تسربت خلال الأيام القليلة الماضية، معلومات مهمة تجعلنا نرجح أن الأميركيين تمكنوا فعلاً من خداع رئيس مجلس الوزراء العراقي حيدر العبادي وتحالفه السياسي «التحالف الوطني ــ الشيعي» حين أقنعوه بكيفية الرد على استفتاء البرزاني عبر ما يسمونه «سياسة الإخماد». ففي لقاء تلفزيوني الاثنين 11 أيلول 2017، فسَّر وزير شؤون المحافظات في حكومة العبادي طورهان المفتي، ما سماه الرد الهادئ والمحسوب للحكومة على مشروع استفتاء البارزاني بأنه يستند إلى «استراتيجة الإخماد».
والواقع فنحن لم نرصد أي رد فعل عملي صدر من حكومة العبادي والمؤسسات الدستورية العراقية الأخرى حتى الآن، فلا رداً هادئاً ولا عنيفاً ولا رداً محسوباً أو غير محسوب.
جلُّ ما سمعناه هو قبضة من التصريحات المائعة والباهتة التي لم تصل إلى مستوى حدة تصريحات دول مجاورة للعراق، أو إلى عشر معشار ما رد به رئيس وزراء إسبانيا على الاستفتاء الكتالوني. لقد اعتبر رئيس الحكومة الإسبانية ماريانو راخوي الدعوة إلى الاستفتاء في كتالونيا (حركة عصيان غير مقبولة على المؤسسات الديموقراطية)، وأعلن أن حكومته ستطلب من المحكمة الدستورية «إلغاء» قانون تنظيم الاستفتاء.

مشروع العدو
هو مشروع «بادين» لتقسيم العراق إلى
ثلاث دويلات طائفية
كما أعلنت النيابة العامة الإسبانية لاحقاً، أنها ستباشر ملاحقات قضائية بحق قادة إقليم كتالونيا إثر دعوتهم إلى استفتاء حول حق تقرير المصير. وأكد المدعي العام خوسيه مانويل مازا أنه (يجري إعداد ملاحقات جنائية)، موضحاً أنها تستهدف مسؤولي برلمان كتالونيا الذين سهلوا اعتماد القانون الهادف إلى تنظيم الاستفتاء المحظور، وأعضاء حكومة الإقليم الذين دعوا لاحقاً إلى الاستفتاء). علماً بأن الاستفتاء في كتالونيا قرره برلمان الإقليم هناك، أما في العراق فقرار الاستفتاء لم يتخذه برلمان الإقليم المعطل منذ أكثر من عام، بل قرره تحالف حزبي البرزاني والطالباني فقط وعارضته أو تحفظت عليه أحزاب وقوى وشخصيات أخرى منها الحزب الثاني في الإقليم «حركة التغيير-كوران/ بـ 24 معقد برلماني في الإقليم» أما في العراق فلا شيء من هذا القبيل وكأننا إزاء مشروع تتعاون جميع الأطراف على إكماله.
بالعودة إلى تصريحات الوزير طورهان المفتي (وهو من مواليد كركوك ويمثل الجبهة التركمانية في حكومة المحاصصة الطائفية والعرقية)، نسجل أن الإعلامي الذي حاوره حاول جاهداً معرفة رأيه أو رأي رئيس مجلس الوزراء العبادي الحقيقي أو رد فعله المتوقع عند إجراء الاستفتاء ولكن من دون جدوى تقريباً، فقد كانت إجابات الوزير مغرقة في الغموض والدبلوماسية وذات شقين: الشق الأول يفيد أو يوحي بأن هناك ردود أفعال حكومية ستقوم بها الحكومة لاحقاً ولا يريد العبادي الكشف عنها الآن! والشق الثاني هو أن الحكومة ستنتهج استراتيجية الإخماد في ردها وهذا يعني تطبيقياً أن العبادي سيترك البرزاني وحلفاءه يجرون الاستفتاء كما يريدون ثم تقوم حكومة العبادي بالقضاء على نتائج وتداعيات الاستفتاء. باختصار، إنها استراتيجية من المرجح أن يكون العبادي نُصِحَ بها من قبل الطرف الأميركي، ويمكن اختصارها بالآتي (دع البرزاني يشعل الحريق ثم قم أنت أيها العبادي بإخماده لاحقاً)!
إن هذه استراتيجية مخادعة ومدمرة تحاول واشنطن ومعها إسرائيل خداع العراق والعراقيين بواسطتها، وذلك بأن تعطى الفرصة للبرزاني ليقوم بما يقوم به، أي بأن يُسمَح بنشوب الحريق أولاً، ثم يسمحون للعبادي بإخماده! ولكن مَن يضمن أن إخماد الحريق سينجح لاحقاً؟ وما الذي يمنع من أن يشب الحريق فيلتهم البيت بكامله، فيعلن أصدقاء البرزاني من الساسة العرب السنة المقيمين عنده في أربيل عن مسعاهم للقيام باستفتاء مماثل لإقامة دولة سنية في المنطقة الغربية والموصل؟
الوزير المفتي أدلى بمعلومات مهمة أخرى عن تجاوزات وخروقات القيادات الكردية في كركوك، وخصوصاً قيادة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الطالباني، المسيطر فعلياً على محافظة كركوك ومؤسساتها. وقد سكتت حكومة العبادي عن تلك التجاوزات حتى الآن سكوتاً مريباً. من تلك التجاوزات «تكريد» المحافظة عن سابق قصد وتصميم، ورفع علم الإقليم على مؤسسات الدولة فيها، كما تم استجلاب مئات الآلاف من الأكراد من خارج المحافظة (ذكر الوزير المفتي رقماً هو بين 600 و800 ألف مواطن كردي، تم توطينهم في كركوك بحجة عملية إعادة الأكراد الذين رحلهم منها نظام صدام حسين، وهؤلاء المرحلون لا يتجاوزون ثمانين ألف نسمة، ولكن الذين تم إعادتهم كانوا خمسة أو ستة أضعافهم، بحيث (أن نسبة النمو السكاني المسجلة لدى الأكراد لا يمكن تصديقها وفق أية معادلة أو متوالية رياضية أو هندسية) كما قال الوزير.
كما قامت قيادة حزب الطالباني بالاستيلاء على جميع المناصب الكبيرة التي شغلها العرب والتركمان في المحافظة بعد اغتيال أو وفاة هؤلاء، وضرب الوزير لذلك أمثلة عدة بالأسماء منها: رئيس مجلس القضاء في المحافظة الذي كان يشغله مسؤول عربي تم اغتياله فحل محله مسؤول كردي، ومدير عام التربية والتعليم وكان تركمانياً وقد تم اغتياله أيضاً فحل محله كردي. وسرد الوزير أمثلة أخرى عديدة تؤكد أن مدينة كركوك مركز المحافظة تمت السيطرة عليها عسكرياً تماماً من قبل بيشمركة حزب الطالباني بقيادة المحافظ المتطرف نجم الدين كريم، والذي دأب على زيارة واشنطن بانتظام كل بضعة أشهر.
الوزير المفتي أضاف أيضاً أن المناطق الريفية خارج كركوك بقيت تحت سيطرة الحشد التركماني إذا كانت ذات غالبية تركمانية، وتحت سيطرة الحشد العشائري العربي إذا كانت ذات غالبية عربية. وقال الوزير إن نسبة السكان في هذه المناطق تصل إلى 50% من مجموع السكان، وهذه معلومات لا يمكننا تأكيدها ولكنها تؤكد ــ إذا صحَّت ــ بالملموس أن احتمال اندلاع القتال بين ريف كركوك ومركزها قد يندلع في أي لحظة بسبب إصرار البرزاني وحليفه محافظ كركوك على إلحاق المحافظة بالقوة بالدويلة الكردية. ومن المرجح أن حكومة العبادي ستتخلى عن مهمتها الدستورية في الحفاظ على وحدة العراق وتتحول إلى وسيط بين الطرف الذي بادر الى الانفصال أي حزب الطالباني والأطراف المتضررة الأخرى. وهذا أيضاً جزء من خدعة «الإخماد» التي أقنعت واشنطن بها العبادي وحكومته.
لقد جرَّب العرب الرسميون «استراتيجية الاخماد وضبط الأعصاب» التي أوصى بها الغرب الأنظمة الرجعية العربية سنة 1948 وكانت النتيجة هي ضياع فلسطين وقيام دولة إسرائيل الصهيونية، وها هو الكمين نفسه وبالكلمات والأدوات ذاتها تقريباً! يتكرر في العراق، فهل سيعي الساسة العراقيون من الشيعة والسنة وفي مقدمتهم العبادي حجم الكارثة وينتبهون لعمق الكمين أم سيواصلون اعتماد استراتيجية «الإخماد وضبط النفس»؟

لا ينبغي مساواة
مواطنينا العراقيين
الكرد بالزعامات
الإقطاعية الكردية

من جهته، دخل الجنرال الأميركي أوديرنو على خط الأزمة، وراح يحرض البرزاني على الانفصال، معتبراً الحشد الشعبي هو التهديد الثاني للكرد بعد «داعش»، وأعلن أوديرنو أن واشنطن تعهدت ببناء أكبر سفارة لها في دولة كردستان القادمة وبناء قاعدة عسكرية ضخمة قرب مدينة مخمور تضم 1500 جندي أميركي، فيما أعلن مسؤول كردي من حزب الطالباني هو رشاد كلالي أن قوات البيشمركة الكردية ستسلم للقوات الأميركية المواقع التي سيطرت عليها قوات البيشمركة في حال بروز أي تصعيد مع بغداد بسبب استفتاء كردستان واعتقد أن المقصود تلك المناطق هو حقول نفط كركوك بشكل رئيس.
هذا يعني بوضوح، أن هناك تقاسم أدوار بين واشنطن وأربيل وتل أبيب: فأربيل ستجري الاستفتاء وتصر على ترسيم نتائجه وتدويلها، وتل أبيب تشجع وتروج له وتجمع الحلفاء لانتزاع اعتراف الأمم المتحدة بدولة البارزاني، أما واشنطن فسوف تتسلم المناطق التي سيطرت عليها البيشمركة الكردية مؤقتاً، وحين يتم الإعلان عن قيام دولة البرزاني تعيدها إلى قوات البيشمركة بعد مفاوضات شكلية مع بغداد!
في هذه الأجواء المشحونة، تصاعدت بعض ردود الأفعال اللفظية المؤسفة وذات النزوع العنصري المعادي للأكراد، أدلى بها نواب ومسؤولون وإعلاميون عراقيون عرب، ومنهم على سبيل المثال نائب سابق في البرلمان العراق من البصرة الذي تحدث على شاشة قناة «الشرقية» فبدأ كلامه بالطلب من كل مسؤول كردي في بغداد أن يقدم استقالة ويحزم امتعته ويرحل الى كردستان وختمه بتعميم إلى جميع الأكراد الذين هم في السلطة أو خارج السلطة قال فيه إن «الموقف لن يكون سهلاً ليعيش الأكراد في بغداد بعد الاستفتاء» بدعوى الحرص عليهم! هذه التصريحات السلبية لا تقل سوءاً استفزازاً وتدميراً لوحدة العراق عن تصريحات وممارسات أنصار البرزاني والطالباني بل هما وجهان لعملة تدميرية تقسيمية واحدة. وإن التصريحات من النوع الأول تصب الماء في طاحونة البرزاني والطالباني وتعود عليهم بالمنفعة الكبيرة. كيف ذلك؟ لنتذكر ما قاله جلال الطالباني قبل سنوات من أن «بغداد هي أكبر مدينة كردية» والطالباني هنا لم يكن يقصد أنها كردية من حيث الهوية فهو يعرف جيداً أن بغداد عربية بل ورمز الحضارة العربية الإسلامية في عصرها الزاهر وأملها العتيد في العصر الحاضر، ولكنه يقصد أنها مدينة كردية من حيث عدد السكان الكرد فيها الذين يبلغ عديدهم قرابة المليون عراقي من مجموع ثمانية ملايين ونصف مليون بغدادي تقريباً، حيث لا توجد مدينة عراقية أخرى حتى في الإقليم تضم مليون مواطن كردي. وثانياً، فهؤلاء الكرد البغداديون عريقون فيها لغة وعادات وتقاليد وانتماء، وهم مندمجون جيداً في مجتمعهم بدليل أن نسبة من يصوتون منهم للأحزاب الكردية القومية تتراوح بين 3 و5% بحسب بعض التقديرات أي أن أكثر من 90% منهم يعتبرون أنفسهم عراقيين بغداديين، ولو كانوا يؤيدون مشاريع البرزاني لما ترددوا في ترك بغداد والذهاب الى أربيل أو غيرها. هذا ما يقوله المنطق، ثم أنَّ هؤلاء الذين يهدد بطردهم وترحيلهم أمثال هذا النائب السابق سيتحولون إلى قوة إضافية لقوى التقسيم البرزانية الطالبانية الانعزالية من دون أدنى شك، وسيكونون أكثر شراسة وعداء للدولة العراقية لأنهم سيخسرون كل شيء في بغداد، مدينة آبائهم وأجدادهم.
ينبغي عدم السماح بهذا النوع من التصريحات العنصرية السلبية وإدانتها والدفاع عن أشقائنا الكرد في بغداد وعموم العراق وفي الإقليم وعدم تركهم لقمة سائغة لإعلام البرزاني والطالباني التحريضي. كما ينبغي عدم خلط الأوراق ومساواة مواطنينا العراقيين الكرد بالزعامات الإقطاعية الكردية التي تضطهدهم وتقودهم الى كوارث جديدة. أما تصريح وزير التربية السابق محمد التميمي وهو من عرب كركوك فقد اعتبر (ضم كركوك الى الاستفتاء مقدمة لضم المحافظة إلى الإقليم) إعلان حرب ضد العرب والتركمان وجميع العراقيين، فهذا التصريح لا يمكن اعتباره ضمن هذا النوع من التصريحات بل هو دفاعي بحت خصوصاً وأن الأنباء أكدت توجه أرتال كبيرة من قوات البيشمركة الكردية مزودة بالدبابات والمدرعات إلى المدينة.
العدو الذي يريد تقسيم وتفتيت العراق بيِّن وواضح، ومشروعه معلن ومعروف وهو مشروع «بادين» لتقسيم العراق إلى ثلاث دويلات طائفية، وليس البارزاني وغيره إلا أدوات لتنفيذ هذا المشروع. وعلى هذا يفترض بالوطنيين العراقيين الاستعداد لتطويق ومحاصرة السفارة الأميركية ببغداد بالتظاهرات السلمية الاحتجاجية ومحاصرة القواعد والقوات الأميركية في كل مكان في العراق، فالمفاجآت القادمة كثيرة وكبيرة ولا بد من الاعتماد على الجهد الشعبي وعدم الاعتماد على ساسة حكم المحاصصة الطائفيين المتحالفين مع واشنطن شيعة كانوا أو سنة! فالطريق لضمان وحدة العراق يمر عبر إسقاط حكم المحاصصة الطائفية وطرد السفير الأميركي من بغداد!
آخر التطورات في هذا الملف حدثت قبل قليل، وخلاصتها: صوَّت مجلس النواب العراقي على قرار بعدم دستور الاستفتاء الذي يعتزم البارزاني وحلفاؤه بإجرائه بعد أيام قليلة، ويلزم قرار المجلس رئيس الوزراء حيدر العبادي باتخاذ كافة الإجراءات للحفاظ على وحدة العراق ولكنه يطالبه بالتفاوض الجاد لحل المشكلات الموجودة. الكتلة الكردية انسحبت من الجلسة، والسؤال الأهم هو: هل سيتخذ العبادي أية إجراءات فعلية حاسمة ودستورية ضد الاستفتاء والداعين إليه والقائمين به أم سيواصل اعتماد سياسة «الإخماد» الأميركية؟! ومعنى طلب المجلس من الحكومة التفاوض على المشاكل الموجودة؟ هل نحن إزاء رفض لفظي للاستفتاء والطلب من الحكومة التفاوض مع الطرف الآخر؟ الخبر الأخير الذي بثته وكالات الأنباء وأنا اكتب هذه المقالة ــ صباح الثلاثاء 12 أيلول الجاري ــ تقول إن البارزاني وصل اليوم إلى كركوك وسيلقي كلمة تحريضية يدعو فيها إلى المشاركة بكثافة في التصويت بنعم في الاستفتاء، وأن قوات إضافية من البيشمركة الكردية توافدت في الساعات الماضية على مدينة كركوك. كل هذا يحدث والعبادي متمسك بالأظافر والأسنان باستراتيجية أو خدعة الإخماد وضبط الأعصاب!
* كاتب عراقي