«قامت القرى الأولى في الشرق الأدنى بتدجين النباتات والحيوانات. أمّا المؤسسات الحضريّة في أوروك، فقد دجّنت البشر»المؤرّخ غييرمو ألغازي (مقتبس في كتاب جايمس سكوت، ص.24)

«العبدة تصبح مساوية لسيّدتها
العبد يسير الى جانب سيّده
لا يتمّ تسليم اليتيم الى الثريّ
لا يتمّ تسليم الأرملة الى القوي
لا يقتحم الدائن منزلك
يطرح الحاكم السّوط والعصا جانباً
لا يضرب السيّد العبد على رأسه، لا تصفع السيّدة العبدة على وجهها
يتمّ الغاء الدّيون»
من قصيدة كان ينشدها عمّال السّخرة في مدينة أور، تتخيّل واقعاً معاكساً لعالمهم (في كتاب جايمس سكوت «ضد الحبوب»، ص. 128)


سردية جديدة

مع أنّ أغلب كتب جايمس سكوت تتناول في العادة مواضيع قريبة الى العلوم السياسية والمجتمعات الفلاحية المعاصرة، الّا أن كتابه الأخير («ضدّ الحبوب»، والعنوان يعني ايضاً بالانكليزية «ضدّ الرأي السائد») هو تاريخيّ بالكامل، بل «اركيولوجي»، يقوم أغلبه على دراسة للمجتمع الرافديني القديم، وتحديداً التجمعات البشرية الأولى في السهل الرسوبي في جنوب العراق قبل آلاف السنين. كتاب سكوت هو هجومٌ شامل على المجتمع الحضري وعلى نظرته لنفسه وللتاريخ، أو هو بالأحرى نقدٌ لـ«مجتمع الحبوب» الذي يقوم على الاستقرار والتخصّص في زراعة محاصيل كالقمح أو الأرز أو الذرة، بحسب الموقع، والذي أنتج ــــ بحسب سكوت وجمهرةٍ من المؤرخين ــــ الدولة الزراعية القديمة والمدن ومؤسساتها.
«السردية السائدة»، كما يسمّيها سكوت، هي أنّ الحياة الحضرية «ارقى» و«أكثر تقدماً» من حياة من هم خارج الدولة، البرابرة والبدو والأقوام المترحّلة التي تعتاش على الصيد والرعي وجمع الثمار. كان المؤرّخون يفترضون أنّ ظهور المجتمعات الزراعية المستقرّة، والدّولة اثر ذلك، قد جاء «اوتوماتيكياً» بسبب اكتشاف الانسان لتقنيات الزراعة وتدجين المحاصيل والحيوانات، فاستقرّ مباشرةً في تجمّعات كثيفة بنى فيها معابد ومؤسسات. في الحقيقة، تقول الدراسات الجديدة، فإنّ التطوّر صوب الدولة لم يحصل على هذا الشّكل «العضوي»: كلّ تقنيات الزراعة ومعارفها، من الأدوات كالمناجل والمحراث، الى تأصيل البذار وانتخابها، وصولاً الى تدجين الحيوانات واقتنائها، كان معروفاً لتجمّعات أهل الرافدين منذ عام 9500 ق. م. يؤكّد سكوت. بل إنّ هذه الأقوام قد أسّست بلداتٍ وتجمّعاتٍ مستقرّة، وصلت أعداد بعضها الى خمسة آلاف ساكن، من دون أن تبني دولاً ومجتمعات «قمحية» حتى الألفية السادسة قبل الميلاد. بمعنى آخر، يقول سكوت، توجد ثغرةٌ تقارب الأربعة آلاف سنة بين حيازة الانسان على كلّ «عناصر» الدّولة وبين تأسيس أولى الدول الحضرية القديمة في ممالك العبيد واور واوروك. أجدادنا، يستنتج سكوت، «لم يكونوا على عجلةٍ» بالمرّة للانتظام في دولٍ ومجتمعات حضريّة، وقد ظلّت هذه حال الدنيا حتى القرن السابع عشر، أي قبل هنيهاتٍ بمقياس الجنس البشري (يحدّد سكوت سنة 1600 على أنّها بداية طغيان الدولة، على كوكبنا، وهيمنتها على حساب الأقوام غير الحضرية).
السّبب بسيط، يستنتج أيّ دارسٍ للمدن القديمة، فحياة الصيادين والمتجوّلين كانت أفضل بكثير من حال ساكني المدن. فكرة أن المدن والمجتمعات المستقرّة هي مكان «حضارةٍ» ورفاه وأمان وخدمات، يكتب سكوت، هي وليدة القرنين الماضيين لا أكثر، مع سيطرة البشر على وسائل الطاقة الحديثة وتسخيرهم للوقود الأحفوري. أمّا على مدى التّاريخ، وبخاصّةٍ في العراق القديم، فإنّ المعادلة كانت مختلفةً تماماً. «البربري» كان يعيش أطول، ويأكل أفضل، ويعمل أقلّ بكثير من نظيره الفلّاح السومري وهو، فوق ذلك، يعيش في مجتمع تضامني غير هرميّ، لا تفرض عليه السّخرة ولا ضرائب الملك (لا ريب في أنّ سكوت قد وجد في هذه التشكيلات التاريخية شيئاً أقرب الى المثال الرومانسي عن «الاقتصاد الأخلاقي» الذي نظّر له في كتبٍ سابقة). مناطق الأهوار في العراق تحديداً، يقول المؤرّخون، كانت بمثابة «جنّةٍ» للإنسان الأوّل، مواردها وفيرة وقريبة وتجود بها الطبيعة على طول السّنة، بل إنّ سكّان تلك المناطق لم يكونوا يحتاجون الى الارتحال لاستغلال الطبيعة والطّقس فالمواسم، بحسب وصف سكوت، «كانت تأتي اليهم»: في موسمٍ معيّن تهاجر الحيوانات الكبيرة كالغزلان والأبقار عبر ديارك، فتحصل في أسبوعٍ على كمّيّة هائلة من اللحوم؛ في موسمٍ آخر تكون هجرة الطيور والدجاج؛ ثمّ ينبت القمح البرّي أو ثمار بذورٍ زرعتها في وقتٍ سابق؛ ولديك طوال الوقت موردٌ من السّمك والسلاحف وثمار البحر ــــ فما الحافز لديك لكي تصبح مزارعاً\ قنّاً في دولةٍ، تأكل فيها يوميّاً الطعام ذاته (والبصل هو إدامك وحساؤك وفاكهتك) أو يوزّع عليك ــــ كما العامل في أور ــــ ليتران من الشعير في كلّ يوم؟

بين البرابرة والحضر

في مجتمع القمح الحضري، بالمقابل، انت ــــ لو كنت من غير النّخب ــــ ستواجه حياةً مرهقةً وقصيرة. أهل الحضر، بسبب حمية الحبوب، هم أقصر وأصغر قامةً من البرابرة. يمكن تمييز الهياكل العظمية للمزارعين القدماء لأنّ ركب النساء قد آذاها الركوع الطويل أمام ثلوم الأرض ومفاصل الرجال فيها عيوبٌ وأمراض. الأطفال يموتون بنسبٍ أعلى، وتجمّع البشر والحيوانات في أماكن ثابتة يعني انتشار أمراضٍ وأوبئةٍ مرعبة (كانت تؤدّي، دورياً، الى انهيار ممالك وهجرة فجائية لمدنٍ عامرة). الامتياز الوحيد للإنسان الحضري، يشرح سكوت، هو في أنّ نسب الولادات والخصوبة لديه أعلى بشكلٍ ملحوظ من «البرابرة» المتنقّلين، وهي حالة تماثل تماماً ما يجري لدى الحيوانات عند تدجينها (تصبح الخراف أصغر حجماً من شكلها الأصلي في الطبيعة، تزداد نسب الوفيات لديها ويرتفع، بالتوازي، معدّل الولادات. وهنا فرضيّة أساسية لسكوت: أنّ الدّولة «تدجّن» محيطها وتطوّعه، بدءاً من الطبيعة وصولاً الى الحيوانات والنباتات، ثم الانسان العامل، الذي لم يكن في نظر حكّام الدولة يختلف نوعياً عن الأدوات والخراف). هذا الفارق في نسب الولادات، يقول سكوت، قد يبدو بسيطاً بمقاييس اليوم، ولكنّه يصنع فارقاً كبيراً على مدى خمسة آلاف سنة.
«مجمّع الحبوب والعمل»، كما يسمّي سكوت النموذج الحضري، هو نموذجٌ لاستخلاص الفائض من المزارعين عبر نخب الدّولة، ففي المدينة انت تحتاج الى إطعام فئاتٍ كثيرة لا تعمل ــــ كهنة ونبلاء وكتبة وجنود ــــ فيصبح لزاماً على كلّ عامل أن ينتج فائضاً يفوق حاجته وحاجة أسرته، لتصادره الدولة منه على شكل ضرائب أو عملٍ سخرةٍ أو حصّةٍ من المحصول. كامل جهاز الدّولة، ونظم الكتابة والتدوين ومسح الاراضي والقمع والرقابة، هدفه اجبار المزارع على انتاج هذا الفائض. لهذا السّبب ايضاً، لم تتشكّل المدن ــــ بحسب سكوت ــــ الّا في ظروفٍ «اجبارية»، كأن يتجمّع عددٌ كبير من الناس في مساحة خصبةٍ صغيرة بسبب انقراض الحيوانات في محيطهم، وظلّت الدّول ــــ لأكثر التاريخ ــــ «بقعاً» صغيرة في محيطٍ من «البرابرة». نفهم هكذا لماذا لم تتمكّن المراكز الحضرية من الاستمرار الّا عبر أنظمة السّخرة والعبودية لرفد رصيدها من العمّال: كانت روما فعلياً امبراطورية عبيد، بحسب سكوت، وثلثا سكّان مدن اليونان القديمة، على الأقل، كانوا عبيداً. في العراق القديم، نقلت الامبراطورية الآشورية بحسب الروايات، دفعةً واحدة، أكثر من 200 ألف بابلي الى قلبها كـ«غنيمة بشرية» بعد انتصارها في الحرب.
أمّا البرابرة، فهم قد نالوا الوصف السيئ، رغم ذلك كلّه، في السجل التاريخي لأنّ مصادرنا عن التاريخ المكتوب كلّها حضريّة، وايضاً لأنّ البرابرة ونخب الحضر كانوا عملياً، طوال التاريخ، في تنافسٍ على الفائض ذاته الذي يولّده «مجمّع الحبوب والعمل»، وهي الفرضية الثانية لجايمس سكوت. البربري كان يشكّل تهديداً ورعباً لنخب المدينة، وليس لأطرافها الزراعية، لأنّه قد يغزو اهراءاتهم، ويسرق ذهبهم، أو يطالبهم بضريبة حتّى يكفّ عنهم. يروي سكوت أن الدولة الصينية كانت تدفع ثلث ميزانيتها «دعماً» للقبائل البدوية في شمالها وشرقها تجنّباً لغزواتها، وتسلّم سنوياً نصف مليون لفّةٍ من الحرير الى الاويغور؛ فيما دفعت روما الف رطلٍ من الذهب لقبائل القلت حتّى تتوقّف عن مهاجمة المراكز الرومانية.

البداوة في بلادنا

المثير هنا هو أنّ الكثير مما يرويه سكوت ينطبق على الجدالات حول البداوة والتمدّن في بلادنا. يجب أن نميّز هنا بين ثلاثة مفاهيم عن «البداوة» («برابرة» اقليمنا، بتعابير سكوت): 1ــــ البداوة كنمط حياة وانتاج اجتماعي وتاريخي متعدّد الأوجه، كان يهيمن على أجزاء واسعة من اقليمنا ثم انحصر اليوم في هوامش ضيّقة ويكاد ينقرض. 2 ــــ البداوة كما قدّمها الحضريّون، وتحديداً النّخب الحضرية، في سجلّاتهم التاريخية. 3 ــــ البداوة كمفهومٍ حديث، يُستخدم في الخطاب العربي اليوم لـ«تحقير» أقوامٍ، أو لرسم حدودٍ واختلافات «ثقافية» بين المشرق والخليج، أو حتّى لتوصيف ظواهر مثل «داعش» والاسلام الوهابي.
لدى الباحث العراقي حسن الخلف نظريّة عن رواج وصم الخليج بـ«البداوة» أو «الثقافة الصحراوية» من قبل «مشرقيين»، وهي أنّ أغلب هذه الأصوات ليست لنخب مشرقيّة بالمعنى العام، بل هي لنخبٍ مشرقيّة ساحلية تحديداً، تنتمي الى ساحل الشّام وتفترض أنّ كلّ «أمّتها» تشبهها، تشرب العرق وتحبّ فيروز، أو أنّها هي المثال «الحضاري» للأمّة (فنكون هنا قد عدنا الى ما يشبه ايديولوجيا «الكتائب»، جزءٌ من النّاس يدّعي الانتساب الى «الحضارة» دون غيره). المشكلة هي أنّ هؤلاء، على ما يبدو، لم يتجوّلوا في أرجاء بلادهم، وينتقلوا بالسيارة بين سوريا والاردن والعراق مثلاً، حتّى يكتشفوا أنّ ارضهم هي «الصحراء»، وليست أرض غيرهم فقط، وأنّ الغالبية الساحقة من شعبهم تعود الى أصولٍ عشائرية وبدويّة.
المسألة ليست فقط في ما يقوله سكوت عن الدينامية بين المدن والبداوة، وأنّ الدّول كانت تحتاج الى «البرابرة» بقدر استفادتهم منها، ولا أنّ «البرابرة» هم غالباً من يصبح نخب المدن ومؤسسي السلالات (عرفت اسطنبول أعظم أيّامها تحت حكم بني عثمان، وانت اليوم من الأسهل عليك أن تجد بريطانياً أو سويدياً في شوارع البصرة من أن تعثر على بصريٍّ لا تعود أصول عائلته، قبل قرنٍ أو اثنين، الى عشائر الريف)، بل هي في أنّ توصيف «البداوة»، كما يتخيّله البعض اليوم، لا علاقة له بواقعه التاريخي. ولو أنّك قرأت السجلّ عن الحرب بين البدو والدّولة في العراق، مثلاً، فأنت ستجنح ــــ على الأرجح ــــ للتعاطف مع الخزاعل وامارتهم البائدة، وليس مع العسكر المملوكي أو الانكشاري الذي يحكم بغداد.
من الطّريف، مثلاً، أنّ الكثير من المعلّقين يستسهلون ربط المذهب الوهابي بالبداوة والصّحراء، مع أنّ من قرأ أيّ شيء عن تاريخ الوهابيّة يعرف أنّها مذهبٌ حضريّ، نشأ تحديداً بسبب ظهورٍ مدنٍ تجارية في نجد ومحيطها، ونشوء طبقة زعماء ورجال دين. ومن قرأ أيّ شيء عن تاريخ العشائر يعرف، بالتوازي، أنّ البدو «الفعليّين» كان من سابع المستحيلات أن يفكّروا ببناء حركةٍ دينيّة متعصّبة على شاكلة الوهابية. بل إنّ الوهابيّة كانت، حرفياً، «معادية للبداوة» بمعنى أنّها نظرت الى البدوي على أنّه كائن «جاهليّ» يحتاج الى إعادة تأهيلٍ خلقيّ ودينيّ حتّى يعود مسلماً «صالحاً». وقد تبع انشاء الدولة السعودية أكبر وأسرع حملةٍ لتمدين البدو في التّاريخ (أكثر من تسعين بالمئة من مواطني السعودية هم، منذ أجيالٍ، أهل مدن، ونسبة البدو في العراق وسوريا اليوم قد تكون أعلى منها في السعودية). بتعابير أخرى، النظرة الوهابية الى البدو كانت نظرة «حضرية» تقليدية، تراهم «أدوات» قتالٍ وتوسّعٍ و«برابرة» يجب ترويضهم وتدجينهم عبر العقيدة والحياة المدينيّة. من هنا، فإنّنا حين نتكلّم على البداوة فإننا نبحث في نمط حياةٍ تاريخي، انقضى ولم يعد موجوداً (الّا اذا اعتبر البعض أنّ «البداوة» جوهرٌ ثقافي، يتمّ تناقله كالجينات)، فلا داعي، عزيزي «الحضريّ»، لأن تخاف بعد من «البدو» ومن ابلهم السريعة، فهم لن يغزوك بعد اليوم. بل إنّ كلّ الشرّ الذي قد تواجهه، تكفيرٌ وذبحٌ وميليشيات مجرمة وايديولوجيات قاتلة، قد جاءتك من قضاةٍ وحضريين ومثقّفين، وحركات حداثيّة بالكامل، تمتدّ من واشنطن الى الرياض، وتتغذّى على التكنولوجيا والنفط والعولمة.