الرباط | قارب عبد الكريم غلاب المئة عام، ثم رحل. ليكون بذلك شاهداً على قرن من الثقافة المغربية، هو الذي عايش اللحظات الأولى لتشكّل الأدب المغربي المعاصر، حين كان كتّاب السرد أقل من أصابع اليد الواحدة في المغرب، فطفق يتلمّس طريق القصة والرواية مع الثلث الأوّل من القرن الماضي.
يحظى غلاب الذي فارق الحياة، أمس الاثنين بتقدير كبير في الأوساط الثقافية والسياسية في المغرب. وعلى مدار سنوات طويلة، لم يكن اسماً عادياً. ففضلاً عن كونه أحد روّاد الأدب والثقافة في البلاد، يعدّ في الوقت نفسه أحد أبرز السياسيين الذين لم يمارسوا السياسة داخل المجالس المنتخبة فحسب، بل نظّروا وأرّخوا لها، وواكبوها بالنقد المستمر. بالتالي، فهو من القلائل الذين يستحقون أن يحملوا، إضافة إلى لقب «الأديب»، لقب «المفكر السياسي».

كانت السنوات العشر التي قضاها غلاب طالباً في القاهرة خلال الثلاثينيات، وأستاذاً في مدارسها خلال الأربعينيات بمثابة المرحلة الأساسية في تشكل وعيه الثقافي، وتقاطعه مع ما كان متداولاً في الساحة الأدبية آنذاك. وسيظل لتلك المرحلة أثرها وصداها على مدار عقود من الكتابة في حياة الراحل.
كان الراحل مسكوناً بهاجس التأسيس لمرحلة جديدة في المغرب الثقافي والسياسي. فأفكار النهضة لازمته طوال حياته، إذ بدا له أنّ الضرورة التاريخية يجب أن تذهب بالمغرب في اتجاه مواكبة الحركات النهضوية في الشرق والغرب. فمنذ أيام الجامعة، عمل على تشكيل جمعية الطلبة العرب في كلية الأدب في «جامعة القاهرة»، في تناغم مع الموجة القومية التي غطّت بفكرها تلك المرحلة. ومع مطلع الأربعينيات، سيعمل على تأسيس «رابطة الدفاع عن مراكش»، للتعريف بالمغرب وقضيته الأساسية آنذاك، وهي المشكل الكولونيالي. فالمغرب كان في تلك المرحلة تحت نير الاستعمار الفرنسي. ومع تقدّم السنوات، سيصير غلاب اسماً مهماً في الحركة الوطنية في المغرب، وأحد المنشغلين الكبار بمسألة تحرير البلاد.
والحقيقة أنّ ملامح الزعامة في تاريخ غلاب بدأت تتشكل منذ منتصف الأربعينيات، حين تم اختياره أميناً عاماً لـ «مؤتمر المغرب العربي»، الذي نتج عنه تأسيس «مكتب المغرب العربي» الذي قاد نضالاً معروفاً من أجل تحرير المغرب والجزائر وتونس من الاستعمار الفرنسي. وسيرتبط اسم غلاب باسم «حزب الاستقلال» منذ منتصف الأربعينيات، فهو من أبرز مؤسسيه، والمشتغلين فيه منذ تلك الفترة إلى آخر حياته. تقلّد فيه مناصب قيادية، وشارك من خلاله في الحكومات الوطنية، وزيراً وبرلمانياً.
لم يكن غلاب من كتّاب الأبراج العاجية، وإن كانت هذه الصفة قاسية في حق الأدباء الذين كانوا يحبون الانفصال عن الظواهر الاجتماعية، بل كان رجلاً قريباً من الجميع. ويذكر قرّاء الصحافة في المغرب عموده الشهير «مع الشعب» الذي كان يتطرق عبره لانشغالات وهموم المواطن المغربي. فكان هذا العمود الذي صدر لسنوات طويلة في جريدة «العلم» بمثابة فضاء عام يتقاطع فيه ما هو سياسي بما هو اجتماعي واقتصادي وفكري وديني أيضاً.
كان يتأسف لحال الثقافة في بلده، فهي «كمّ زائد» كما تراها الدولة، وبالتالي فالميزانية المخصّصة لها تكاد تكون معدومة، ثم إن وزارة الثقافة في نظره هي آخر وزارة يمكن أن تفكّر فيها الدولة.
أدبياً، يقترن اسم عبد الكريم غلاب بعنوان روايته المعروفة «المعلم علي» التي اختارتها منظمة الثقافة العربية من ضمن أفضل مئة رواية في تاريخ الأدب العربي. ترأّس «اتحاد كتاب المغرب» لثماني سنوات، من أواخر الستينيات إلى منتصف السبعينيات، وفاز بـ «جائزة المغرب للكتاب» (أرقى جائزة ثقافية في البلاد) في ثلاث دورات، وله أكثر من 75 كتاباً في الرواية، والقصة، وأدب الرحلات، والفكر الديني، والتنظير السياسي.