قام الرئيس اﻷميركي دونالد ترامب، كاستمرارية للعبة ليّ الذراع التي يريد فرضها على حكومة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، بفرض عقوبات اقتصادية جديدة على فنزويلا، وهذا بعد تهديده كراكاس في 11 آب/أغسطس الماضي بتدخل عسكري على أراضيها.
إذا كانت اﻷزمة الاقتصادية والسياسية التي تعرفها البلاد مدبّرة ومسيّرة من طرف قطاعات اقتصادية واسعة وقوية، فإن على خلف هوغو تشافيز أيضاً مواجهة الهجمات الآتية من بعض الداعمين التقليديين للعقيدة التشافيزية، إذ كان الرئيس مادورو قد تلقّى انتقادات حادة حتى من داخل المعسكر اليساري الراديكالي الذي لامه على تنازلاته أمام رأس مال الشركات المتعددة الجنسية (بإعطائه اﻷولوية لتسديد الدين الخارجي وفتحه الباب أمام الاستثمار اﻷجنبي) والبورجوازية الكومبرادورية المحلية (التي تتّحد مصالحها مع مصالح النظام الرأسمالي والمصرفي الدولي). فبالرغم من اعتماد سياسة دعم حازمة للطبقات الفقيرة، كان منطق التسوية التي أقرّها مادورو قد أحدث شرخاً في الإجماع المتمحور حول معارضة النيوليبرالية.
ومنذ وفاة أبي الثورة البوليفارية الذي كان يركز جهوده حول تحييد قدرات اليمين الاقتصادي والسياسي على زعزعة الاستقرار، فإن هذا اﻷخير، وبدعم واضح وقوي من الولايات المتحدة، يخوض هجمة معاكسة لتبديد إرث المرحلة التشافيزية واسترجاع السلطة؛ فبعد فوزه في الانتخابات التشريعية سنة 2015، ما زال هذا التيار يسبح على موجة الاستياء الشعبي العارم بسبب التضخم وندرة المنتجات والفساد، كما يحاول جاهداً تعبئة الجماهير لمصلحته.
في حوار مع صحيفة L’Humanité الفرنسية، صدر في نيسان/أبريل الماضي، يندّد المختص في أميركا اللاتينية ومؤلف كتاب «اﻷطفال المخبؤون للجنرال بينوشيه. مختصر الانقلابات الحديثة وطرق زعزعة الاستقرار اﻷخرى»، موريس لوموان، بالقراءة المبسطة والمنحازة للأزمة في فنزويلا، وتحمُّس الصحافة الغربية لحشود «المجتمع المدني» و«الطلاب اللطفاء» في الشوارع المطالبة باستقالة «حكومة قمعية ومتسلطة». وهو يذكر أن «التخريب الاقتصادي الذي يفضي إلى الندرة وطوابير اانتظار في فنزويلا هو ارتداد مباشر للسياسة المطبّقة في بداية الستينيات (مع) كوبا بعدما حددت واشنطن بكل سرية أن الوسيلة الوحيدة التي يمكن اعتمادها لقلب التأييد الداخلي هي خلق خيبة اﻷمل والاستياء المبنيين على عدم الرضا الاقتصادي والحرمان... من أجل إثارة الجوع واليأس اللذين سيؤديان الى إسقاط الحكومة». وهي وسيلة استعملت أيضاً في سنوات السبعينيات ضد سلفادور أليندي، في تشيلي.
وبالفعل، فمنذ نهاية الأربعينيات، تشنّ الولايات المتحدة سياسات عدوانية للتدخل وتنظم انقلابات عسكرية في الدول التي تحاول عن طريق سياسات التأميم رفع أو تخفيف الهيمنة الاقتصادية اﻹمبريالية، إذ تندرج عمليات زعزعة الاستقرار التي استهدفت بوليفيا في 2008، والهندوراس في 2009، واﻹكوادور في 2010، والباراغواي في 2012، والبرازيل في 2016، في إطار هجمة سياسية معاكسة واسعة ﻹفشال ديناميكية التحولات الاجتماعية التي أطلقتها بعض الحكومات التقدمية. تاريخياً، إن هذه الهجمات المزعزعة للاستقرار شكلت إحدى المقاربات المفضّلة للولايات المتحدة لدعم مصالحها وإضعاف الحكومات التي تعتمد سياسات سيادية. وبسيطرتها على الثروات اﻹستراتيجية لبلدان أميركا اللاتينية، فإنها تحدد شروط الحصول على المواد اﻷولية.
في هذا اﻹطار، استهدفت حروب متوسطة وصغيرة الشدة مجمل اﻷنظمة التي عملت على مواجهة نفوذ الهيمنة اﻷميركية: ساندينو في نيكاراغوا، ليزارو كارديناس في المكسيك، بيرون في اﻷرحنتين، أربينز في غواتيمالا، فيديل كاسترو في كوبا، خوان بوش في جمهورية الدومينيكان، فيلاسكو ألفارادو في البيرو، خوان خوسيه توريس في بوليفيا، أليندي في تشيلي.
في الثمانينيات، بينما كانت أميركا اللاتينية تعرف أزمة اقتصادية عميقة خلقت تضخماً كبيراً أتى على اﻷخضر واليابس، وكذا تفككاً اجتماعياً ولا استقراراً سياسياً، فإن اﻹرادة اﻷميركية هي التي تم فرضها على كبرى الدول المدينة. كحلٍ لأزمة الديون التي صاحبها ركود وتضخم كبير، كانت اﻹصلاحات المقترحة حينها تدعو بشكل ممنهج الى سياسات ترشيد صارمة للنفقات وترقية الصادرات وتحرير التجارة الخارجية. لعبت تشيلي في عهد الجنرال بينوشيه دوراً محورياً في رفع القيود والخصخصة والانفتاح على التجارة الدولية. أما في فنزويلا، وابتداءً من سنة 1989، اعتمد كارلوس أندريس بيريز برامج التصحيح الهيكلية لصندوق النقد الدولي التي أدّت إلى تراجع اجتماعي وتفشٍّ واسع للفقر.
أمام المشروع السياسي الذي تحمله البورجوازية الكومبرادورية المتحالفة مع كبار ملاك اﻷراضي، تجسّدت الآمال الشعبية في شخص هوغو شافيز، القادم من صفوف الجيش، والذي ظهر كناطق باسم المضطهدين، يلتزم بتبنّي القضية الاجتماعية بكل جوارحه. إنّ مكاسب «الثورة البوليفارية» التي وقف وراءها شخصياً واضحة للعيان: تأميمات، تشجيع التسيير الذاتي، إنشاء تعاونيات، ترشيد النفقات وتنظيم الصرف، ولكن أكثرها نجاحاً كان الإنجازات الاجتماعية في ميدانَي الصحة والتعليم. ورغم الانقلاب العسكري في 2002 المدعوم بشدة أميركياً، فإن شافيز أفلح في تخطّي العقبات بالحفاظ على شرعيته الشعبية وتقوية تحالفاته داخل مؤسسة الجيش والصناعة النفطية التي هي أساس اقتصاد البلاد.
عرفت التجربة الشافيزية، المُقدَّمة أحياناً ليس كرأسمالية دولة ذات صبغة وطنية، بل كاشتراكية حقيقية، في قراءة سطحية ومبسّطة تجهل حقيقة الاشتراكية والسبل المؤدية إليها، حدوداً موضوعية، إذ يندّد المناهضون للشافيزية بالطريق المسدود الذي قد تكون سياسة المزاوجة بين التخطيط والسوق والاعتماد المفرط على المحروقات كمحرك اقتصادي واجتماعي قد أوصلت إليه البلاد. ترى وجهة النظر النقدية هذه أن غياب قاعدة إنتاجية واللجوء الواسع النطاق إلى الاستيراد قد سمحا لبورجوازية تجارية بالظهور والازدهار بفضل المضاربة الكبيرة في أسعار كل المواد المستوردة. هكذا، بمحاولة تقليص قوة الطبقة البورجوازية من دون محاربتها بلا هوادة حتى القضاء نهائياً على كل امتيازاتها وتجريدها من ممتلكاتها، لم يكن شافيز قد أتى بحل هيكلي. ودائماً في هذه المقاربة تجسّد التجربة الفنزويلية حدود الخطاب اﻹصلاحي الذي ينادي بإصلاح النظام الرأسمالي في إطار العملية الديموقراطية، بحيث إن وجود طبقة بورجوازية تمتلك السلطة الفعلية يكرس وجود التناقضات في المصالح بين مختلف الطبقات، ما يؤدي إلى تعطيل التطور والتغيير الاجتماعي في غير مصلحة الطبقة المضطهدة.
وفي حوار مع موقع Cubadebate، يلاحظ الباحث الاقتصادي الأرجنتيني كلاوديو كاتز، في ما يخص فينزويلا، أنّ «الحكومة كان بإمكانها المقاومة، ولكن لم يكن باستطاعتها تحويل هذه المقاومة إلى نموذج اقتصادي مناهض للرأسمالية وتجاوز إرث الاقتصاد الريعي الفنزويلي. كانت هنالك فترة عرفت تحسّناً اجتماعياً كبيراً، ولكنها لم تغيّر شيئاً في الهيكلة اللامنتجة، والبلد يعيش دائماً صراعاً من أجل السيطرة على الريع النفطي، اﻷمر الذي يؤدي الى نزاعات دائمة وضغوطات من طرف الرأسماليين من أجل زعزعة استقرار البلاد. يظل الاقتصاد عاملاً أساسياً في هذه الثورة».
من المؤكد أن التغيير الهيكلي مشروط بقدرة القوى الاجتماعية والسياسية على كسر الطبقة المهيمنة، ولكن هل بإمكان هذه الاستراتيجية أن تطبّق على أرض الواقع دون اﻷخذ في الاعتبار موازين القوى التي هي في مصلحة الإمبريالية؟ الشافيزية ليست تشويهاً للاشتراكية، با هي عملية سياسية يجب عليها أن تقود قريباً إلى هذا الخيار مع أخذ السياق الموضوعي في الاعتبار. كان شافيز يعلم أكثر من أي شخص آخر أن القضاء النهائي على السيطرة الاقتصادية والسياسية لرأس المال يقتضي الذهاب أبعد من تأميم القطاعات اﻹستراتيجية. ولكنه كان واعياً أيضاً بأن القضاء على الاستغلال الرأسمالي يستلزم تغييراً جذرياً في ميزان القوى الحالي. لم يكن يبحث عن تسوية مع البورجوازية الخاضعة للإمبريالية لشراء السلم الاجتماعي بقدر ما كانت مقاربته الإستراتيجية تهدف إلى تفعيل ديناميكية إصلاحات داخلية مدعومة بأثقال اقتصادية مضادة على المستوى الإقليمي. بعبارة أخرى، كان هدفه ترقية الوحدة الإقليمية لتعزيز الاستقلال الوطني. وفق هذا المنظور، كان شافيز العمود الفقري في اتحاد دول أميركا الجنوبية ومجموعة دول أميركا اللاتينية والكاريبي، اللذين كان هدفهما هو ترقية العمل الجماعي لدول القارة بهدف التأثير بشكل أكبر على موازين القوى وتعزيز النضالات الاجتماعية من أجل مستقبل أكثر تحرراً.
إنّ محاربة هيمنة طبقة رأسمالية عابرة للحدود تقتضي قبل كل شيء فكّ رباط التبعية للولايات المتحدة ووسائل هيمنتها، كالبنك العالمي وصندوق النقد الدولي. يُحسب لشافيز أنه عبّد طريق التغيير بسياسته التي كان لها صدى إقليمي، فخلق هذا التطور الحاجة لدى الولايات المتحدة للتدخل من أجل القضاء على هذا الإرث الثوري. في نظام تعيث فيه الهيمنة الإمبريالية فساداً، ليست السياسة في اﻷخير إلا مواصلة للحرب بطرق أخرى.