قبل «موقعة عرسال» في البقاع، كان هناك «حادثة الكويخات» في عكّار. قبل 2 آب 2014، كان هناك 20 أيار 2012. رجل دين اسمه أحمد عبد الواحد، سيُقتَل بعد قليل، إذ يرفض الامتثال لحاجز الجيش بتفتيش سيارته... وينطلق مُسرعاً. كانت سيارته تحوي أسلحة حربيّة ظاهرة. يُطلِق عناصر الحاجز النار على الإطارات، بلا قتل، فيُردّ عليهم بطلقات ناريّة. يصاب أحد العسكريين. الآن سيَفتح ضبّاط وعناصر الحاجز النار على السيارة بغزارة.
يُقتل الشيخ عبد الواحد ومرافقه. كان يُريد الوصول إلى مكان تجمّع دعا إليه النائب خالد الضاهر، في حلبا، ردّاً على تجمّع دعا إليه أولاً الحزب السوري القومي الاجتماعي، وذلك إحياءً لذكرى مجزرة حلبا (2008) التي كان الضاهر أحد صنّاعها. سيتعرّض الجيش بعدها لموجة إذلال وكسر وتركيع لم يعرفها منذ انتهاء الحرب الأهليّة. تقوم القيامة ولا تقعد مِن أجل الشيخ... ويا غيرة الدين. تقطع الطرقات، بالإطارات المشتعلة والعوائق الحديديّة، وتتفاعل موجة الخطاب المذهبي. ثلاثة نوّاب، يُحسبون على تيّار المستقبل، يقودون حملة (شعبيّة) ضد الجيش في مناطق الشمال: خالد الضاهر، محمد كبّارة ومعين المرعبي. مؤسسة دار الفتوى تنضم: إعلان الحداد ثلاثة أيّام. حال فوج المجوقل في الجيش، الذي كان يتبع له حاجز الكويخات، ومِن خلفه المؤسسة العسكريّة برمّتها، وصولاً إلى مختلف القوى السياسيّة: صمت مطبق. إنّه خوف، بل التخويف، أو الخجل، أو بمعنى أدقّ: التخجيل. كان ثمّة أصوات سوريّة «ثائرة» تخرق الحدود، وبعضها مِن مقرّها الحديث آنذاك في طرابلس، تدلي بدلوها متضامنة مع «البيئة الحاضنة» على شكل «يا أيّها الجيش الصليبي». أخيراً ترضخ السلطة. خبر توقيف 3 ضبّاط و19 عسكريّاً لن يوقف الموجة. قائد فوج المجوقل، يومها، العميد جورج نادر، يدخل حالة كآبة. لم يفلح في الدفاع عن عسكرييه في السياسة. يَنشر بعد أربع سنوات مِن مذكّراته: «هذا أنا، حادثة الكويخات، وحيداً واجهت وبقيت وحيداً».
العسكريّون خلف القضبان. التأجيج السياسي والمذهبي يُريد أكثر مِن ذلك: تحطيم زجاج سيارة عسكري، إطلاق نار فوق رأس أحد العسكريين، محاولة دهس، مطاردة عسكري في سيارته وإطلاق النار نحوه، وهكذا. كان ثلاثي «نوّاب الأمّة» المذكورين يضحكون في سرّهم. للسخرية صوت سُمِع مِن أروقة الحريريّة على مساحة منابرها. قيل لاحقاً، وهذه قناعة العميد، إنّ ما حصل كان «مدبّراً». كان لا بدّ للفوج، الذي كان رأس حربة في منع «المنطقة العازلة» (التي حُكي عنها لمصلحة المسلحين السوريين مِن الحدود الشرقيّة اللبنانيّة، وصولاً إلى البحر غرباً). تقارير استخباريّة غربيّة تحدّثت عن ذلك. دور (بعض) الجيش في طرابلس وعموم الشمال لم يكن يروق دائماً منسّقي قواعد الأزمة الممتدة إلى لبنان مِن سوريا. نشرت الأخبار، في تلك الأيّام، تقريراً بعنوان: «المجوقل» يدفع ثمن منع «المنطقة العازلة» (23 تموز 2012). كان عن جلسة عفويّة مع ضبّاط مِن الجيش، مِن المجوقل تحديداً، وهم في ذروة غضبهم مما حصل لزملائهم ومؤسستهم. أحدهم قال: «أثبت النائب الضاهر أنّه الأقوى. نحن الذين يُفترض بنا حماية الناس مِن الخطر، بتنا بحاجة إلى مَن يحمينا مِن الأوغاد. لا شيء يؤذينا حاليّاً بقدر اهتزاز صورتنا في عيون اللبنانيين». نقلوا عن قائد فوجهم قوله لهم: «سامحوني، لقد أخطأت. أخطأت بأن درّبتكم على الشجاعة والشدّة وعدم التراخي، ففي هذا البلد يصبح العمل وفقاً للأصول جريمة». عند إخلاء سبيل العسكريين، ورغم عدم حفظ الملف قضائيّاً، قامت قيامة الفريق إيّاه مجدّداً. عاد الضغط السياسي على القضاء. صدر قرار بإعادة توقيف العسكريين. كانت فضيحة. أحد الضبّاط قال للقاضي عند إعادة توقيفه: «بأيّ وجه تقابلنا مرة ثانية، وكيف لك أن تحقق معنا من جديد، بعدما أخليت أنت سبيلنا سابقاً؟». يُجيبه القاضي: «ضغط سياسي أكبر مِن الجميع».
اليوم، تتحدّث السلطة عن تأسيس ملف قضائي لمحاسبة «قتلة الجيش» في عرسال عام 2014. هؤلاء «القتلة» الذين سيكونون في النهاية «الدواعش». أمّا مَن كشف ظهر الجيش واشتغل به سياسة، محليّة وإقليميّة، فِمن السذاجة، في بلادنا، أن نتوقع محاسبته كقاتل... ولو معنويّاً. بعد حادثة الكويخات، اشتهر النائب الضاهر بدعوته إلى «تقسيم الجيش» مذهبيّاً. أمّا كبّارة، فاشتهر بعقد مؤتمرات صحافيّة يتّهم فيها الجيش بأنّه «يقتل الأبرياء» ولا بدّ مِن المحاسبة. أخيراً المرعبي، الذي أظهر كلّ مواهبه في تقريع الجيش، إلى حد أنه دعا مرّة إلى هدر دم قائد الجيش، فتمّ الادّعاء عليه ورُفِع إلى مجلس النواب طلب نزع الحصانة عنه لمحاكمته. وكما العادة، نام الطلب في الدرج الأبدي. أين الضاهر اليوم؟ إنّه نائب «مُمارِس» عن أمّتنا اللبنانيّة. أين كبّارة؟ إنّه وزير العمل في حكومتنا الحاليّة. أمّا المرعبي، دام رعبه، فإنّه في الحكومة الحاليّة، أيضاً، وزير شؤون النازحين. إنّه نظام المكافآت في بلادنا.