في كلّ المراسيم التي أصدرها ترامب أو أحالها إلى الكونغرس على شكل مشاريع قوانين لدراستها والتصويت عليها ثمّة ظلّ للحمائية التي أتت به إلى الرئاسة. القرار الأخير مثلاً الذي رفع فيه الحماية القانونية عن أبناء المهاجرين الذين لا يمتلكون أوراقاً ثبوتية بُرِّر اللجوء إليه بالحاجة إلى الوظائف التي سهَّل البرنامج المُقَرّ من جانب إدارة أوباما (داكا) في العام 2012 انتقالها - كما يرى ترامب ووزير عدله جيف سيشنز- إلى «غير الأميركيين».
وهذا يصبّ على ما يبدو في مسعاه لاستعادة فرص العمل التي فُقِدت بخروج الرساميل والصناعات من الولايات المتحدة أو بدخول الشركات الكبرى المستفيدة من العولمة على خطّ التوظيف. وهو ما يبرِّر اعتراض كثير من الشركات (غوغل، مايكروسوفت، جنرال موتورز... الخ) على إلغاء برنامج «داكا»، وشروعها في ممارسة ضغوط على أعضاء الكونغرس لتعطيل الإلغاء، أو في أسوأ الأحوال استبدالِه بتشريع آخر لا يضرّ بمصالحها كما يفعل المرسوم الحالي.

من يستفيد من الحمائية؟

من وجهة نظر هؤلاء، يُعتبر إلغاء البرنامج بمثابة كارثة على توفير الوظائف لأنه يرفع الحماية عن عشرات الألوف من أبناء المهاجرين، ويمنعهم من مزاولة الأعمال التي وفّرتها لهم ظروف الحماية المؤقتة المُتاحة لهم في ظلّ البرنامج. خسارة هذه الوظائف في ظلّ التشريع الجديد لا تنعكس سلباً على النموّ الذي تحقّق بفضل «داكا» فحسب، بل تحرم الصناعات والشركات التي استفادت من البرنامج من «بيئة مناسبة للعمل» في الداخل الأميركي، وهو ما تشجّع عليه إدارة ترامب أساساً. هذا المنطق لا يروق فريق ترامب، ولا يؤثّر في مسعاه للتقليل من الاعتماد على التراكم الذي أحدثته العولمة التجارية في الولايات المتحدة. بالنسبة إلى هذه الإدارة، التراكم يجب أن يصبّ في اتجاه معاكس، أي في مصلحة الفئات التي تضرّرت من انتقال الرساميل والصناعات الأميركية إلى الخارج، وهم في معظمهم من الطبقة العاملة البيضاء التي خسرت وظائفها وأعمالها بسبب العولمة ونمط التراكم المصاحب لها. هؤلاء سيستمرّون في تأييد ترامب ليس لأنه يعارض السياسات التي أدّت إلى إفقارهم ويدعو إلى استبدالها بل لأنه يقدر من موقعه في الإدارة على مجابهة السياسة التي تدعو إلى استمرار تصدير العمل والصناعات إلى الخارج، وهو ما يقوم عليه منطق النخب التجارية وأوساط الأعمال المناهضة لسياسة ترامب بخصوص الهجرة وتعديل الاتفاقيات التجارية.

«مسوِّغات» معارَضة الهجرة

المنطق الاقتصادي الذي يحرّك هذه المجموعات هو الذي يفسّر حماستها لسياسة ترامب الخاصّة بالهجرة. فهي لا تؤيّد بناء الجدار مع المكسيك لأنها تكره المهاجرين من أصول مكسيكية بل لأنها تعتبر هجرتهم إلى الولايات المتحدة سبباً لخسارتها وظائف وأعمالاً، على اعتبار أن الشركات صارت تفضّل في ظلّ العولمة إحداث تراكم يقوم على توظيف عمّال أجانب بأجور منخفضة وظروف عمل لا تتوافر فيها الحماية الكافية. انتقال كتلة العمل أو الوظائف بهذا المعنى إلى المهاجرين هي التي أثارت سخط الشرائح العاملة من البيض، ودفعت بها إلى تأييد أيّ سياسي أو مرشح رئاسي يعارض هذه الاستعاضة الاقتصادية التي تسبّبت بها العولمة. اختيارها لترامب كان لهذا السبب تحديداً، وليس لأنه معادٍ للمهاجرين كما يشيع خصومه، فالعداء لهؤلاء لا يبني سياسة ولا يقدر على استقطاب مؤيّدين بالملايين. وحده المنطق الاقتصادي الذي يربط «معارضة الهجرة» بسياق أعمّ هو الذي يفعل ذلك، عبر بناء سلسلة مُحكَمة من الإجراءات التي تبدو في تسلسلها وكأنها تصوِّب على المنافع التي جنتها الشركات من وراء الهجرة وليس على الهجرة نفسها.

خاتمة

في تبريره لمحاولة بناء الجدار مع المكسيك يقول ترامب إنّ هذه الخطوة ستوفّر ملايين الوظائف للأميركيين، وهي تقريباً الصياغة نفسها التي استخدمها في معرض الدفاع عن تعديل صيغة الاتفاقات التجارية الموقّعة بين الولايات المتحدة ودول عديدة من بينها المكسيك. حتى تراجُعُه عن قانون (أوباما كير) يعزوه للسبب نفسه بمعزل إن كان ذلك صحيحاً في حالة التخلّي عن مبدأ الرعاية الصحية الشاملة أم لا. هاجس توفير الوظائف يبدو مسيطراً على الرجل، وهو على الأرجح منطق بسيط يستعمله لإقناع الناس من خارج دائرة مؤيديه المباشرة بجدوى سياساته، عبر ربطها مباشرةً بالمنفعة الاقتصادية التي لن تكون - كما يقول- حكراً على فئة من الأميركيين. لكن واقعياً، هذه السياسات تسبّبت بانقسام داخل المجتمع الأميركي، وهذا طبيعي لأنّ الاستفادة من «حمائية ترامب» ستكون على حساب فئة ضدّ أخرى من الأميركيين، وهي في الغالب الفئة التي تدعمها النخب والأوساط النافذة داخل المؤسّسة، وينتمي إليها بطبيعة الحال المهاجرون ومعظم الأقلّيات داخل الولايات المتحدة.
* كاتب سوري