يَنطق القاضي بالحُكم: "حكمت المحكمة حضوريّاً ببراءة المُتّهم نشأت فهمي الكاشف، مِن التُهمة المنسوبة إليه، وذلك إعمالاً للمادة 304 فقرة أولى مِن قانون...". يُقاطعه أحد الحاضرين في القاعة، معترضاً على الحُكم، قائلاً: "سكسونيا، قانون سكسونيا". يَضرب القاضي بمطرقته، مِن غير أن يُحدّد مصدر الصوت، ليعود الصمت. يُكمل تلاوة الحُكم: "مِن قانون الإجراءات الجنائيّة".
يقف المُعترض مُجدّداً، وبصوت أعلى، إنّه: "قانون سكسونيا". عندها يأمر القاضي بحبس هذا "المُشاغب" مدّة يوم واحد. كان هذا الأخير صحافيّاً، وقد شهد مقتل أحد العمّال الفقراء، ذات ليلة، على يد نشأت الكاشف. هذا الأخير يكون ابن "رجل الأعمال" وصاحب النفوذ المعروف. حاول الصحافي، واسمه عادل، الوصول إلى العدالة مِن خلال كتاباته الصحافيّة عن الحادثة، إضافة إلى كونه شاهداً، لكن بلا جدوى. نجح "النافذ" بشراء ذمم شهود آخرين، ومستفيداً مِن سلطته الواقعيّة في المرافق العامة، ليحصل ابنه في النهاية على "البراءة". فهِم عادل أنّ لا مكان للصحافة هنا، وأن العدالة تحت قوس المحكمة مجرّد وجهة نظر في بلاده، فما كان مِنه إلا أن سَنّ ساطوره وذهب به إلى "النافذ". قتله. سَلّم نفسه للقضاء. كان النائب العام صديقاً له، ومثله على قناعة بجناية ابن صاحب النفوذ، وفساده، فسأله في بداية التحقيق: "ليه قتلت الكاشف يا عادل؟". أجابه: "عايز أخلّص الناس يا حسين مِن قانون سكسونيا". لم يجد النائب العام ما يقوله، بعد أن أعطى عادل سيجارة وأشعلها له، إلا: "بسّ كده رجّعتلهم قانون الغاب يا صديقي". بهذه الجدليّة الأبديّة ينتهي فيلم "الغول" (1983). هكذا أراد الكاتب وحيد حامد أن يؤرّخ لأحوال مصر في ثمانينات القرن الماضي.
أبدع عادل إمام في دور "عادل". مِنه سمع كثيرون لأوّل مرّة عن "قانون سكسونيا". تلك الولاية الواقعة ضمن ألمانيا اليوم، التي كانت، في العصر الوسيط، تحكم بقانون جنائي عجيب. كان الموسيقي عندهم بمثابة الظلّ. ليس كائناً عاديّاً. كانت هذه نظرة سلبيّة تجاه العازفين مُستقاة، على الأرجح، مِن أسطورة محليّة. في حال قتَل الموسيقي شخصاً آخر فإنّ عقوبته تكون القتل، بقطع رأسه واقعاً، أمّا في حال قَتل شخص آخر موسيقيّاً فإنّ عقوبته تكون الإعدام أيضاً، لكن مع بقائه حيّاً، وذلك مِن خلال... قطع رأس ظلّه. يؤتى به تحت عين الشمس، فيستطيل ظلّه، فيُضرَب الظلّ بالسيف. هكذا تكون العدالة أُنجِزت! يقول البعض إنّ هذا القانون تعدّى الموسيقيين لاحقاً، إذ أصبح قاعدة طبقيّة شاملة، بحيث إن قَتَل شخص "عادي" أحد "النبلاء" فإنّ ذاك "العادي" يُقتَل حقّاً، أمّا إن بادر "النبيل" إلى قَتل "العادي" فيكون الحكم: إعدام ظلّه. كان ذلك في القرون الوسطى، هناك، وكان ذلك كذلك بمضمونه عندنا، هنا، في حقبة الثمانينات. لا يزال وحيد حامد، صاحب قصّة الفيلم، على قيد الحياة. كان في لبنان قبل مدّة مُكرّماً. لبنان كمصر كسوريا كالعراق كالحجاز كاليمن كالمغرب، كان فيلم "الغول" عنّا جميعاً، ذلك قبل أكثر مِن ثلاثة عقود، قبل "الداعشيّة" كذروة مُعاصرة، أمّا اليوم! اليوم نعيشه، نعرفه، كلّنا أيضاً. كلّنا في "قانون ساكسونيا" عرب. سواسية كأسنان المشط.
فضيحة التلاعب بأدوية السرطان، التي أثيرت أخيراً، ووصل صداها إلى خارج لبنان، أين أصبحت؟ لقد تمّ التشويش مِن خلال الضخ الهائل للمعلومات حولها، كلّ يوم معلومة جديدة، وكلّ معلومة مع اسم جديد، في اتّجاه جديد، تضارب وفوضى وشواش، وبعد ذلك لن يكون مِن جديد. مَن الفاعل؟ إنّه الظلّ. فضيحة "الإنترنت غير الشرعي" التي زاد عمرها عن سَنَة، كيف انتهت؟ إنّه الظلّ. ذاك النائب "تبع المخدّرات" لم يَزُر "مخفر حبيش". فضيحة "الغائط" أو "البراز" الذي كنّا نأكله، ممزوجاً بطعامنا، ما كان مآلها؟ فضيحة النفايات التي تكدّست في شوارع العاصمة وضواحيها، وعرّت الجميع، كما قيل، مَن كان الجاني فيها؟ فضيحة المازوت، فضيحة الغاز، فضيحة اختلاسات الضمان، فضيحة اختلاسات قوى الأمن الداخلي، فضيحة تلزيم الميكانيك، وسائر التلزيمات والمناقصات، فضائح الكهرباء، فضيحة سجن رومية، فضيحة نهب وزارة المهجّرين... فضائح فضائح فضائح، ثمّ ماذا؟ غير تصدير "كبش فداء" مِن هنا، أو "موظف صغير" مِن هناك، إلى الواجهة، هذا إن حصل، ماذا هناك؟ ما نفع كلّ الضجيج مع كلّ فضيحة؟ مادة للتسلية؟ جرعة ملهاة تُمَدّ بها، يوميّاً، مواقع التواصل الاجتماعي، فيجد "فاضي الأشغال" حديثاً يُشعره بوجوده؟
قبل أكثر مِن خمس سنوات، في ألمانيا، استقال الرئيس كريستان فولف، إثر بروز شواهد أمام القضاء حول تورّطه في فضيحة ماليّة (سابقاً). كان ذلك عندما كان، قبل سنوات، رئيساً لوزراء ولاية سكسونيا السُفلى. كان مجرّد ظهور شواهد، وقبل صدور أيّ حكم، كفيلاً باستقالة رئيس دولة. هذه سكسونيا الحديثة. هذه ليست مناسبة للمقارنة، ولا مَن أفضل مِن مَن، إنّما مجرّد لفتة اسميّة. العدالة، في كلّ العالم، مجرّد مفهوم نسبي. شهوة وجوديّة. أمّا نحن، فهنا نحن، في "سكسونيا الشرق"... بلاد الظِلال الأبديّة.