بتمهّلٍ، كنت أقود سيّارتي على غير العادة، حين طردت فكرة تأجيل الاحتفال إلى المساء، وعقدت العزم على التوجّه وحيدةً إلى «مار مخايل». عزّزت نقنقة الدجاج في مطلع «ما شاورت حالي»، المبثوثة من مسجّل السيّارة، من رغبتي بشرب نخب تسديد القسط الأوّل من ثمن لوحة بالفحم لتشكيلي سوري معروف. وفجأةً، أحسست بطعم البيرة في فمي.
■ ■ ■

كانت الساعة تقارب الثانية عشرة ظهراً، حين ركنت سيّارتي بالقرب من مبنى «كهرباء لبنان» القميء. خطوت مسرعةً، كأنّي في مهمّة تقضي بانتشال الجرحى تحت ركام «مبنى الكهرباء»، الذي انهار بدون إنذار فوق رؤوسهم! خيوط الشمس مسّدت شعري حتّى خدرتني، وحوّلتني إلى كائن بليدٍ غريبٍ عنّي، إذ قلت في سرّي ضاحكة: «ليذهب الضحايا (المفترضون) إلى الجحيم. لتدفن السيّارات المنبعجة في مزرعة آوية ذكور وحيد القرن المنطوية. لن تحول نهاية العام دون احتفال بدفع قسط اللوحة الأوّل!». استرسلت في فكرة الضحايا المتخيّلة؛ تابعت المسير غير آبهة بالمصاب إلى الحانة، حيث استقبلني ساقٍ ذو لحية شقراء طويلة وأصابع مشغولة بخواتم فضّة كثيرة ووشم بارز على ذراعه اليمنى. فتح سدّة البيرة بمفتاح مطليّ بالذهب، ثمّ أرجعه إلى جيب قميصه المطبوع برسوم لأشجارٍ استوائيّةٍ، قبل أن يرفع صوت مشغّل الموسيقى. ولحسن الحظّ، غطّى عزف البيانو في «نيناز بلوز» على صرخات الضحايا المستغيثة.
لاطفني النادل المتخيّل، وعرض أن يذيقني طعم الـ «كوكتيل» المميّز الذي كان يختبر إعداده. حدّثني مطوّلاً عن تركيبته من حليب جوز الهند والـ «فودكا» وصلصة الـ «تباسكو» والليمون الحامض والـ «ليكور» بنكهة الشوكولاته، فجاملته، من دون أن تفضحني عيناي، بأنّ طعمه لذيذ بعدما رشفت منه بسرعة! سخرت من السيناريو المتخيَّل الرديء، وتابعت المسير متأمّلة كلّ تفصيل في «شارع السهر» عند الظهر. بدا الخواء كأنّه يزيل رائحة وعود سكارى الليلة السابقة الكاذبة من الزوايا.

■ ■ ■


لقلّة خبرتي في الحانات، اعتقدت أنّي سأجلس وحيدة للاحتفال، ودخلت الأولى التي صادفتها. كانت فسيحةً؛ تخترق الشمس زاوية الـ «بار» الخشب فيها، فيما مقدّمة الأخير مظلّلة. على رأسها ساقية عديمة الخبرة، كانت تلبّي طلبات الزبائن كـ «روبوت»، بدون أن تكلّف نفسها اختيار موسيقى مناسبة لبثّها، أو توزّع النّقل مع المشروبات.. أو تبتسم في وجوه الحاضرين.
في المقدّمة، جلس ثنائي شاب متيقّظ أوحى لي بأنّه يفوّت محاضرة جامعيّة هامّة، ورجل خمسيني كان يتأسّف إلى الساقية بالإنكليزيّة، أثناء تنظيف بول كلبه عن الأرضيّة بمناديل معطّرة. وبدت شنطة يد على مقعدٍ حيث الضوء يبهر البصر.
حبا الكلب الأبيض المدلّل قريباً مني، حتى كاد يلامس صندلي، فأرجعت رجلي بعصبيّة دفعته إلى النباح وما هي إلّا لحظات، حتى أطلّت صاحبة الشنطة الضخمة، خارجة من دورة المياه. لم تفلح طبقات التبرّج الكثيفة على وجهها من إخفاء بداية عشرينياتها. كانت تنتعل زوجي حذاء شاهقي الكعبين شتّتا انتباهي عن جلبة الكلب لثوانٍ، وترتدي لباساً لا يناسب وضح النهار. طلبت ذات الكعبين العاليين خمس جرعات من المشروبات المسكرة، من بينها الـ «تيكيلا»، وراحت تكرعها واقفةً، أمام دهشة الساقية والشاربين! كانت تتكلّم بصوت عالٍ إلى النادل المستريح، الذي يبدو أنّه يعرفها، قائلةً: «بعد نصف الساعة يبدأ دوام عملي المقرف. ثمانمئة دولار شهريّاً مقابل اثنتي عشرة ساعة في تنظيم الحفلات والترفيه عن الحاضرين». طبطب عليها، فصرخت: «فلتذهب الحفلات المترفة، ومنظّمتها مدام هرمس إلى الجحيم! تبّاً للكعب العالي ودخان السيجار!». ثمّ، غادرت سريعاً. عاد الكلب النبّاح إلى الاقتراب مني مجدّداً، فأنهيت احتفالي السخيف، ونقدت الساقية ثمن البيرة، التي لم أرتشف منها أي رشفة، وعدت أدراجي.
* كاتبة لبنانية