«أنا مَدينٌ لكم بالحقيقة في الرَّسم، وسأقولها لكم»(من رسالة بول سيزان إلى إميل بيرنار في 23 أكتوبر 1905).

«الحقيقةُ دَين حتى تُرَدّ»، يشرح جاك دريدا جملة سيزان التاريخية أعلاه. فهنا وعدُ الصديق للصديق، وعدٌ بالحقيقة. وهي الجملة التي ألهمت دريدا كتابه «الحقيقة في الرسم» la vérité en peinture الذي أصبح مدماكاً أساسياً في علم الجمال/ الاستيتيقا، كما في تاريخ فلسفة الفنون التشكيلية.

ومن يملك الحقيقة أكثر ممن «رأى»؟ لذا، مقالنا اليوم أقرب إلى مجموعة تساؤلات مشروعة، تتردد في الكواليس والدوائر الفنية التشكيلية والمجتمع الفنيّ البصري في لبنان. هي محاولة لقول «الحقيقة في الرّسم»، نعرضها متخذين مثالاً ـــ لا حصراً ــــ المعرض الإشكالي الذي يقيمه «متحف سرسق» في «صالة المعارض الكبرى» تحت عنوان: «ويلي عرقتنجي: فضاءاته الملوَّنة». (ترجمة غير موفّقة من قبل المتحف للعنوان الفرنسي Les Mondes de Willy Aractingi).
كم هائل من الأسئلة يهطل على رأس زائر معرض ويلي عرقتنجي (1930-2003). ما هو المعيار الذي ارتكزت إليه إدارة المتحف لتبني خياراتها؟ هل يُضغَط عليها مثلاً؟ هل تحول المتحف إلى نادٍ للأطفال؟ (شيء حميد إذا ما حوفظ على المساحة الفنية فيه)، أم أن هناك فائضاً من الأموال لا يعرف المتحف كيف يصرفها فاقتضى إنفاقها على السينوغرافيا (الجميلة والحق يقال) وعلى الدعاية الكبيرة؟ أم أنّ مئات الأسماء التاريخية اللامعة من الفنانين في لبنان، قد انقرضت فجأة، ما حتّم استحضار لوحات عرقتنجي وتقديمها على أنها لوحات متحفيّة؟ هل أصبح الكمّ أهم من النوع؟ هل بتنا نعتمد الاستعراض على حساب المادة الماكنة؟ والنقد هنا لكل السوق عبر «متحف سرسق». هل هو الضعف الأزليّ لدى الإدارات اللبنانية القاصرة أمام عبارة «عُرض في الخارج» المضلِّلة، كأن المعايير «في الخارج» هي ما يحدد لنا الجيد والركيك؟ أو هل بات كل من عرض يوماً وكان غزير الإنتاج ــــ على حساب النوع ـــ يُحوَّلُ إلى فنانٍ متحفيّ محترِف؟ لا نقصد هنا عرقتنجي بالذات، فالمثل يقاس على كمّ كبير من الفنانين الذين رسّخهم عدم النقد العلني، كفنانين محترفين. هل صار الاتكال على الإبهار بالسينوغرافيا والدعاية والتقسيمات اللاحقة بالمعرض، أهم من اللوحات بحد ذاتها، متناسين أن التكامل جوهري لصناعة معرضٍ متحفيّ؟ هل فعلاً أصيب «متحف سرسق» بقصور في الرؤية، أم أنه ربما محرَجٌ أدبياً من التقدمة السخية لأهل الفنان العصاميّ (224 لوحة) للمتحف؟ فلنطرح الأسئلة من منظار آخر: ماذا لو قدم أهل كل فنان محترِف راحلٍ في لبنان 200 لوحة لـ«متحف سرسق»؟! هل يحتم ذلك على المتحف إقامة معرض بهذه الضخامة ولو كانت المادة غير جديرة بالعرض؟
بل الأهم: هل يكفي أن نكتب بضعة أسطر عن مجموعة أعمال ــ ولو ركيكة ــ ونسهم في البروباغندا ليتحول العمل بسحر كاتبٍ من ركيك إلى جيد؟ هذا لا يعني «متحف سرسق» فقط، بل الموروث الذي ضَمِنَ للمتحف في لحظة ما أن يُقدِمَ على خيار مماثل. فالمسؤولية لا تقع كلها على المتحف، بل تبدأ منذ أن تقرِّر صالات العرض قبول فنانين هواة وتكريسهم كمحترفين! لكن أيضاً هل يحق لمتحف ما أن يخترع «فناناً متحفيّاً» ويلزم الحقل التشكيلي الوطني تلقائياً بتبنيه من دون مساءلة؟ هل يدخل «متحف سرسق» بإدارته الجديدة لعبة مقتني اللوحات ورفع الأسعار مثلاً (لا سمح الله) وهو سؤال يتردد في الكواليس وفي دوائر المجتمع الفنيّ التشكيلي؟ ألم يكن من الأجدر ـــــ احتراماً لذكرى الراحل ــــ اختيار الأعمال وغربلتها بشكل دقيق قبل تقديمها للزوار؟ فمن يزور موقع عرقتنجي الالكتروني، يدرك أن هناك ما هو أفضل مما عُرِض!
الأسئلة لا تنتهي هنا، بل تبدأ. ما هو هذا المعرض الذي استفز كثيراً من التشكيليين وأعاد الأسئلة التاريخية الفنية إلى الواجهة مثل: ما هو المعيار للعرض؟ من يعرض؟ من هو الفنان؟

رسومات (illustrations)
زيتية وأكريليكية،
غير متقنة بغالبيتها
ومن الهاوي؟ لمَ يصرف الإنسان عمراً في دراسة أكاديمية للفنون التشكيلية في حين يمكنه دخول معترك الفن كهاو وينافس؟ ما هو الحد الأدنى من احترام ذكاء الرائي؟ متى يكون العمل فنياً artistique ومتى يكون حرفياً artisanal؟ ما الفرق بين العرض في متحف أو صالة عرض؟ هل لدينا «متاحف» فعلاً؟ هل يكفي أن تكون من عائلة متمولة حتى يصبح ما تفعله كهاوٍ «فناً رفيعاً متحفياً»؟ في المقابل، ماذا يفعل الموهوبون الأكاديميون المطمورون بحق؟ وإذا كانت الساحة الفنية «بتساع الكل»، لماذا يعتّم على الجيّدين ويسلَّط الضوء على بعض الهواة أو ذوي الضعف التقني الفاقع؟ هل تسهم بورصة الفن في إيجاد أسماء من لا شيء؟ ما هو دور المقتنين في ذلك؟ هل كل المقتنين محترفون أم أن فيهم التجار؟ ما هي المعايير المتحفية أساساً؟
لمخاطبة أذهان القراء بشفافية، لا بد من الاعتراف. نعم، اللوحات منتَجٌ تحوّل بحُكم سياسات السوق إلى «سلعة». هذه حقيقة لا لبس فيها، ولو اعتبر التشكيليون أعمالهم مشاعر، وأحاسيس، وفلسفة، وهواجس أو حتى «قضايا». شئنا أم أبينا، هي بخلاصتها وبكل ما تحمل من مضامين: سلعة. عليها طلب وعرض ولها زبائن ومكان تعرض فيه، لها سعر، ولها مقتنون. تقيّم على أساس الندرة والوفرة، لها بورصة محلية وإقليمية وعالمية، ولأجلها تكتب المقالات وتعرض التقارير وترافقها الدعاية! وواحد من الصراعات الكثيرة التاريخية بين الفنان والسوق الفنية هو «تسليع العمل» حد الابتزال (أو حتى التنزيلات المئوية). رغم حاجة الفنان التشكيلي غالباً -غير المتموّل أو غير المرفّه أو غير المتحدر من أسرة برجوازية - للمادة التي يحصل عليها كنتاج لجهده هذا، فهو يتطلع الى حفظ عمله من السقوط إلى حدود التسليع المادي الكلي! بل يصبو إلى الارتقاء به من حدود التسليع النقدي، إلى ما هو سامٍ وإنساني، مثالي أو حتى طوباوي، أو باختصار إلى ما هو «جميل». عندما نتكلم عن الفن التشكيلي لا نفصل المسألة عن الاستيتيقا. وبحسب كانط: «الجميل ليس الخيّر ولا الحسن». كلنا يدرك أن جوهر الجمال هو «السلطة» الكامنة فيه! لذا، فإن تسليعه يخفَّض من مستوى سلطته المتكاملة ويقزِّمه إلى حدود القشرة الخارجية له. وهنا يأتي دور المتاحف حين تضمّ الأعمال إلى مجموعاتها (أو مجموعات خاصة ثابتة)، فتعيد تكريس بعض من القيمة الضمنية الجوهرية التي قد يكون العمل خسرها عبر التسليع الأوَّلي. ثم تتوّج مسيرة الأعمال بإعادة عرضها، ليس تحت مسمى البيع والشراء وإنما تحت معطى جديد هو المعطى الجمالي الصافي. ولكن مسار التتويج هذا لا يمكن أن ينطبق على كل الأعمال الفنية.

المعرض الإشكالي

أكثر من 120 لوحة، توزَّعت على ثلاثة أقسام: قاعة كبرى يمكن أن يعيد فيها الأطفال تمثيل الحكايا الرمزية للافونتين، فالرسوم أقرب إلى عالمهم، وقاعة خاصة بقصص عبلة وعنتر وجحا (مترافقة مع صوتيات)، وقاعة ثالثة طليت بالأسود تقدم أعمالاً من الحكايا الرمزية للافونتين أيضاً.
لا شك فيه أن ويلي عرقتنجي كان إنساناً مبتهجاً وذا فرح عظيمٍ بالرسم والتلوين. ولكن، في مقاربة متخصصة بين الموسيقى والتشكيل، نجد مثلاً أنه يستحيل على عازف ما أن يعزف مقطوعة موسيقية كلاسيكية انطلاقاً من «العزف ع َ السمع». فالمقطوعات هذه تحتم على العازف أن يتقن المادة المعزوفة ويجيد قراءة النوتة الموسيقية، أي الدراسة الأكاديمية. وكذا في التشكيل، فمزج الألوان وضربات الريشة والتأليف البصري والتشريح الجمالي وغيرها لا يمكن أن يجيدها هاوٍ ولو رسم عمراً كاملاً. هنا مثلاً لوحة (انتخبها المتحف للنشرة المطبوعة) اسمها «الثوران والضفدع» استخدم فيها الراحل لون الـ «لاك دو غرانس» laque de garance لتلوين الثورين وهي نصف مساحة لوحة! تقنياً، الـ «لاك دو غرانس» هي إحدى درجات الأحمر المستخرجة من نبتة. بالتالي هي من مواد طبيعية غير مكلّسة (non calcinée)، ما يجعلها ذات شفافية عالية تماماً كالألوان المائية، بحيث لا يجب استخدامها وحدها وبشكل خاص لملء المساحات! استعمال عرقتنجي لهذا اللون كثير ودائم للأسف، ناهيك عن كيفية استخدامه زيت بذر الكتان huile de lin. فهنا يظهر على شكل بقع وهناك ممتزج ببعض الضربات. وقد أسهمت الإضاءة «المتحفية» في تعرية تقنية الأعمال. هذا من دون الدخول في أزمة التأليفات وغيرها من الأخطاء الشائعة عند طلاب السنة الأولى في معهد الفنون.
لذا لا يمكن أن نطلق ببساطة على عمل الهاوي لقباً ساذجاً أو بسيطاً أو بدائياً (كما فعل المتحف وقبله من عرضوا لعرقتنجي) لنبرِّر، فنصنِّفه تصنيفاً تخصصيّاً كهذا أو نلحقه بمدرسة فنية قائمة على ركائز واضحة لا تنطبق عليه! نعم أعمال عرقتنجي هي رسومات (illustrations) زيتية وأكريليكية، غير متقنة بغالبيتها.
لكن هذا لا ينفي أنّه قد فرح بها لا بل اغتبط، وهذا جيد بحد ذاته. فعرقتنجي كان يرقص ابتهاجاً ًعند انتهائه من كل عمل، ما يؤكد صدقه الطفولي، كما طيبته وإخلاصه لما يحبّ. لكن هل الصفات الحميدة تصنع فناناً محترفاً ولو عرض مئة مرة؟ وبالمناسبة، لقد عُرضت رسومات عرقتنجي عن حكايا لافونتين في فرنسا. لكن فلنتذكر معاً: إن عدد التشكيليين المحترفين العالميين الذين رسموا الموضوع عينه وبحرفية عالية، كثر جداً، أبرزهم مارك شاغال، وبانجامين رابييه، وجان جاك غرانفيل، وغوستاف دوريه، وهونوريه دومييه، وفرانسوا شوفو، وجان بابتيست اودري وغيرهم! منهم من رسم بالغواش، ومنهم من حفر على الخشب أو من استخدم الطباعة الحجرية أو مختلف أنواع الحفر بتأليفات وتقنيات مبدعة!
هنا لا بد من العودة إلى عامل الندرة والوفرة والفرادة، للسؤال عنها. ولسنا في طور تقزيم ما قام به عرقتنجي، فقد قرر أن يرسم كل حكايا لافونتين الـ 244 وانجزها فعلاً في سبع سنوات. وكان سعيداً جداً، وهو لا شك إنجاز فردي هام. لكن هل هو انجاز «فني متحفي» هام؟ طبعاً السؤال الأخير ينسحب على أعمال فنانين آخرين في المتحف ومنهم أكاديميون... لا شك في أنّ أعمال عرقتنجي تفوقها أهمية بأضعاف.

«ويلي عرقتنجي: فضاءاته الملوَّنة»: حتى 18 أيلول (سبتمبر) ــــــ «متحف سرسق» (صالة المعارض الكبرى)