«إن كل حالة تُغذي قوى تؤدي إلى تدمير الحالة نفسها»هايمان مينسكي

في خضم السجال الذي حصل بين مصرف لبنان وحاكمه وجريدة "الأخبار" في الأسابيع الماضية، على خلفية نشر معلومات عن "هندسات مالية" جديدة وإقراض بنك البحر المتوسط استثنائياً، كان أول ما يتبادر إلى الذهن أن المصرف المركزي في مأزق.

ربما هذه المرة الأولى التي يظهر فيها المصرف عاجزاً، خائفاً ومتردداً، منذ عام 1992 عندما جرى تتويج حاكمه في ما يمكن وصفه "رئيس الرأسمالية اللبنانية" على غرار التسمية التي أطلقت على ريتشارد غراسو رئيس بورصة نيويورك بوصفه "رئيس الرأسمالية"the chairman of capitalism. لقد اضطر مصرف لبنان إلى الهجوم الكلامي والتهديدي في أمور اعتبرها حتى المصرف المعني (بنك البحر المتوسط) أنها "مجريات مصرفيّة مألوفة بين مصرف وسلطاته المصرفيّة".
إذا كانت مقالات "الأخبار" قد بيّنت "مجريات مصرفيّة مألوفة بين مصرف وسلطاته المصرفيّة" وسياسات المجلس المركزي لمصرف لبنان في الهندسات المالية أو الإقراض الاستثنائي، فهذا لا علاقة له بتسريب الأسرار أو تشويه السمعة وما إلى ذلك من سلسلة من الاتهامات السطحية. فالشكل الذي تعاطى به مصرف لبنان مع هذه المقالات يعكس قلقه ليس من كشفها، فهي مكشوفة وهو يعلنها، وإنما يقلقه تناول هذه المقالات الموضوع من الناحية الاقتصادية من حيث كلفتها وارتباطها بالمالية العامة وكونها قناة جديدة في عملية تحويل الثروة والدخل من اللبنانيين عموماً إلى المصارف وكبار المودعين فيها. إن هذا التحليل الاقتصادي الذي أراد أن يفسّر للبنانيين ما حدث من إلقاء للنقد على المصارف وكيفية تمويله غير مسموح به على ما يبدو.
يريد المصرف المركزي الاستمرار في كونه "رئيس الرأسمالية اللبنانية" بلا منازع وينشر الدعاية الإيديولوجية بأن ما يفعله إنما يفعله فقط للمصلحة العامة. فهكذا صوّر الهندسات المالية على أنها إجراءات ضرورية ومن دون كلفة من أجل جلب العملات الصعبة بهدف سد العجز الذي يهدد ميزان المدفوعات، وبالتالي النقد اللبناني.
ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، فالمصرف المركزي عبر الهندسات المالية لم "يطبع" دولارات أو يخرجها كالأرانب من القبعة (قد يحدث هذا في السياسة اللبنانية، أما في الاقتصاد فلا)، وهي ليست لعبة win-win بحيث يربح لبنان ميزان مدفوعات إيجابياً وتربح المصارف بزيادة أرباحها وبزيادة رأسمالها، بل هي لعبة صفرية (zero sum game)، فمقابل من يربح هناك خاسر (مثل اللوتو حيث الجوائز هي جمع كل خسارات اللاعبين). والرابح هنا المصارف وأصحاب الرساميل الكبرى المودعين "الجدد" بالدولارات، والخاسر هو المال العام المتأتي من دفع الدولة للفوائد على سندات الخزينة التي يحملها مصرف لبنان ومن إعادة تقييم الذهب وما يحصله المصرف المركزي من ربح أميري (seigniorage). وبالتالي فإن ربح أو خسارة المصرف المركزي ليس أمراً يخص حاكميته، بل هو أمر عام لأن قانون النقد والتسليف يلزم المصرف أيضاً بتحويل جزء من أرباحه لخزينة الدولة.

الهندسات المالية ما هي
إلا مخدّر اصطناعي، وتعني
الغرق في الرأسمال الخيالي

بالإضافة الى ذلك، إن استمرار مصرف لبنان بالمساهمة في عملية تركز الثروة في لبنان بأيدي القلة هو عمل لم ولن يمر من دون تعليق أو انتقاد على الأقل، فعمل المصرف منذ تأسيسه (حتى نكون منصفين) لا هو حيادي ولا هو لخدمة المصلحة العامة، بل هو لخدمة الرأسمال المالي والقطاع المصرفي، ولكن في السنوات الـ 25 الماضية، تجذّر هذا الانحياز جاعلاً من الاقتصاد اللبناني "العمود الفقري" للمصارف وليس العكس كما يدّعون. إن هذا هو الذي يهدد الاستقرار الاجتماعي أيضاً.
هنا سأستشهد بالنقاش الذي يحصل حول عدم المساواة في الولايات المتحدة. يقول المستثمر والبليونير الأميركي نيك هاناور (وليس بيرني ساندرز) بوحي من الثورة الفرنسية: "إذا لم نفعل شيئاً لتصحيح أوجه الإجحاف الصارخة في هذا الاقتصاد، فإن المذاري (آلة زراعية) ستأتي لتحاسبنا. إذ لا يمكن لأي مجتمع أن يحافظ على هذا النوع من عدم المساواة المتزايد. في الواقع، لا يوجد مثال في تاريخ البشرية حيث تراكمت الثروة بهذا الشكل، ولم تخرج المذاري في نهاية المطاف. أقول اعطونا مجتمعاً غير متساو للغاية، وسوف ينتج إما دولة بوليسية أو انتفاضة، وليس هناك أي مثال مغاير لذلك. السؤال ليس إذا سيحصل هذا الأمر، وإنما متى". عطفاً على كل هذا، ماذا يريد مصرف لبنان: مقالات أم مذاري؟
في هذا المجال أيضاً، وفي الوقت الذي يجري فيه الضغط من أجل وقف الزيادات التي أقرّت أخيراً على الرأسمال المالي المستفيد من سياسات المصرف المركزي، ومن ضمنها الطعن الذي قُدّم الى المجلس الدستوري بذريعة عدم دستورية ازدواجية الضريبة خدمة لمصالح المصارف، وكل ذلك بحجة التأثير السلبي على الاقتصاد، لا بد من ذكر تقرير جديد صدر عن معهد دراسات السياسات (IPS) في واشنطن يؤكد أن خفض الضرائب على هذه الطبقات لا يؤدي كما يشاع الى زيادة وتيرة خلق الوظائف، بل فقط الى زيادة ثروة الأغنياء أصلاً. فقد أظهرت الدراسة أن الشركات الأميركية التي تدفع معدلات ضريبية أقل من غيرها، كانت أكثر عرضة لخفض القوى العاملة على مدى السنوات التسع الماضية. وتظهر البيانات أيضاً أن انخفاض معدلات الضرائب هذه غالباً ما تؤدي إلى زيادات في رواتب الرؤساء التنفيذيين وعوائد المساهمين. وفي هذا الإطار، يقول هاناور أيضاً "عندما يكون هناك نظام ضريبي حيث الإعفاءات والضرائب المتدنية هي لمصلحة الأكثر غنى وكل ذلك باسم خلق الوظائف، فإن جُل ما يحدث هو أن هؤلاء الأغنياء يصبحون أكثر غنى".
لكن السؤال الأهم من كل هذا ربما: هل المال من المصرف المركزي، الذي يهطل على المصارف من علو، أو مال الهليكوبتر على حد تعبير ميلتون فريدمان، سينقذ النظام من الانهيار؟ إن أي متتبع لما حصل ويحصل لا بد أن يصل الى الاستنتاج أن هذه الإجراءات من هندسات مالية وغيرها هي إجراءات تطرفية، إذ إنها تعكس الأزمة المتفاقمة للنموذج الاقتصادي اللبناني. فكل متغيرات النموذج تنهار، بدءاً من انتهاء الأمل بالفوائض الأولية لحل مديونية الدولة، وانتهاء الأمل بأن النمو يحل كل المشاكل، وتراجع ربحية المصارف، وانتهاء مرحلة الأجور المتدنية إذا انتقلت عدوى السلسلة الى الاقتصاد الخاص، وأخيراً تراجع منسوب أفيون النموذج، أي تدفق الأموال من الخارج، بشكل خطير.
إن المصرف بإجراءاته هذه يبدو كأنه يعلم أن النموذج يغرق أكثر فأكثر. فالهندسات المالية ما هي إلا مخدر اصطناعي (synthetic) (وهي أخطر) وتعني الغرق أكثر وأكثر في الرأسمال الخيالي، كما تؤشر الى أن درجة الهشاشة المالية ارتفعت في النظام ككل وأصبحنا في أوضاع دقيقة على عدة صعد: في مالية الدولة من حيث إصدار سندات سنوياً لدفع الفائدة على الدين العام، والآن في الهندسات التي يبدو أنها ستصبح متتالية لسد عجز ميزان المدفوعات التي يوضع الدفق الناتج منها إما في شهادات الإيداع لدى مصرف لبنان أو كما يطلب الآن في سندات الخزينة لرفع أرباح المصارف اصطناعياً. والأمر الأخير لا يمكن أن يستمر الى ما لا نهاية، إذا استمر العجز في هذه الحسابات الخارجية، لأنه عندها ستحصل "لحظة" انكسار لا محالة.
الكثيرون سمّوا الأزمة المالية الأميركية في عام 2008 "لحظة مينسكي" (نسبة الى هايمان مينسكي الاقتصادي الأميركي الذي وضع نموذجاً لتطور الهشاشة المالية في النظام الرأسمالي وأهملت أفكاره لسنوات طويلة، لأنها اعتبرت كينزية يسارية بنكهة ماركسية، الى أن أتت الأزمة). باختصار، نظرية مينسكي تقول إنه بسبب كون المؤسسات الرأسمالية تتجه الى استعمال التمويل من أجل الاستثمار، فإن هناك ميلاً لهذه المؤسسات أن تتجه في ظروف معينة من تمويل احترازي (حيث الدفق النقدي يغطي الدين والفائدة) الى تمويل مضاربي (حيث الدفق يغطي الفائدة فقط)، وصولاً الى تمويل بونزي، حيث الدفق لا يغطي الفائدة (التسمية نسبة الى Charles Ponzi أهم المضاربين الهرميين في أميركا والذي أصبح اسمه مرادفاً لها). في الوضع الأخير، الأمل الوحيد للمؤسسات هو ارتفاع قيم الأصول، وبالتالي فإن أي صدمة ستفجر الأزمة مؤدية الى انهيار القيم ويتحول الاستقرار الى عدم الاستقرار.
في قصة قصيرة كتبها إدغار آلن بو بعنوان "الهوة وبندول الساعة"، وصف غرفة تعذيب إبان محاكم التفتيش في توليدو، حيث الجدران تطبق ببطء على السجين وفي منتصف الغرفة هوة سحيقة غير معلومة العمق والخواص. هكذا يبدو مصرف لبنان، كهذا السجين، عندما يتصرف كأن المتغيرات تطبق عليه من كل الجهات فيهرب الى الأمام، فكما يقال "الأيام اليائسة تتطلب إجراءات يائسة"، وهو يدّعي نقيض ذلك. كل هذا يؤشر الى أنه آن أوان أمر واحد وهو إنهاء هذا النموذج الذي أودى بالاقتصاد الحقيقي الى الهاوية، وحماته الآن يحاولون أن يدافعوا عنه باختراعات مالية والذهاب الى ما أبعد من اقتصاد السحر الأسود... الى الخيمياء، وإلى دفع المضاربة الى حدها الأقصى. كل هذا لعل الوقت يُسعف، أو لعل حدثاً يأتي ويُنقذ ما يُمكن إنقاذه. لكن الأمور أعمق من ذلك بكثير، فهل سيهرب سجين توليدو كما فعل في قصة آلن بو؟ أم أن قوى التدمير قد أطلقت، وسنشهد التغيير إما بالضرائب أو بالتضخم أو بمذارٍ، أو لربما عبر كل ذلك جميعاً؟