«لقد أصبحت الحياة أفضل بما لا يُقاس منذ أن أُجبرت على عدم أخذها بجديّة»هَنتر س. تومبسون

■ ■ ■


لو أنّ السفير الاماراتي يوسف العتيبة (أو «سِف»، كما يناديه أصدقاؤه الغربيّون) قد عاصر الكاتب الأميركي هَنتر تومبسون وقابله، فلا ريب في أنّه كان سيُعجب به ويتقرّب اليه ويطلب ضمّه الى «مجموعة ألفا»، كما يسمّي العتيبة ــ على ما يبدو ــ دائرة أصدقائه اللصيقين. المسألة لا علاقة لها بأدب تومبسون (رائد «صحافة الغونزو» ومُطلقها) وفكره وتأمّلاته عن المجتمع والسياسة، بل بأسلوب حياته ومفهومه عن المرح والمتعة.

إضافة الى رحلته الصّاخبة الشهيرة الى لاس فيغاس، التي سجّلها تومبسون في كتابه الأوسع انتشاراً، يورد كتابٌ لجين كارول «جدولاً يومياً» مفصّلاً لنشاط الكاتب الراحل، ما زال يثير دهشة النّاس وتشكيكهم. بداية الروتين اليومي، بحسب الجدول، هي مع الاستيقاظ في السّاعة الثالثة ظهراً (يبدأ تومبسون العمل في منتصف الليل)، وينطلق نهار تومبسون معزّزاً بأربعة أصناف من المخدّرات وخمسة من الكحول، قبل أن يأوي في الثّامنة صباحاً الى السرير بمساعدة مخدّر الهالسيون (الروتين مكتوبٌ على الشكل الآتي: «الثالثة ظهرا: الاستيقاظ؛ الثالثة وخمس دقائق: ويسكي «تشيفاز» مع صحف الصباح وسجائر «دنهِل»؛ السّاعة 3.45: كوكايين، الخ» ــ والمدهش حقّاً هو أنّ تومبسون قد عاش حتّى سنّ السابعة والستّين، وهو مات منتحراً قبل أوانه).
بحسب الدفعة الأخيرة من الرسائل الالكترونية التي تمّ تسريبها من حساب يوسف العتيبة، وهي تتناول هذه المرّة حياته الشخصية ودائرته الاجتماعيّة، وقد كتب موقع «ذا انترسبت» تحقيقاً مطوّلاً عنها، فإنّ الصديق الأميركي الحميم للعتيبة، بايرون فوغان (الذي عيّنه السفير في عدّة مناصب، منها مدير مؤسسة خيرية أنشأها في واشنطن)، قد اختلس أموال المؤسسة وأنفق ملايين الدّولارات على الإدمان والكحول والدّعارة في سنوات قليلة، قبل أن تضبطه السلطات وتحاكمه وتسجنه. ما تكشفه الرسائل، وهنا قلب المسألة، هي أنّ فوغان لم يكن يفعل أكثر من مجاراة نمط حياة صديقه الاماراتي (الذي يعرفه منذ أيام الجامعة في جورجتاون). فالمراسلات التي تمّ كشفها عن حياة السفير في واشنطن ــ منذ أن كان دبلوماسياً في السفارة ــ هي عن مجموعة أصدقاء تصرف وقت فراغها على نوادي التعرّي والدّعارة؛ وترسل الراقصات من واشنطن الى نيويورك لـ«تسلية» الضيوف حين يسافرون اليها، وتنظّم رحلاتٍ للسياحة الجنسية الى ابو ظبي ولاس فيغاس (قال أحد أعضاء «حلقة» العتيبة، بعد أن اختلف مع أصدقائه السابقين، أنّ الفتيات كُنّ يُرسَلن اليهم في فنادق ابو ظبي، فيما خطّ فوغان ــ قبيل رحلة الى لاس فيغاس ــ صيغة «عقدٍ» قانوني، اقترح مازحاً أن يطلبوا من الفتيات اللواتي يودون شراءهنّ التوقيع عليه). المثير للاهتمام هو أنّ هذه الأخبار ــ التي تتضمّن مخالفات قانونية، واستغلال نساء قد يكنّ ضحايا لتجارة الرقيق الأبيض، والاختلاس من أموال الدولة الاماراتية وانفاق المبلغ على الكحول والقمار ــ كلّ ذلك لم يثر تغطية إعلاميّة جديّة في الغرب ــ بل ونكتشف أنّ بعض هذه الرسائل كان قد تسرّبت في سنواتٍ سابقة، وقد طُمست القضية في وقتها ايضاً ومُحيت الوثائق عن الشّبكة.

الصورة والواقع

المسألة هي أنّ دولة العتيبة، الامارات، يتمّ تقديمها باستمرار (سواء من قبل اللوبي الاماراتي أو المسؤولين الأميركيين وــ أخيراً ــ الصهاينة) كأحد «النماذج» التي يجب على باقي شعوب الشرق الأوسط أن ينظروا اليها وأن يحذوا حذوها. بعد اندثار الناصرية ومشروع الدّولة الوطنية بصيغة «ما بعد الاستعمار»، وبعد حرب الخليج تحديداً، أصبح «نموذج دبي» هو البديل الوحيد الذي يتمّ ترويجه، في الإعلام والدعاية والثقافة اليومية، عن الدولة العربية الناجحة والمزدهرة (وغالباً في مقارنةٍ ذات مغزىً سياسي بين ثراء الامارات و«منجزاتها»، وبين ما جلبته الاشتراكية والعروبة على بلدانها). في هذا الإطار، يكون العتيبة هو الممثّل «الأكمل» لهذا النّموذج، وقد تمّ إعداده وتدريبه ليلعب هذا الدّور تحديداً، ولكي يكون، في واشنطن، مثال «الاماراتي الجديد» و«العربي الجيّد»: يتقن الانكليزية ومتشرّب للعادات الغربية؛ «واقعيّ»، يناصر سياسات جورج بوش واسرائيل، ولا أثر فيه لايديولوجيات «محليّة»؛ ويعطي هو وزوجته، في المناسبات الاجتماعية، صورةً عن الثنائي الاماراتي «الحديث»، المتعلّم والمثقّف.
ولكنّ المشكلة تتلخّص في الفارق بين الصّورة وما خلفها، أو بين النموذج والواقع. العتيبة مثلاً، يتقن انكليزية الشّارع (وهو ما تمتدحه عليه باستمرار، المطبوعات الاميركية، كأنه إنجاز)، ولكن لا دليل على أنّه يتقن الانكليزيّة «الأخرى»، الأدبية والأكاديمية. ومراسلاته ــ السياسية والشخصية ــ لا ترينا «عقلاً» تحليلياً، ضليعاً في السياسة الدولية (ومن الصّعب أن نقتنع أنّ من يعيش هذه الحياة لديه وقتٌ واهتمام للقراءة والتعلّم). العتيبة درس في جورجتاون، ولكنّه لم يتخرّج منها؛ وأحد الذين ساهموا في «إعداده» والإشراف عليه، السفير الأميركي السابق فرانك وايزنر، يقول ــ كما تنقل الـ«انترسبت» ــ «هو لم يذهب الى الجامعة لمطاردة الفتيات وشرب البيرة ولعب كرة القدم… كان يريد تحضير نفسه للحياة التي تنتظره». ثم نفهم أن «الحياة التي تنتظره» هي حياة لهوٍ وإسراف مع أصدقائه الأميركيين ــ وهناك نمطٌ معروف للأميركي الذي يتحلّق حول الاثرياء العرب ويحاول التقرّب اليهم والعيش على حسابهم، ومجموعة العتيبة تطابق هذا المثال بامتياز؛ والطريف هو أنّ هؤلاء «الأصدقاء» تصرّفوا تماماً كما تتوقّع من هذه العلاقات الانتهازيّة: أحدهم انقلب عليه وفضحه، والثاني سرق منه. أهمّ ما في الوثائق، بمعنى المسؤولية السياسية، هو أنّ العتيبة ظلّ يدافع عن صديقه بعد أن كُشفت سرقته للمال الاماراتي، ودفع أتعاب محاميه وطلب من المحكمة عدم مقاضاته (أي أن بايرون فوغان قد ذهب الى السجن بتهمة الاختلاس رغماً عن أرباب عمله)؛ بل هو أبقاه في وظيفةٍ أخرى في السّفارة الاماراتيّة، ولا نجد في أيّ مكانٍ في الوثائق سعياً من العتيبة لاستعادة المال المسروق، أو اهتماماً بمقداره. بل إنّ المحامي قد كتب اليه، بدايةً، بأنّ بايرون قد أدين باختلاس أقلّ من مليوني دولار، ما يعني استرجاع أكثر من خمسة ملايين متبقية في رصيد المؤسسة؛ ثم كتب بقلقٍ ــ حين كشف على الوثائق المالية ــ بأنّ الحساب فارغٌ تقريباً، والمال كلّه قد اختفى، فلم يبدِ العتيبة أيّ اهتمام.

في الدّاخل

في «ويكيليكس»، تجد تقريراً عن شخص العتيبة كتبته الخارجية الأميركية يوم تسلّم منصب السّفير في واشنطن. يشرح النصّ أن يوسف العتيبة ينتمي الى عائلةٍ قريبة الى السّلطة وثريّة (كان والده يمتلك وكالة للسيارات الأميركية)، وأنّه قد اختير ــ لسببٍ ما ــ دوناً عن اخوته ليتمّ إعداده وإدخاله الى حلقة محمّد بن زايد، ليصبح «رجله» في اميركا. تقول الوثيقة إنّ العتيبة، حين التقى بأختٍ له في مطعم في ابو ظبي واقتربت منه لتسلّم عليه، حيّاها ببرود كالغرباء، وشرح لضيفه الأميركي أنّ لديه «عدداً كبيراً من الإخوة» لدرجة أن العلاقة معهم «أشبه بالعلاقة مع أبناء العمّ». سلطة العتيبة تنبثق مباشرة من ارتباطه بشخص وليّ العهد، بغضّ النّظر عن منصبه، فيصبح هو ممثّلاً لبن زايد ــ كما تصفه الوثيقة ــ في الاجتماعات، ويتكلّم (مع غير الشيوخ) بسلطةٍ وفوقيّة. الآية تنقلب تماماً في وجود أحد أفراد الأسرة الحاكمة أو حضور محمّد بن زايد، يقول تقرير الخارجية الأميركية، حيث يظلّ العتيبة واقفاً في طرف الغرفة صامتاً مطأطأ الرأس، لا يجرؤ على مقاطعة الشيخ أو الاختلاف معه. هذا نمطٌ معهودٌ في كثيرٍ من الأنظمة، حيث تجد بلاطاً داخل بلاطٍ داخل بلاط، ويلعب المسؤول دور نديم الأمير في بلاطه، ثمّ يكون هو «الأمير» في حلقته الخاصّة، التي ينفق عليها وتستفيد منه. ولكنّ السّؤال هو: هل هذا هو «النّموذج»، والطريق الى الحداثة، الذي يدعوننا اليه؟ مزيجٌ بين أكثر الممارسات تخلّفاً، في الحكم وفي المجتمع وفي معاملة النساء، وبين التماهي السياسي مع الغرب والصهيونية؟
دبي، التي أصبحت مستودعاً لمال النفط وفوائضه (ورساميل أخرى من الهند وبريطانيا وايران، ولكنّ أكثر الاستثمار في دبي مرتبطٌ بالنفط والدليل هو أنه حين ينخفض سعر الطّاقة يحلّ الرّكود في كلّ القطاعات، ولو كان الاقتصاد العالمي ينمو)، و«اسفنجة» تنفتح على كلّ تأثيرات العولمة، بالمعنى التجاري والنيوليبرالي، ليست نموذجاً فريداً في عالم اليوم. الحكم الاماراتي، من جهةٍ أخرى، يقدّم «نموذجاً» في مجالٍ آخر، قلّما يتطرّق اليه الإعلام: من يُتابع تطوّرات الأمن في الإمارات، خصوصاً منذ التسعينيات، والاعتماد المبكر لأساليب الرقابة والتنصّت، يعرف أنّك في الامارات ــ على الأرجح ــ موجودٌ تحت مستوىً من الرقابة لا مثيل له في العالم، فيزيائياً والكترونياً؛ وصولاً الى أحدث البرامج التي تتعرّف على وجوه الناس في الشّارع، وتخزّن مكالماتهم ورسائلهم، وتحلّل نشاطهم على الانترنت (ولا توجد قوانين خصوصية تمنع الدولة من مراقبتك في أيّ مكانٍ وبأيّ شكل). كنت أقول دائماً إنّ الخوف الدائم المزروع في العقلية الغربية من «العودة الى النازيّة» ينقصه الخيال والدقّة. إن كانت الفكرة هي أن فظائع النازية قد نتجت عن التقاء فكرةٍ فاشية منفلتة مع تكنولوجيا الدولة الحديثة ووسائل ضبطها ورقابتها، فإنّ «فاشية الأربعينيات» ستختلف بشكلٍ هائل عن «فاشية القرن الجديد»، أقلّه لأنّ حالة التكنولوجيا والرقابة اليوم تسمح للدّولة بفعل أمورٍ لم يكن النازيون ليحلموا بها. بهذا المعنى فإنّ النظام الاماراتي، حيث يلتقي المال والإرادة والتخلّف السياسي مع التكنولوجيا الحديثة، هو مرشّحٌ لأن يكون أوّل نموذجٍ في عالمنا عن مجتمع الرقابة الكامل ــ وفي هذا المجال تحديداً وليس أيّ شيءٍ آخر.
أمّا التّبعيّة للغرب والتعامل مع الصهيونية، واستخدام الثروة لاستعباد النّاس ــ رجالاً ونساءً ــ بدلاً من بناء مجتمعات أخلاقية وصحيّة، فهذه لا تشكّل «نموذجاً» الّا لمن لا يمانع أن يكون تحت سلطة العتيبة وأربابه، ورهن إرادتهم وأمرهم. ولهذه الأسباب كلّها، ليس غريباً ألّا يتعرّض العتيبة للمساءلة، وأن لا يؤنّبه وليّ العهد، ولا يحاسبه أحد على سوء استخدام أموال البلد؛ فيوسف العتيبة لم يثبت (على كلّ المستويات) الّا أنّه ممثّلٌ، حقيقةً وبصدق، للنظام الذي أرسله.