باريس | اختُتمت أمس في باريس جولة المشاورات الأخيرة بين النقابات ووزارة العمل، بخصوص مشروع إصلاح تشريعات العمل. مشروع فُتحت عليه النيران، بالرغم من أنه لا يزال غير واضح المعالم، حيث اختتمت المشاورات من دون الكشف عن أي تفاصيل ملموسة بخصوص مضامين سلسلة المراسيم الرئاسية التي يعتزم إيمانويل ماكرون إصدارها، في نهاية الشهر الحالي، والتي ستسمح بتعديل تشريعات العمل، من دون العودة الى البرلمان، كما تعهّد بذلك خلال حملته الانتخابية.
ماكرون كان قد وضع تحدّي إصلاح تشريعات العمل على رأس أولويات برنامجه السياسي الهادف إلى «تحديث البنى الاقتصادية والاجتماعية الفرنسية». لكن المراسيم الرئاسية التي وعد، خلال حملته الانتخابية، بإصدارها فور وصوله إلى الإليزيه، لا تزال معلّقة منذ ثلاثة أشهر. حيال التراجع السريع لشعبية ماكرون، بات الفريق الرئاسي خائفاً من أن تتسبّب هذه الإصلاحات ذات التوجه الليبرالي في دخول اجتماعي عاصف، قد يؤدي إلى تظاهرات عارمة كتلك التي قامت ضد إصلاحات قانون العمل، في عهد حكومة مانويل فالس، وتسبّبت في تدمير آخر ما تبقى من شعبية للرئيس هولاند، وأسهمت بالتالي في تقويض حظوظه في الترشيح لولاية رئاسية ثانية.

انضم زعيم تيار الوسط فرانسوا بايرو إلى منتقدي المشروع

هذه المخاوف دفعت للجوء إلى استراتيجية مغايرة للالتفاف على الغضب الشعبي، وذلك من خلال التستّر على مضمون المراسيم المتوقعة، وفتح مشاورات موسعة مع النقابات وأرباب العمل. ورغم التعتيم المتعمّد على فحوى هذه «المراسيم الإصلاحية»، إلا أن المعلومات القليلة التي رشحت عنها كانت كافية لتأليب جميع الأطراف، من نقابات العمال إلى جمعيات أرباب العمل، وصولاً إلى مختلف التيارات والأحزاب السياسية، اليمينية منها واليسارية.
الإصلاحات الماكرونية أثارت نقمة النقابات التي تخشى أن يؤدي التعديل المرتقب في تشريعات العمل إلى «ردة غير مقبولة عن مكتسبات وحقوق العمال، التي تحققت خلال نصف القرن الماضي». وتستند مخاوف النقابات إلى التوجه العام لهذه الإصلاحات، التي قال ماكرون إنها تهدف إلى «عصرنة علاقات العمل، بحيث لن تعود السمة الغالبة عليها هي العلاقة التقليدية بين الأجير ورب العمل، بل سيصبح رب العمل زبوناً، ولن يعود العمال مجرد أجراء، بل سيتحوّلون إلى متعاملين اقتصاديين يوفّرون لأرباب العمل الخدمات أو الخبرات أو الكفاءات التي يحتاجون إليها».
المفارقة أن هذه النظرة الليبرالية المغالية لم تسمح لماكرون بكسب ودّ جمعيات أرباب العمل. جمعية «فرانس ديجيتال»، وهي ائتلاف يضم أرباب العمل الفرنسيين في قطاع الاقتصاد الرقمي، الذي يُفترض أنه القطاع الأكثر انفتاحاً على الأشكال المستجدة من علاقات العمل، علّقت بسخرية على مشروع الإصلاح الماكروني، إذ قال رئيس الجمعية، أوليفييه ماثيو، إن هذا المشروع «أقلّ عصرية وتفتحاً من إصلاحات عام 1936»! وأضاف أن «فرانس ديجيتال» طرحت خلال المشاورات مع وزارة العمل «حزمة من المقترحات الهادفة إلى مسايرة متطلبات الاقتصاد الجديد، كسنّ تشريعات لتحفيز إنشاء الشركات التعاضدية التي تعود ملكيتها لعمالها، وخلق أطر قانونية تسمح بإشراك العمال غير الأجراء في رساميل وفوائد الشركات التي يتعاقدون معها، كما هو معمول به في العالم الإنجلوسكسوني». لكنه يقول إن خيبته كانت كبيرة، لأن تلك المقترحات اصطدمت بـ«الرؤية التسطيحية للحكومة، إذ اتضح لنا أن الليبرالية في منظورها تُختزل فقط في مفهوم واحد، وهو تخفيف تكلفة العمل لجعل الشركات أكثر أهلية للمنافسة الدولية».
على الصعيد السياسي، لم تنجح استراتيجية التكتم التي اعتمدتها الحكومة، بخصوص مضمون الإصلاحات التي تعتزم إدخالها على تشريعات العمل، في التخفيف من حدة الانتقادات؛ زعيم اليسار الراديكالي، جان لوك ميلانشون، دعا إلى تنظيم تظاهرات احتجاجية ضد هذا المشروع، يوم 23 أيلول المقبل، بالتزامن مع عودة طلبة الجامعات إلى مقاعد الدارسة. احتجاجات ستسبقها موجة أولى من التظاهرات دعت إليها نقابة CGT المقرّبة من الحزب الشيوعي الفرنسي، يوم 12 أيلول.
الانتقادات الموجهة للإصلاحات الماكرونية لم تقتصر فقط على قوى اليسار، بل امتدت من مختلف التيارات والأحزاب، بما فيها تلك التي كانت مقرّبة من ماكرون. مرشح الرئاسة السابق ألان جوبيه، الذي يتزعم التيار الديغولي في صفوف «حزب الجمهوريين»، قال إن «الأشهر الأولى من حكم ماكرون اتسمت بالكثير من الغموض والتناقض. هناك تركيز كبير على المظاهر والاتصال السياسي. أما على صعيد المضمون، فإن أفكار الحكومة تفتقد التناسق والطموح». وحذر جوبيه من عواقب الغموض الذي يحيط بمشروع إصلاح تشريعات العمل، قائلاً إن «الأداء الاقتصادي لا يمكن أن يكون أفضل من دون تشريعات تسهر على العدالة الاجتماعية».
من جهته، انضم زعيم تيار الوسط، فرانسوا بايرو، الذي أيّد ماكرون في انتخابات الرئاسة وشغل منصب وزير العدل في حكومة ماكرون الأولى، إلى منتقدي مشروع إصلاح تشريعات العمل. وقال بايرو إن «الغموض والتخبّط اللذين يطبعان أداء الحكومة يثيران الحيرة والقلق في نفوس الفرنسييين، لأنهم لا يفهمون ما هو التوجه الحقيقي للحكومة». بايرو عبّر عن خيبة أمله لأن ماكرون «وعد بالتأسيس لنمط جديد في ممارسة السياسة وإدارة الحكم، لكن ما يحدث هو العكس تماماً، حيث لا تزال بيروقراطية كبار الموظفين مهيمنة، بل صار تأثير هؤلاء في القرار السياسي أكبر من ذي قبل». وأضاف أن «اللبس الذي تثيره قرارات الحكومة في تخفيف الضرائب عن الأثرياء ومطالبة الفئات الشعبية البسيطة بتقديم المزيد من التضحيات والتنازلات، سيؤدي إلى تأليب الرأي العام». أما الضربة القاصمة التي تلقاها ماكرون، فقد جاءت من «عرّابه»، الرئيس السابق فرانسوا هولاند، الذي خرج عن صمته لأول مرة منذ مغادرته الحكم. في أول ظهور علني له، على هامش مهرجان السينما الفرنكوفونية، حمل هولاند بشدة على مشروع ماكرون لإصلاح تشريعات العمل، قائلاً: «يجب ألا تُفرض على الفرنسيين تضحيات لا مبرر لها. فلا حاجة إلى جعل قوانين العمل أكثر مرونة ممّا فعلناه». وأضاف محذراً من أن «فرض المزيد من المرونة» (أي منح أرباب العمل مزيداً من التسهيلات) من شأنه أن يتسبب في «حدوث قطيعة»!