قدم الدكتور عبد الحليم فضل الله عملاً تأسيسياً بالعربية في كتابه الصادر عن «دار الفارابي» تحت عنوان: «فخ اللامساواة». كتاب يتناول مسألة توزيع الدخل وأثر التفاوت في الدخل على النمو الاقتصادي، وذلك في النظرية وفي الحالة اللبنانية.
والكتاب شيّق لأنّ كاتبه من القلّة التي تحمل همّ فهم التجربة اللبنانية برمتها وإلقاء حكم عليها. وهو استخدم توزيع الدخل مدخلاً إلى ذلك. أما اختيار التفاوت في الدخل والثروة والفقر مدخلاً لتناول التجربة اللبنانية، فلعلّه كان نتيجة التأثر بالأهداف التي وضعتها المؤسسات الدولية وخصوصاً البنك الدولي، منذ ولاية ولفنسون (1995-2005)، واعتبرت أن مواجهة الفقر هي الهدف الأول لسياسة التنمية التي تدعمها (واد، 2010).
يتضمّن الكتاب أربعة موضوعات محدّدة: عرض مسهب للأدبيات النظرية في ميدان علاقة التفاوت في الدخل بالنمو. وهو يضع منطلقاً للنقاش أطروحة كوزنتس، أحد الباحثين الأوائل في «اقتصاد التنمية» الذي رأى عام 1955 أنّ التفاوت في الدخل يكون كبيراً ثم ينخفض مع تقدّم سيرورة التنمية والنمو.

ثانياً، عرض شامل للأدوات والمفاهيم المستخدمة في قياس تفاوت الدخل والفقر؛ وثالثاً استعراض التجربة اللبنانية منذ المتصرفية مع التركيز على عنصري تفاوت الدخل والنمو خلالها؛ وأخيراً عرض للنتائج لجهة تفاوت الدخل والفقر في حالة لبنان.
يغلّب الكتاب الأدبيات النيو- كلاسيكية الطاغية في كل ميدان في عرض الأدبيات الذي يقدمه، مستعرضاً كل أنواع الأفكار التي قدمها باحثو هذه المدرسة. أما الفكرة الأساس التي تدور حولها النقاشات، فهي: هل أن التفاوت في الدخل يعزّز النمو أم أنه يشكّل إعاقة له. وهناك من قالوا إنّ التفاوت هو شأن جيّد لجهة حفز النمو، وأن الاقتصادات القائمة على وجود لامساواة كبيرة في الدخل هي الأكثر نمواً.
لا يقتصر الفصل على عرض الأدبيات التي تعتمد منهجية الاقتصاد البحت، لكنه يستعرض أيضاً الأدبيات المحدثة في الاقتصاد السياسي النيو- كلاسيكي حول هذا الموضوع. وقد عرض الباحث ثماني مقاربات مختلفة للمسألة المطروحة غير تلك التي كانت قد اتخذت موقفاً مع أو ضد كوزنتس. أي أن النقاش في هذا الشأن واستعراض تفاصيله، لم يكونا بالأمر الهيّن. وهو ما حدا بالباحث إلى إعادة تجميع هذه المقاربات في لائحة وتبويبها تحت أربعة عناوين في آخر الفصل (ص. 84-85).
ترد في الكتاب أسماء ممثلي التيار الما -بعد كينزي، خصوصاً نيقولاس كالدور من جماعة كامبريدج، مع عرض لبعض أفكارهم (ص. 56). ونحن جميعاً نستعرض كل أنواع الهذر الذي تقدمه النظرية النيو- كلاسيكية لإثبات أهليتنا كاقتصاديين ونقول عن كينز والما- بعد كينزيين ما تقوله هذه الأدبيات. وغالباً ما نسيء إليهم. والأمل أنّ الدكتور فضل الله بعد هذا الإنجاز المتمثل في استيعاب الأدبيات النيو-كلاسيكية، سوف يذهب إلى أبعد ويتعمّق أكثر في الأدبيات الما-بعد كينزية.

يشكّل تعاطيه مع النظرية باعتبارها أساساً للنقاش ميزة عنده

خصّص الباحث الفصل الثاني من الكتاب لعرض منهجيات وأدوات قياس الفقر والتفاوت في الدخل. وهي أدوات عديدة ومتنوعة. وقد أجرى مسحاً شاملاً لها. وهي ازدادت كثيراً منذ ظهور ردات الفعل الأولى على «سياسات التصحيح الهيكلي»، من خلال مقولة «التصحيح بوجه إنساني» أواخر ثمانينيات القرن الماضي. وقد كان ذلك على يد منظمة اليونيسيف، قبل أن تعتمد المؤسسات الدولية هذه المقولة وتطورها لتصبح مقاربة قائمة بذاتها تحت عنوان «التنمية البشرية المستدامة» (SHD). ويصدر «برنامج الأمم المتحدة للتنمية» (UNDP) منذ عام 1990 تقارير سنوية حول «التنمية البشرية» تتناول مختلف مناطق العالم (غور، 2000).
وقد رفض البنك الدولي تناول مسألة اللامساواة في الدخل والثروة في تقاريره، باعتبار أنّ هذه مسألة «سياسية»، وأنه مؤسسة لا تتعاطى السياسة (apolitical) (واد، 2013: 2). ثم وافق على تناول موضوع اللامساواة في الفرص فقط. وهذا ما يفسر تركيزه مع المؤسسات الدولية الأخرى على موضوع الفقر.
الفصلان التاليان من الكتاب هما قراءة للتجربة اللبنانية تحت عناوين النمو والتفاوت في الدخل والفقر. تناول الكاتب تجربة لبنان منذ المتصرفية حتى 2012. يفاجأ القارئ المتخصّص بجمهرة من المراجع التي كان يجهل وجودها حول التجربة اللبنانية، مثل الكتاب الجماعي الذي أشرف عليه فؤاد افرام البستاني (1970) أو أطروحة كيروز (1970). هناك في المقابل إغفال في عمل الباحث للمساهمات التي قدمها سليم نصر، وروجر أوين، وكاتب هذه السطور في قراءة التجربة. وهذه الأخيرة ألقت حكماً سلبياً على التجربة برمتها. أما كتاب عبد الحليم فضل الله، فهو قراءة نقدية للتجربة، مع جهد لإظهار أنه كان ثمة نمو ونجاحات في مراحل منها.
والصفحات العديدة المخصّصة لحقبة ما بعد 1992 هي الأفضل من دون أي شك. وقد استخدم الباحث لدراسة الحقبة مراجع عديدة من بينها تلك التي أصدرتها المؤسسات الدولية. وقد حوت مساهمته مجموعة واسعة من المعطيات والأرقام المفيدة. ويا ليت الباحث أشار إلى صفحات المصادر التي اعتمدها في متن النص لتسهيل عمل الباحثين.
ويفيدنا الفصل الرابع في إظهار أنّ لبنان جاء في المرتبة الرابعة عام 2013، بين 174 دولة لجهة اللامساواة في توزيع الثروة... أي أن هناك ثلاث دول فقط في وضع أسوأ من وضعنا على هذا الصعيد. كما أنّ توزيع الثروة في لبنان كان الأسوأ بين الدول العربية (ص. 325-326). وقد تراجعت حصة الرواتب والأجور في الناتج من 35.5 % عام 1997 إلى 22 % عام 2012 (ص. 332-333).
يسهم الدكتور فضل الله منذ سنوات في النقاش حول الواقع الاقتصادي والاجتماعي اللبناني، لكنه بهذا الكتاب وضع قدماً ثابتة في وسط محدود عددياً يمثله الأكاديميون اللبنانيون وغير اللبنانيين الذين تشكل التجربة اللبنانية ميدان اختصاصهم. وكتابه يعكس تمرّساً في الموضوعات التي تقع ضمن سياسات الاقتصاد الكلّي. كما يعكس مقدرة قوية على استخدام تقنيات الاقتصاد القياسي. ويشكّل تعاطيه مع النظرية باعتبارها نقطة انطلاق وأساساً للنقاش ميزة عنده. وهي ميزة تضفي أهمية أكبر على تدخّله كباحث، وسط جو تعيّن طبيعة النقاش السياسي فيه نخبة سياسية أميّة في الاقتصاد.
* اختصاصي في العلوم الاقتصادية