شيئاً فشيئاً، يتسرب الهواء "اللطيف". تخفّ درجات الحرارة، وإن بشكلٍ بطيء، ويتسرّب نسيم عليل، يستحيل مع ساعات الليل هواء يحمل من البرودة ما أمكن. في مثل هذه الأيام، تبدأ التقلبات المناخية مع حلول فصل الخريف. ولئن كان الكثيرون ينتظرونها للتخفيف من حدة الحرارة التي رافقت شهور الصيف اللاهبة، إلا أنها ليست مدعاة للفرح المطلق، فهذه الأيام تحمل معها الكثير من الأمراض الفيروسية، مثل الزكام وحساسية الصدر والتهاب المفاصل والاضطرابات الموسمية وفي وقتٍ لاحق نزلات البرد.
ثمة "صنف" من البشر لا ينتظر تلك المواسم لسبب واحد: الخوف من هذه الأمراض، وغالباً ما يكون هؤلاء هم أصحاب الحساسية المزمنة، أو ما نطلق عليه حساسية الربو. فهذه المواسم من الأصعب في حياة هؤلاء، حيث تزداد حدّة نوبات الحساسية في الصدر. وغالباً، ما لا تحمد عقباها، إذ قد تجعل المريض أسير غرف المستشفيات. لكن، ما هو هذا الداء الذي قد يجرّد مرضى من حياتهم، فيما لو اشتد؟ وكيف يمكن التعرف إليه؟ إلى أعراضه؟ وماذا عن علاجاته؟ وكيفية الوقاية منه؟ أسئلة كثيرة سنحاول الإجابة عنها هنا.

التهاب القصيبات: أصل الحكاية

"مزمن"، هي الصفة التي ترافق مرض الربو الذي يأتي في الغالب في عمر مبكر، وتحديداً في سن الطفولة، حيث يكون أول ظهور لعوارضه في سن الخمس سنوات. قبل ذلك العمر، تظهر أعراض مشابهة للربو نتيجة عدوى الجهاز التنفسي العلوي مثل حالات البرد. هذه العوارض التي تتبلور مع سن الخامسة، لتبدأ معها معاناة الصغير مع الربو، مرافقة إياه عمره كله.
أما، ما هو؟ يعرف الربو على أنه التهاب ـ مزمن ـ في الشعب الهوائية، وينتج عن حالة من فرط استجابة أو تحسس القصبات الهوائية للمؤثرات المختلفة، الأمر الذي يؤدي إلى نوبات متكررة من "الأزيز" وضيق في التنفس وضيق الصدر والسعال، خصوصاً في فترات الليل والصباح الباكر. بتعبير أوضح، يعدّ الربو نوعاً من الحساسية القاسية التي تؤثر على ممرات التنفس في الرئتين ـ القصيبات ـ بشكلٍ يسبب تهيجها ويجعلها أكثر حساسية. وعندما يحدث التهاب بممرات الهواء نتيجة لمؤثر معين خارجي أو داخلي، يمتلئ الممر بالمخاط وتنقبض العضلات الموجودة فيه، مما يسبب ضيقاً في الهواء، وهذا الضيق يسبب صعوبة في التنفس. لكن، هل سأل أحدكم لماذا تتزايد نسبة مرض الربو في فصلي الخريف والشتاء؟ ولماذا تزداد النسبة أصلاً في العقود الأخيرة؟
على عكس ما يظن البعض أن فصلي الخريف والشتاء يقللان من أعراض الربو، وذلك بسبب قلة الملوثات العالقة في الجو. وهذا خطأ شائع، فما يحصل في الواقع مغاير لما نعتفده نحن. فهناك زيادة كبيرة في نوبات الربو خلال هذين الفصلين، وقد وثق علمياً ازدياد حالات الربو في عدد من المدن الغربية بصورة كبيرة وبائية. والدليل ما توصلت إليه إحدى الدراسات العلمية التي نشرت في "مجلة الحساسية والمناعة السريرية"، والتي لاحظ من خلالها العلماء ازدياداً ملحوظاً في أعداد الأطفال المدخلين إلى غرف الطوارئ لعلاج حالات ربو حادة في كندا خلال الفترة بين 10 و30 أيلول، الأمر الذي جعل العلماء يطلقون على هذه الظاهرة اسم "وباء سبتمبر".
أما، لماذا زادت نسبة مرض الريو في العقود الأخيرة، فتورد الدراسة سبباً أساسياً هو تلوث الهواء الذي نتنفسه. هذا أصل الحكاية. أضف إلى ذلك أسباباً أخرى منها مثلاً قلة ممارسة التمارين الرياضية وزيادة نسبة السمنة وقضاء الكثير من الوقت داخل الأماكن المغلقة، مما يجعل الكثيرين عرضة للمؤثرات الداخلية من العفن الموجود في الأماكن الرطبة مثل المطبخ والحمام.

تّقوا الأماكن المغلقة

ليس هناك من سبب واحد للإصابة بهذا الداء، إذ تجتمع جملة أسباب لعلّ أهمها"
ـ عاملا الهواء البارد والتهابات المجاري التفسية العلوية، فالهواء البارد قادر بحد ذاته على تحفيز نوبة ربو عند بعض المرضى، حيث يعتقد أنه يعمل على تحفيز منبهات عصبية في الرئة والتي بدورها تعمل على تفعيل عملية الالتهاب وحدوث تضيق في القصبات وما يتبعه من أزيز وضيق في التنفس.
ـ من جهة أخرى، تلعب التهابات المجاري التنفسية الدور الأكبر في التسبب بحدوث نوبة الربو. ففي فصلي الخريف والشتاء، تكثر حالات الإصابة بالزكام والانفلونزا والنزلات الصدرية، والتي تعزى في أغلبها إلى الفيروسات. ويترافق مع ذلك بدء الموسم الدراسي وانخفاض حرارة الجو وما يترتب عليه من تشغيل لأنظمة التدفئة وعزل الهواء الخارجي، مما يعني عدم تجديد الهواء في البيوت والغرف، الأمر الذي يساعد على انتقال العدوى بشكل سريع.

المواجهة بخطة عمل

استناداً لما سبق، يبدو من الصعب بمكان تجنّب التعرض لهذه العوامل، إلا أن هناك طرقاً للحفاظ على صحة وسلامة مريض الربو خلال تلك الفترات، ومن بينها:

المبدأ الأساس مراقبة الاعراض التي يعاني منها المريض بشكل يومي ولو كانت بسيطة


ـ السيطرة على أعراض الربو البسيطة قبل تطوّرها إلى مشاكل أخرى. فبرغم من بساطة هذا المبدأ، إلا أنه في غاية الأهمية، فقد أوصى به معهد القلب والرئة والدم الوطني الأميركي، وضمه إلى المبادئ التوجيهية التي وضعها في آب من عام 2007 لمواجهة الربو. فالمراقبة والسيطرة على الأعراض التي قد يعاني منها المريض، مهما كانت بسيطة، بشكل يومي يساعد على تجنب حصول نوبات قوية تستدعي مراجعة الطبيب وتقلل من احتمالبة حصولها في المستقبل.
بترجمة عملية، كيف يمكن السيطرة على الربو، خصوصاً في ظلّ عدم وجود علاج يوقف بشكلٍ كامل هذا الداء؟ يتحدث المتخصصون في طب الحساسية عن "أفضل الطرق" للسيطرة على أعراض الربو، فيشير هؤلاء إلى أن أفضلها هو المواظبة والالتزام بأدوية الربو الموصوفة، فمن الملاحظ أن كثيراً من المرضى يشعرون بتحسن في فصل الصيف، حيث تقلّ النوبات التي تصيبهم وتقلّ حدة الأعراض، فيبدأون بترك أدويتهم أو عدم الانتظام عليها، الأمر الذي يجعلهم أكثر قابلية للإصابة بالنوبات مع حلول فصل الخريف.
أضف إلى ذلك، هناك طريقة أخرى لتجنب المشاكل خلال فصلي الخريف والشتاء أو في أي وقت، هو كتابة "خطة عمل" والالتزام بها. خطة هي عبارة عن مجموعة إرشادات تساعد المريض أو ولي أمره في مواجهة الأعراض التي قد يتعرض لها:
ـ يجب أن تحتوي الخطة على قائمة متجددة بالعوامل التي لوحظ بأنها قد تحفز نوبات الربو عند المريض والتي يجب عليه تجنبها. وتختلف هذه العوامل من مريض إلى آخر، مثل الأبخرة أو العطور أو غيرها.
ـ يجب أن يسجل فيها مجموعة الأعراض المحددة التي تنذر ببدء النوبة عند المريض، مثل السعال أو الأزيز أو ضيق التنفس.
ـ يجب أن تحتوي على قائمة الأدوية التي يتناولها المريض، مرفقة بالأعراض والاستخدامات لكل علاج، وعلى الإجراءات التي يجب اتخاذها والأدوية التي يجب تناولها في الحالات الطارئة، كما يجب على المريض أن يحتفظ بالأدوية أو البخاخات سريعة المفعول قريبة منه أو في متناول اليد.






درهم وقاية خير من قنطار علاج

قبل أن "يضربك" الربو بقوته التي غالباً ما لا تحمد عقباها، ينصح الأطباء باتخاذ بعض الإجراءات الوقائية والالتزام بها للتخفيف من حدّة تلك الحساسية المزمنة. وهذه ليست نصيحة عابرة، وإنما أساس، يستحسن العمل به على قاعدة أن درهم الوقاية سيحمي بلا شك من "قناطير العلاج". ومن هذه الإجراءات:
لقاحات الانفلونزا السنوية: هي لقاحات تحتوي عادة على ثلاث أنواع من فيروسات الانفلونزا والتي يعتقد العلماء بأنها ستكون الأكثر انتشاراً في الموسم المقبل، مناسبة للأطفال من عمر الـ6 أشهر فما فوق وللبالغين. يُنصح مريض الربو باستشارة طبيبه المعالج ومناقشته إمكانية الحصول عليها، ويفضل أخذ اللقاح بالحقن وتجنب البخاخ لدى مرضى الربو، إذ من الممكن أن يسبب لهم مضاعفات أخرى.

لقاح الالتهاب الرئوي:

ينصح بسؤال الطبيب عن امكانية الحصول على مثل هذا اللقاح ومدى حاجة المريض له، خصوصاً أنه يوفر للمريض مناعة ضد البكتيريا العقدية الرئوية المسببة لالتهاب الرئة، على أنه يؤخذ لمرة واحدة فقط.


تجنب الاختلاط بالمرضى:

قد يبدو الأمر صعباً، خصوصاً بين أطفال المدارس وفي ظروف البرد القارس، ولكن تجنب التلامس المباشر والتزام قواعد النظافة الشخصية قد تساعد في الكثير من الأحيان، كما قد يلجأ بعض المرضى لاستخدام وسائل عزل مثل أقنعة الوجه أو ارتداء الأوشحة أو غيرها إذا كان تجنب الأشخاص المرضى من حولهم صعباً.

غسل اليدين جيداً... وبكثره:

جنّب لمس العينين والأنف والفم، والتزود دائماً بمعقم يدين واستخدامه باستمرار.
في بعض الأحيان، وحتى مع اتخاذ تدابير وقائية، فإن التقاط عدوى الزكام أو الانفلونزا يغدو أمراً لا مفر منه. في هذه الحالة قد تساعد الخطوات التالية في منع تطور حالة الربو أو حصول مضاعفات خطيرة:
ففي حال شعور المريض بتصاعد أعراض الربو، يجب الاتصال بالطبيب فوراً، فهو قادر على تحديد نوع العدوى وعلى وصف العلاجات لها أو مساعدة المريض على التحسن السريع، وكلما كان التعامل مع الحالة أسرع كلما تجنب المريض حدوث مضاعفات أخرى.

الالتزام بخطة العمل:

عند ملاحظة أعراض معينة تساعد خطة العمل على تحديد علاج الربو المناسب لها.
لراحة والإكثار من شرب السوائل بدل المضادات الحيوية:
يتوافر في الصيدليات عدد من العلاجات المخففة لأعراض الربو، ولكن ليست كل هذه العلاجات مناسبة لمريض الربو، فمثلاً مضادات الالتهابات والمسكنات المختلفة مثل الأسبرين والباراسيتامول قد تسبب تفاقماً في أعراض الربو لدى بعض المرضى، وقد تسبب مضادات الاحتقان، في حال استخدامها المتزامن مع موسعات القصبات، خفقاناً في القلب، كما أظهرت بعض الدراسات أنها تسبب جفافاً في المجاري التنفسية الأمر الذي قد يزيد من حدة أعراض المريض، لذا وقبل استخدام أي مستحضر، يجب سؤال الطبيب أو الصيدلاني.

* للمشاركة في صفحة «صحة» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]