بيونغ يانغ | الخبر الآتي من بيونغ يانغ عن المباراة المهمّة التي حقق فيها المنتخب اللبناني تعادلاً قيِّماً مع المنتخب الكوري الشمالي، ذكَرَ عرَضاً نيل أحد اللاعبين اللبنانيين بطاقة حمراء. معظم وسائل الإعلام اللبنانية أوردت المعلومات مغلوطة عن سبب البطاقة، وأخرى تجاهلت الأمر. الحقيقة أن اللاعب ماهر صبرا انتزع تميّزاً عالمياً آخر للبنان في أن استحقّ بطاقة حمراء... وهو على مقاعد الاحتياط!
الخطأ الذي ارتكبه لاعب نادي النجمة ليس تقنياً، بل أخلاقي، فقد ضرب أحد الفتيان الكوريين المسؤولين عن جمع الكرات وإعادتها الى الملعب. صبرا ضرب الفتى بالكرة، متذرِّعاً بأنّ الأخير «تعمّد التأخّر في إعادة الطابة إلى الملعب» خلال الدقائق الأخيرة من المباراة. اعتذر مدرّب المنتخب اللبناني ميودراغ رادولوفيتش عن الفعلة الشنيعة تلك في المؤتمر الصحافي، إذ سأله الصحافيون الكوريون عن الزلّة الأخلاقية التي كان وقْعها عليهم أكبر بكثير من نتيجة المباراة. كيف لا، والأمر يتعلّق بالأخلاق؟
في عُرف أدبيات الرياضة والسلوكيات الإنسانية عموماً، ما فعله صبرا خطأ أخلاقي، يتناقض كلّياً مع صفات الرياضي صاحب الأخلاق الرفيعة والروح الرياضية العالية في العادة. لكن الرياضة اللبنانية تثبت مرة جديدة أنها لم تنجُ من التردّي الذي يصيب البلد، وما يجري في الملاعب وعلى المدرّجات (إن في كرة القدم أو في كرة السلّة) ليس إلا صورة واقعية عن الحالة الاجتماعية تلك. لعلّ أبرز دليل على هذا التردّي تعليق مشجّعي نادي النجمة على حادثة البطاقة الحمراء في بيونغ يانغ، إذ كتب القيّمون على صفحة «مشجّعي نادي النجمة» على «فيسبوك» تعليقاً شرحوا فيه ما ارتكبه صبرا وختموه بعبارة «كبير يا ماهر... مين كوريا الشمالية ومين رئيسها؟!». إنه المنطق الكارثي نفسه الذي يحكم لبنان، وتصرّفات بعض اللبنانيين منذ عشرات السنين، والذي حوّل مجتمعنا إلى غابة كبيرة ترفض الخضوع لأية قوانين، وتتخطّى كل الخطوط الأخلاقية الحمراء.

بغية الانتقال إلى الاحتراف لم يحقق المنتخب سوى شرط واحد، هو توفير المال

لكن صبرا ليس إلا عيّنة واحدة ممّا تنتجه الأندية اللبنانية لكرة القدم من نماذج تسيء إلى اللعبة وإلى الرياضة وإلى سمعة لبنان. فلو كان هناك حكّام يقيّمون سلوكيات اللاعبين خارج الملاعب أيضاً ـ وذلك بأهمية سلوكهم داخله ـ خلال الرحلة إلى بيونغ يانغ، لنال عدد كبير منهم بطاقات حمراء على مدار الساعة. علماً أن الفريق يضمّ أيضاً، للإنصاف، عناصر منضبطون جدّيون سلوكهم لا غبار عليه، وهؤلاء يبدون انزعاجهم أحياناً من تصرفات الآخرين.
لم يفوّت بعض لاعبي المنتخب فرصة واحدة خلال الرحلة الطويلة من أبو ظبي إلى بيونغ يانغ وطوال إقامتهم فيها إلا أثبتوا أنهم غير مؤهلين لتمثيل لبنان وتمثيل الرياضة بأي شكل من الأشكال. فوضى في المطارات والفندق، صراخ، عدم احترام للقوانين، سوء تصرّف، عدم انضباط و... ارتكاب تحرّش! ففي حادثة صادمة في مطار بكين، تحرّش أحد اللاعبين بشابّة صينية، ما استدعى تدخّل الشرطة التي فتحت محضراً بالأمر. بعض اللاعبين الذين شاهدوا ما جرى هرعوا إلى مكان وجود إداريي الفريق ورووا أن زميلاً لهم «تعمّد لمس يد امرأة بطريقة غير لائقة بينما كانت تمرّ بجانبه، فيما كان زميل آخر له يعمل عن قصد على تصوير فعل التحرّش»! علا صراخ الشابّة الصينية غضباً، ولم تهدأ، واستدعت الشرطة، فيما حاول بعض أعضاء البعثة واللاعبين تقديم الاعتذارات إلى أن سُوّي الأمر بعد أكثر من نصف ساعة، بأعجوبة، مع شرطة مطار بكين. إن لم يكن ذلك إهانة للبنان ولرياضييه، فما هو إذاً؟!
يذكر أن لجنة المنتخبات في الاتحاد اللبناني لكرة القدم تنتظر حالياً تقرير رئيس البعثة همبارسوم ميساكيان حول حادثتي البطاقة الحمراء والتحرّش في مطار بكين. من جهته، يشير رئيس لجنة المنتخبات مازن قبيسي إلى أنه بانتظار تقرير ميساكيان حتى يبني على الشيء مقتضاه.
لا يريد مدير المنتخب اللبناني فؤاد بلهوان، أن يسيء الإعلام إلى صورة المنتخب، هو يدرك حجم الأخطاء السلوكية التي يرتكبها بعض أعضاء الفريق، وليس الكلّ، وهو شاهد عليها في كلّ السفرات التي يرافقهم فيها، لكنه يجد لها مبررات اجتماعية. من النادر أن تجد مديراً في قطاع لبناني يتحمّل كافّة المسؤوليات، حتى غير المناطة به، ويحلّ المشاكل بأقلّ الخسائر الممكنة، ويسعى جاهداً إلى تذليل عقبات الفوضى كما يفعل بلهوان. هو حريص على راحة اللاعبين، يمتصّ غضبهم وتذمّرهم الدائم من كلّ شيء، ويوفّر لفريقه ما يحتاجه. لكنه يعجز أمام حلّ مشكلة الانضباط وسوء التصرّف، وهو يعترف بذلك.

بلهوان يرى أن المنتخب اللبناني لكرة القدم، بغية الانتقال إلى مستوى الاحتراف «لم يحقق سوى شرط واحد، هو توفير المال... لذا انتقلنا من الهواية إلى المجهول»، إذ إن الانتقال الفعلي يجري بنحو مختلف وعلى كافة الصعد، ولا يُحَلّ بإغداق الأموال فقط. مشكلة أخرى مهمّة أضاء عليها بلهوان، وهي على ارتباط وثيق بإنتاج النماذج السيّئة في الأندية الرياضية.
من جهته، يعبّر مدرّب المنتخب رادولوفيتش عن إيمانه بـ«موهبة» لاعبيه و«شخصيتم الحسَنة» ويثني على «حبّهم لبلادهم»، لكنه لمس منذ تسلّمه منصبه قبل نحو ٣ سنوات «تقصيراً من قبل المسؤولين بالاهتمام باللاعبين وبتوفير الشروط المناسبة لراحتهم النفسية والجسدية في أغلب الأحيان». «اللاعبون يضطرون إلى امتهان أعمال أخرى تكسبهم المزيد من الأموال، لذا معظم تركيزهم لا ينصبّ على الرياضة» يشرح المدرّب. «كرة القدم في لبنان تفتقر إلى بنى تحتية أساسية» يحسم رادولوفيتش، صاحب الخبرة الطويلة في اللعب والتدريب داخل بلاده الأم مونتينيغرو وخارجها. المدرّب الذي يتقن أسلوب الحزم والقساوة واللطف في آن واحد مع لاعبيه، يقول إنه «يتفهّم نمط عيش اللاعبين»، لكن أكثر ما يزعجه هو إدمانهم «الشيشة». تدخين «الأركيلة» بكثرة سلوك آخر يتناقض مع شخصية أي رياضي في العالم. لذا، بعد كلّ ما تقدّم، يصبح السؤال مشروعاً: علامَ تحوي فعلياً أندية كرة القدم اللبنانية؟





نهاية العالم



رحلة المنتخب اللبناني لكرة القدم إلى جمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية كانت طويلة ومرهقة من دون شكّ، لكن استقبال الكوريين للوفد اللبناني، وحال الفندق وخدماته كانت جيدة جداً. وعلى الرغم من إعلام الفريق مسبقاً باحتمال مواجهة بعض الصعوبات في مدينة كبيونغ يانغ، بقي التذمّر طاغياً على كلام معظم اللاعبين، ومشكلتهم الوحيدة كانت... غياب الانترنت. لم يتحمّل شباب الفريق قطع حبل التواصل الإلكتروني الدائم مع «فيسبوك» وعائلاتهم ومحبّيهم فجأة. ورغم وجود هواتف ثابتة في الفندق أتاحت لهم الاتصال والاطمئنان إلى ذويهم يومياً، إلا أن العبارة الثابتة على لسان بعض اللاعبين كانت: «بلد لا يوجد فيه إنترنت... لا يوجد فيه شيء!». انتهى العالم بالنسبة إلى هؤلاء مع غياب الـ«واي فاي»، وذلك لم يحثّهم مثلاً على طلب زيارة المدينة للتعرّف إليها في وقت الفراغ الذي خلّفه غياب الإنترنت في حياتهم. حتى في الرحلة الختامية القصيرة التي فرضها مدير المنتخب على اللاعبين للتعرّف إلى بعض أنحاء المدينة، ذهب بعض هؤلاء مرغمين وعبّروا عن تذمّرهم طوال الرحلة. بعضهم لم يكترث حتى بزيارة «استاديوم الأول من أيار» أكبر ملعب رياضي في العالم الموجود في العاصمة الكورية، «لماذا قد أرغب في رؤيته؟ يمكننا مشاهدته على الإنترنت» قال أحد اللاعبين!





الدفاع في المطبخ!




في اليوم الأول لإقامة المنتخب اللبناني في فندق «كوريو» في بيونغ يانغ، واجه اللاعبون مشكلة في الطعام، فالفندق قدّم الأطباق التي طلبها منه القيّمون على المنتخب، لكن طريقة إعداد بعض الأطعمة اختلفت عمّا كان اللاعبون معتادين له. أثّر الأمر سلباً في نفسيتهم بداية الأمر، إلى أن جاء المنقذ... والمنقذ كان أحد لاعبي الفريق، ويدعى قاسم الزين (٢٦ عاماً). لاعب خطّ الدفاع في المنتخب وعضو فريق النجمة الرياضي، درس الفندقية وتفوّق فيها، وهو يعلّم بعض موادها في مهنية بئر حسن حالياً. استأذن قاسم مدير الفريق ومسؤولي المطبخ الكوريين في الفندق، وعرض عليهم أن يُعدّ هو الأطباق كما يحبّها زملاؤه. «تعاون الكوريون معي، ووافقوا على دخولي المطبخ المجهَّز جيداً والنظيف»، يشرح قاسم الذي كان مدركاً أن «طريقة الإعداد الآسيوية لبعض الأطعمة والصلصات تختلف عمّا نحن معتادون له». قاسم، المولع بالطبخ منذ الصغر، يروي مبتسماً معاناته مع الطبّاخين الكوريين لجهة التواصل واللغة في بداية الأمر، إلى أن نجح من خلال الإشارات ولغة الطبخ في أن يعطي بعض الإرشادات اللازمة. هكذا، تمكّن اللاعبون أخيراً من تناول الباستا والبيض والأرزّ والصلصات والفول «كما يشتهونها»، ما انعكس إيجاباً على نفسياتهم في الأيام اللاحقة. «ماذا سيطبخ لنا قاسم غداً؟» مازحه زملاؤه كلّ يوم، وقاسم كان ينزل يومياً قبل موعد الغداء للإشراف على إعداد الطعام، ولا يخرج قبل أن يتأكد أن مهمته أُنجزت بنجاح.