور عناصر السلطة الفلسطينيّة يحتاج إلى أذونات إسرائيليّة؟
أما حركة «حماس» فهي في مأزق من نوع آخر. كان ياسر عرفات يلعب على حبال الدول العربيّة ويراهن على عدد من الرهانات في آن واحد، إلى أن وقع غزو الكويت وراهن على انتصار نظام صدّام فكان أن عاقبه النظام العربي الرسمي برمّته، بعدما كان قد قطع مع النظام السوري منذ الثمانينيات، فوجد نفسه من دون معين. حركة «حماس» لم تكن تتحرّك بمرونة عرفات.

تبدو وثيقة «حماس» أنها صك مبادرة للنظام القطري نحو جيرانه ونحو دول الغرب
كانت لصيقة بالنظام السوري والإيراني ثم أصبحت لصيقة بالنظام القطري. لكنها لم تعتنق منهجاً مميّزاً في تاريخها الطويل. إن «وثيقة المبادئ والسياسات العامّة» التي أصدرتها «حماس» قبل أشهر تكرّس تقليدها لخطى «فتح» التي أوقعت القضيّة الفلسطينيّة في ورطة تاريخيّة. من الحسن أن الوثيقة تحدّثت عن تحرير كل فلسطين وعلى حق العودة للاجئين وأنها أصرّت على حق المقاومة، لكنها — في محاكاة للخطاب العرفاتي — تقع في التناقض الذي وقعت فيه حركة «فتح». هي من ناحية، تؤكّد على تحرير كل فلسطين وعلى رفض إسباغ شرعيّة على الكيان الصهيوني، وهي تكرّر رفضها لاتفاقات أوسلو، لكنها تقبل بدويلة على أراضي ١٩٦٧. لكن كيف يمكن قبول هذا الكيان من دون إسباغ شرعيّة على باقي أراضي فلسطين المحتلّة؟ وكيف يتم إنشاء هذه الدويلة من دون التوافق مع العدوّ؟ هذه التوليفة جرّبتها حركة «فتح» وأدّت بها إلى التنسيق الأمني لاحترام حق إسرائيل في احتلال أراضي ١٩٤٨ (وأراضي ١٩٦٧). وكيف ترفض «حماس» مسيرة أوسلو وهي شاركت في الانتخابات التشريعيّة (ما معنى التشريع تحت الاحتلال؟ ألا يكون التحرير أولويّة قبل التشريع في أرض لا سيادة للمشرّعين عليها، وحيث سيادة التشريع في يد الاحتلال)؟ وأليس تسلّم «حماس» السلطة في غزة، والتفاوض مع عبّاس حول الاندماج هو في داخل أوسلو؟ وأليس الكلام عن صفة «الرئيس محمود عبّاس»، والاعتراف بشرعيّته الاحتلاليّة — حتى بعد نفاذ أجلها الاقتراعي — هي قبول بأوسلو؟
وتبدو وثيقة «حماس» أنها صك مبادرة للنظام القطري نحو جيرانه ونحو دول الغرب، أكثر مما هي وثيقة تحرير فلسطيني. والأبرز في الوثيقة أنه هناك بند خاص لتوضيح موقف «حماس» من اليهود ولتأكيد عدم عداء الحركة لليهود كيهود، وهذا حسن خصوصاً وأن ميثاق «حماس» الأوّل استشهد بـ«بروتوكلات حكماء صهيون» (المزّوّرة). لكن، لماذا ترى «حماس» ضرورة لتوضيح موقفها من اليهود، ولا توضّح موقفها من الأقربين الشيعة ومن العلويّين ومن المسيحيّين، خصوصاً أن جماعاتٍ وأفراداً من الحركة نشطوا على مرّ السنوات الماضية في خطاب طائفي مذهبي بغيض. هل للحركة موقف عداء ضد الشيعة والعلويّين والمسيحيّين؟ لماذا اختارت الحركة ان تطمئِن فقط اليهود من بين كل سكّان أرض فلسطين والمشرق العربي؟
هذه مرحلة فريدة في حياة القضيّة الفلسطينيّة. هذه هي المرّة الأولى حيث لا يوجد فيها فصيل يعمل ويخطّط لتحرير فلسطين (على بدائيّة وعدم فعاليّة بعض التجارب الأولى واللاحقة). صحيح أن «حماس» لها فصيل مقاتل وشجاع واستبسل في الدفاع عن غزة بوجه عدوان العدوّ، لكن سيطرة «حماس» في غزة ألزمتها باحترام شرعيّة حدود العدوّ ورفضه لأعمال المقاومة ضدّه. أي أن «فتح» تمنع المقاومة من الضفّة فيما تمنعه «حماس» من غزة. لكن البعض يقارن بوضع جنوب لبنان حيث لا مقاومة تجري هناك. المقارنة هذه غير صائبة لأن معظم أراضي الجنوب تحرّرت بالمقاومة المسلّحة والفصائل الفلسطينيّة المسلّحة في مخيّمات لبنان مشغولة إما بصراعات مذهبيّة أو شلليّة أو بصراعات في الداخل السوري.
لا يمكن الركون إلى البنى والمؤسّسات الفلسطينيّة التي قادت الشعب الفلسطيني إلى أوسلو. إن إهمال منظمّة التحرير الفلسطينيّة كقيادة سياسيّة (تحوّلت بعد تعديل الميثاق الفلسطيني من قبل اللوبي الإسرائيلي إلى أداة لا صلاحيّة لها إلى التصفيق والتطبيل للسلطة الاحتلاليّة الرديفة في رام الله) بات من الضرورات الوطنيّة. ما جدوى مشاركة الفصائل الفلسطينيّة في المجالس السياسيّة (غير التمثيليّة) لمنظمّة التحرير غير إعانة سمعة سلطة رام الله؟
يمكن عقد مؤتمر وطني تأسيسي جديد ينبثق عنه هيئة وطنيّة تحريريّة جديدة. لا يمكن إصلاح منظمّة التحرير من الداخل لأنها مرتهنة لسلطة تأتمر بسلطة الاحتلال. وقد تكون الأولويّة تنظيم فصائل مقاومة جديدة تقطع مع المرحلة الماضية وتتعلّم منها. هناك مَن يُصاب بالعجز في أوساط الشعب الفلسطيني بسبب الاحتلال المزدوج ومعارضة محمد الدحلان (أي معارضة أسواً من سلطة عبّاس)، وبسبب شيوع ثقافة اليأس والرضوخ وتجاهل الشعب العربي لمعاناة شعب فلسطين. وهناك ما هو أسوأ: كل الأنظمة العربيّة من دون استثناء وافقت على وثيقة سلام استسلاميّة أُعدّت في أروقة اللوبي الإسرائيلي في واشنطن. والشباب الفلسطيني واقع تحت ثقالة الإلهاء التلفزيوني أو تسالي الانترنت وألعاب الفيديو، أو تحت تأثير ثقافة السلام والتطبيع التي تضخّها في أوساطه منظمّات الـ«إن.جي.أو» الغربيّة.
يمكن التمثّل بتجربة جورج حبش ووديع حدّاد. رجلان خرجا من النكبة مصمّميْن على تكريس حياتهما لتحرير فلسطين. بدأ جورج حبش في الخمسينيات بتشكيل خلايا صغيرة جدّاً. لم يكن هناك دعم من أي نظام عربي على الإطلاق. وانبثق عن البدايات الصغيرة تنظيم جماهيري عريض، أي حركة القوميّين العرب. تجربة باسل الأعرج مفيدة: الذي تواصل مع باسل يعرف كم كان يعاني من ضيق بسبب غياب خيارات المقاومة. لكن المبادرة مفتوحة أمام عدد صغير من الشباب الفلسطيني، خصوصاً من المخيّمات (أدرك حبش وحدّاد مبكراً أن الطبقة المثقّفة وحدها عاجزة عن مشروع التحرير، ولهذا أنشأ الرفيقان عيادات في المخيّمات الفلسطينيّة في الأردن). ابتعدت النكبة عن خيال الشباب الفلسطيني، وهي كانت المُحفِّز الأكبر للنشاط الفلسطيني الثوري. لكن الشعب الفلسطيني عرف كي يتخطّى مرحلة سياسيّة عاجزة نحو مرحلة سياسيّة جديدة تتعلّم من أخطاء وفشل المرحلة السابقة. نحن أمام مرحلة جديدة من العمل الثوري الفلسطيني. يمكن لهذا العمل أن يبدأ بالاعتراف بفشل المرحلة السابقة (كما أن مرحلة الكفاح المسلّح نبذت مرحلة أحمد الشقيري).
أثبت الشعب الفلسطيني عن قدرات ثوريّة خلاّقة على مدى أكثر من قرن من الزمن. تجاوز مرحلة الحاج أمين الحسيني وبنى عليها مرحلة جديدة، كما أنه بنى على أنقاض مرحلة أحمد الشقيري بعد هزيمة ١٩٦٧. لكن البناء لا يحدث عفويّاً ومن تلقاء نفسه. إن قدرة الشعب الفلسطيني على دفن مرحلة أوسلو يحتاج إلى خلق مرحلة ثوريّة جديدة تعود هذه المرّة إلى الماضي من حيث ميثاق منظمّة التحرير (الموضوع في عام ١٩٦٨) والانطلاق منه لتجديد ثورة فلسطينيّة جديدة لا تحمل أعباء الماضي. لكن الخلق بيد جيل فلسطيني جديد. يستطيع عدد قليل من الشباب (والشابات) تشكيل خلايا ثوريّة جديدة من دون إيعاز من أحد. لكن هل يكون تحرير فلسطين مُلهماً له أكثر من «أراب أيدول»؟
*كاتب عربي
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)