شاع حق تقرير المصير، كمبدأ وكهدف وشعار سياسي، تحت وطأة انهيار الإمبراطوريات الاستعمارية في بداية القرن العشرين، وتحت تأثير التحولات الاقتصادية الهائلة التي كرستها (أو ساعدت على بلورتها) نتائج الحربين العالميتين الأولى والثانية في عشرينيات وأربعينيات القرن الماضي.
ولقد أمكن، بشكل عام، اعتبار أن الاستقلال السياسي للبلدان المستعمرة قد أنجز غالباً، وإن الاستعمار القديم قد انتهى. شذَّت عن ذلك حالات محدودة في «أفريقيا الجنوبية» من خلال نظام الفصل العنصري (الأبارتيد). أما الشذوذ الأعظم فقد تجسّد بُعيد ذلك في فلسطين من خلال المشروع الصهيوني الاستيطاني الذي استمر، وحيداً في هذا الكون، نظاماً يجمع بين كل وأبشع أنواع الاستعمار، وسط حماية دولية، سياسية واقتصادية وعسكرية، لا مثيل لها في التاريخ.
قوى التحرر والتغيير، قبل حوالى 100 عام، حوّلت شعار حق الشعوب في تقرير المصير إلى ركن أساسي في مواقفها وسياستها الخارجية. الاتحاد السوفياتي بقيادة مؤسسه فلاديمير لينين نظَّر للفكرة، وأقدمت دولته الوليدة على فضح المعاهدات الاستعمارية التي كانت روسيا شريكاً فيها ومنها معاهدات تقاسم هيمنة ونفوذ في المنطقة العربية نفسها.
لكن في وقائع التاريخ، أيضاً، أن أشكالاً جديدة من الهيمنة الإمبراطورية قد حلَّت محل الأشكال القديمة. وأن استقلال البلدان وسيادتها على أرضها وثرواتها ومصائرها عموماً، كانا منتقصين ومجتزأين إلى حدود خطيرة. كذلك فإن حركات تغيير كانت قد تبنَّت شعار حق الشعوب في تقرير مصيرها، قد تراجعت عنه في مراحل لاحقة، وأنشأت لنفسها إمبراطوريات خاصة (المعسكر الاشتراكي) بُني جزء أساسي منها على الإخضاع والإكراه، وخصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية.
ولقد كان في خرائط ما بعد الحرب العالمية الثانية (وبالاستناد الى نتائجها) حجم كبير من التعسف في عملية تقاسم النتائج والنفوذ والبلدان. هنالك ضحايا معروفون ذهبوا ضحية سهلة ومتعسفة على ضفتي تلك الخرائط (الوضع اليوناني على سبيل المثال). وسط كل ذلك تجمعت عناصر عديدة، سياسية واقتصادية وأمنية، في تطورات ومواقف مراكز قوى تلك المرحلة، القديمة والجديدة، الدولية والإقليمية، لحرمان الشعب الكردي من أن يكون له كيان مستقل. جرى توزيع كردستان الطبيعية بين أربعة بلدان. وجرى، بالكامل، شطب حق تقرير المصير للكرد واستمر هذا الأمر إلى يومنا هذا وسط تواطؤ دولي وإقليمي شبه شامل رغم الصراعات والتباينات الدولية والإقليمية على المستويات كافة.
جزء من القوى التحررية العربية استظل شعارات تحررية قومية. كانت هذه الشعارات الموجهة أصلاً ضد الهيمنة الخارجية الاستعمارية، تنطوي في الوقت عينه على نظرة استعلائية وشوفينية ضد القوميات الأخرى في المنطقة العربية. وهي، عموماً، أقليات عرقية أو دينية. بلغ من تفاقم هذا الخطأ أن ترتبت عليه، سياسات قمع وتمييز واضطهاد وإرهاب اقترنت غالباً بمنع الكرد خصوصاً من ممارسة أبسط عناصر التعبير عن الهوية والثقافة والحضارة الخاصة بهم، وبأبشع الأساليب وصولاً إلى استخدام أدوات الإبادة أو العقاب الجماعيين.
حاول الكُرد، عبر تعبيرات سياسية وتنظيمية ناشطة، تغيير هذا الواقع. حمل كثيرون منهم السلاح. لجأوا إلى قوى خارجية، إقليمية ودولية، طلباً لدعم سياسي أو عسكري. تعرضوا لاستغلال قضيتهم من قبل قوى حاولت توظيف نقمتهم في خدمة مشاريعها ومصالحها. ارتكبوا في مجرى ذلك، أخطاء صغيرة أو كبيرة... لكن معاناتهم استمرت وتصاعدت خصوصاً في تركيا، وحتى فترة متأخرة، في العراق.
لأسباب عديدة، وكجزء من سياساتها حيال العراق، وبعد تعاظم استهداف المناطق الكردية من قبل نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، قدّمت الإدارات الأميركية المتلاحقة مساعدات مهمة لحماية المناطق الكردية من خطر قصف الطيران العراقي. فرضت مناطق «حظر جوي» أفقد الرئيس العراقي تفوقاً عسكرياً كان حاسماً في الميدان. عام 2003، أي في مجرى الغزو الأميركي للعراق وبعده، توسَّعت وتوطَّدت العلاقات الأميركية الكردية. سعى الأميركيون لتقديم أنفسهم كحماة وضامنين للمناطق وللمصالح الكردية في تركيبة ما بعد الغزو والاحتلال. طبعاً، كان ذلك بثمن الولاء الكردي الكامل لواشنطن وسياساتها في العراق والمنطقة. دخل الكيان الصهيوني، مرة جديدة، على الخط، لتعميق الصراع العربي الكردي ولجني مكاسب خاصة.
في امتداد نتائج الغزو الأميركي للعراق ومن ضمنه سياسة تغذية الانقسامات الطائفية والمذهبية والعرقية و... في المنطقة، ومن ضمن تعاظم دور الكرد في الصراعات الموزعة على أكثر من بلد، وخصوصاً ضد «داعش» والإرهاب... تعاظمت النزعة الكردية نحو الانفصال. نشوء إقليم كردستان العراق، كإقليم ذي حكم ذاتي، تكاملت مقومات تحوله إلى إقليم مستقل وسط اضطراب عراقي خطير وشامل (فضلاً عن الأزمة السورية والتركية). وهو اضطراب قاد، بين أمور أخرى يعدها البعض للمنطقة ولوحدة بلدانها السياسية والجغرافية والاجتماعية، إلى إعلان استفتاء الاستقلال من قبل رئاسة إقليم كردستان العراق في 25 من شهر أيلول القادم.
ثمة صراع في إقليم كردستان العراق، بين تشكيلاته السياسية، حول السلطة والنفوذ والعلاقات مع بغداد والخارج. لكن ثمة تعاطفاً سياسياً وشعبياً كردياً عاماً، لا جدال بشأنه، شعار الاستقلال، ولو مع شيءٍ من الحذر والرغبة في التدرج والإبقاء على شيء من الوحدة في نطاق العراق، من قبل كثيرين.
لا تبشر تطورات الوضع، في الشرق الأوسط عموماً وفي المنطقة العربية خصوصاً، بالتوصل إلى حوارٍ بناء وجدي وملتزم بشأن مشكلة الكرد وحقوقهم بما يحول دون الانفصال. التمزق السياسي والمذهبي الراهن، التدخلات والمصالح الخارجية، ضعف الروح الوطنية وروح المسؤولية، تراجع قيم العدالة والتسامح والتضامن الوطني والقومي... كلها أمور تشير على أن فرص استيعاب حركة النزوع الكردي نحو الانفصال لا علاج مقبولاً لها في المرحلة الراهنة. البعض يكتفي بالتحذير. بعض آخر يريد أن يكون الاستفتاء شاملاً كل الشعب العراقي وكذلك دول المنطقة. هذا لن يعالج شيئاً ويكرر سياسات بائسة سابقة.
في كل الحالات ينبغي دعم حق الشعب الكردي في تقرير مصيره. حبّذا لو توفرت شروط استمرار الوحدة وفق علاقات مختلفة تقوم على الاعتراف، من قبل الدول المعنية، بحقوق الكرد وثقافتهم وحضارتهم، وهي حقوق سياسية وإنسانية بالدرجة الأولى. الأمل مفقود في هذا الاتجاه، ولذلك لا يمكن رفض حق الشعب الكردي في تقرير مصيره وفق الاتجاه الذي يريده، شرط أن يتم ذلك بشكل واقعي ومدروس ومن دون إكراه من أي سلطة: كردية أو عربية أو أجنبية.
* كاتب وسياسي لبناني