أحد الأكاديميين الغربيين كان يعلّق في عام 2011 على بعضٍ من جوانب الأحداث في سوريا، بالقول: «لا يزال الشرق الأوسط يعيش تحت وطأة تداعيات الحرب العالمية الأولى. في هذه المنطقة من العالم، هذه الحرب لم تنتهِ»، في إشارة إلى أنّ الخريطة السياسية للحدود رسمت في الأساس بعد تلك الحرب.
هذه الفرضية تتوافق ومجمل أحاديث رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني، حين كان يدعو منذ انطلاق «الحرب على داعش» في 2014، إلى «إعادة رسم الحدود في المنطقة». لكن البرزاني لم يكن يستند في دعواته تلك إلى «مبدأ ضرورة إعادة النظر في الحدود»، إذ إنّ إقليم كردستان وأطرافه الفاعلين، وبخلاف القوى الكردية في الدول الأخرى، راكموا على مدى العقود الماضية، وتحديداً منذ عام الغزو الأميركي ــ البريطاني في 2003، أدوات قوة ونفوذ سمحت بالوصول إلى «لحظة الاستفتاء» المفصلية. بمعنى آخر، إنّ «استفتاء 25 أيلول» الذي قد يُنظر إليه على أنّه «يفتح مرحلة ما بعد داعش في الشرق الأوسط»، لم يُنظَّم في «غفلة من التاريخ»، بل كانت كل أسبابه قد تراكمت، بما فيها الدعم السياسي (المعلن منه والباطن).

مسار الاستفتاء... «أتقنه» البرزاني

في ظل غياب الزعيم السياسي جلال الطالباني، عن المشهد السياسي، بسبب مرضه، نجح مسعود البرزاني في فرض شعار عام في إقليم كردستان: «لا صوت يعلو فوق صوت الاستفتاء»، يقول سياسي كردي في حديثه إلى «الأخبار»، معقباً أيضاً بأنّه «لو كان مام جلال حاضراً بكل ثقله في المشهد العام، لما جرى الاستفتاء بهذا الشكل، خاصة أنّ تحفظات مجمل الأطراف الكردية كانت تصب في خانة انتقاد تجيير هذا الحدث لمصلحة طرف واحد».
إلا أنّ البرزاني أجاد الاستفادة من قرب «انتهاء الحرب على داعش» عقب استعادة الموصل، ومن الأوضاع الداخلية لإقليم كردستان، ليطرح مشروع الاستفتاء (غير الملزم قانونياً) على استقلال الإقليم، وهي المسألة «التي لا يمكن أي كردي رفضها من حيث المبدأ»، يقول السياسي الكردي. وفي المفاوضات التي قادها منذ شهر حزيران مع الأطراف الداخلية في الإقليم، فإنّه استفاد من ورقة تعطّل مؤسسات الإقليم (البرلمان مغلق، ورئاسته التي انتهت مدتها)، ليقود كل المتحفظين الاستفتاء نحو الموافقة على إجرائه.
الصحافي التركي محمود بوزرسلان، يرى في حديث إلى «الأخبار»، أنّ «الاستفتاء مثّل ورقة اختبار للأحزاب الكردية، فالحزب الديموقراطي الكردستاني (بزعامة) البرزاني، كان قد فقد من شعبيته في المجتمع لأسباب عدّة، وذلك في وقت أنّ حزب الاتحاد الوطني الكردستاني (بزعامة جلال الطالباني)، كان بحكم الأمر الواقع منقسماً على نفسه»، في إشارة إلى المصاعب التي يعانيها هذا الحزب في ظل مرض زعيمه. (الصحافي المتخصص في شؤون إقليم كردستان سمان نوح، رأى قبل أيام، أنّ الخلافات داخل هذا الحزب أدت إلى واقع أنّ «الاتحاد الوطني، لم يعد اتحاداً»).
يكمل بوزرسلان، شارحاً أنّه من ضمن ذلك المشهد «كانت قوة حركة التغيير (غوران) وشعبيتها تتناميان، فيما أصبحت الأحزاب الدينية في بعض الأماكن (في الإقليم) قوية». إلا أنّ الصحافي التركي المقيم في دياربكر يستدرك بالقول إنّ «إصرار البرزاني على الاستفتاء غيّر هذا (المشهد)، خاصة بعد عودة عمل برلمان الإقليم وتشريعه الاستفتاء (في 16 الشهر الجاري)... وهذا ما أفقد بقية الأحزاب حججها» التي كانت ترفعها للتحفظ على توقيت الاستفتاء.
«وقف (حزب) جلال الطالباني مع البرزاني ونسي أكراد العراق كل لاأخلاقيات الحزب الديموقراطي وزعيمه البرزاني، (وهذا ما أدى) إلى أن يصبح هذان الحزبان أكثر قوة الآن بعد الاستفتاء»، يقول بوزرسلان، الذي يضيف أنّ «حزب التغيير والجماعة الإسلامية قررا التصويت بنعم على الاستفتاء عشية إقامته، إلا أنّ ذلك لم يكن كافياً كي لا يخسروا قوتهم»، خاصة أنّ «حزب التغيير» كان قد فقد زعيمه المؤسس نوشيروان مصطفى، في شهر أيار الماضي، وهو الحدث الذي أضعف الحزب.
انجرار الجميع خلف مشروع البرزاني «الذي ما كان ليقوم لولا دعم سياسي خفي»، كما يعتبر السياسي الكردي، أنتج ارتفاعاً في نسب المشاركة في الاستحقاق، وذلك حتى في السليمانية ــ معقل الطالباني. (من المهم الإشارة هنا إلى أنّ الاتحاد «الإسلامي» ــ الإخواني والقريب بحكم الواقع من السلطات التركية ــ شارك مؤيداً. ولئن يندرج تأييده في سياق انجراره خلف الأمر الواقع الذي فرضه البرزاني، فإنّ هناك أطرافاً تفسّر تأييده المتأخر للاستفتاء بفرضية تقول إنّ ذلك يعكس توافقات خفية توصلت إليها أنقرة مع البرزاني في اللحظات الأخيرة).
هذا المسار الذي يشير إلى حنكة البرزاني السياسية، دعّمته قوة عسكرية (البشمركة)، ما سهّل عليه التشبث بخياره. الضابط الرائد في قوات «البشمركة» إسلام جالي، يؤكد هذا الأمر في حديثه إلى «الأخبار»، مشيراً إلى دعم قوة تشمل «أكثر من ٢٣٠ ألف مقاتل من البشمركة بكامل أسلحتها الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، ما عدا الطائرات». يقول جالي: «لدينا سلطة مطلقة على كل كردستان، بما فيها المناطق المتنازع عليها وفق المادة ١٤٠ من الدستور العراقي، وقد أُجري الاستفتاء في كل هذه المناطق على الرغم من تهديدات الحشد الشعبي والحكومة العراقية»، مضيفاً أنّ «البشمركة قاتلت داعش وكسرت هيبة داعش بدعم من التحالف الدولي، ومن غير المعقول أن يسمح التحالف الدولي بالاعتداء على البشمركة من جهة، ومن جهة ثانية باستطاعة قوات البشمركة رد أي هجوم محتمل من قبل القوات الأمنية العراقية، وذلك لعدة اسباب أهمها: أننا في وضع الدفاع... إضافة إلى عنصر الإرادة والمعنويات باعتبار أنّ هذه المناطق مناطق كردية».

نفوذ في المناطق المتنازع عليها؟

مشروع البرزاني القائم على مسار سياسي وقوة عسكرية (ودعم سياسي خارجي غير واضح بعد)، طاول أيضاً «المناطق المتنازع عليها مع بغداد»، إضافة إلى المناطق التي سيطرت عليها «البشمركة» على مدار فصول «الحرب ضد داعش». وعن هذه المسألة، يشرح الصحافي المختص في شؤون إقليم كردستان سمان نوح، أنّ «معظم سكان سهل نينوى ومنطقة سنجار لم يعودوا إلى مناطقهم بعد بسبب ضعف أو انعدام الخدمات فيها، وبالتالي لا رؤية ولا موقف واضحاً لأهالي تلك المناطق بشأن الاستفتاء»، مضيفاً أنه «بالعموم، تفاعلُ النازحين ضعيف مع هذه المسائل (استفتاءات وانتخابات) في ظل مخاوفهم من أن تكون خلافات حكومتي أربيل وبغداد سبباً في اشتعال الصراعات في مناطقهم». ويستطرد نوح قائلاً: «أبدت الحركة الديموقراطية الاشورية التي تعدُّ أكبر الأحزاب المسيحية معارضتها للاستفتاء في سهل نينوى، ويؤديها الكثير من المسيحيين. (لكنْ) هناك مسيحيون أيدوا الاستفتاء عن قناعة بأن مستقبلهم سيكون أفضل مع القيادة الكردية، وآخرون أيدوه علناً تحت تأثير المخاوف أو المصالح بحكم وجودهم في مناطق يسيطر عليها الكرد عملياً».
أما في ما يخص كركوك، التي تعدُّ أكثر المناطق المتنازع عليها رمزية وأهمية، فيوضح الصحافي المختص في شؤون إقليم كردستان أنّ «الأمر أكثر تعقيداً (مقارنة بسهل نينوى)، بسبب التداخلات الإقليمية والأهمية الاقتصادية للمنطقة». ويقول: «قررت الجبهة التركمانية (الجهة الأكثر تمثيلاً للتركمان) ومعظم القوى العربية، المقاطعة، وبغياب مراقبين دوليين ومحايدين لا يُعرف حجم مشاركة التركمان فعلياً في العملية، فيما من البديهي مقاطعة المواطنين العرب، خاصة أنّ معظم مناطق انتشارهم في محاظفة كركوك لم يشملها الاستفتاء، وهي لا تزال تخضع لسيطرة تنظيم داعش».
«الجميع سينتظر خطوات ما بعد الانفصال: فهل يمضي الكرد بحماسة نحو الانفصال؟ أم أنهم سيخوضون لسنوات حوارات مع بغداد؟»، يتساءل سمان نوح، مضيفاً أنّ «طبيعة تداعيات كلا الاحتمالين ونجاح أي من طرفي الصراع في فرض إرادته في تلك المناطق ستجبر المكونات الصغيرة للاستسلام لها وتقبلها والتعامل معها، مع حقيقة أنّ المكونات الصغيرة لا تؤمن، بحكم التجربة، بأنّ أياً من طرفي الصراع مستعد لبناء نظام ديموقراطي مدني يحفظ حقوق المكونات فعلياً ويؤمّن شراكتها، لا على الورق، من خلال دولة مواطنة، وليس دولة مذهبية ولا دولة قومية».

الزعيم الجديد؟

أثناء اليوم الطويل الذي شهده إقليم كردستان أول من أمس، كان لافتاً استخدام عبارة «العراق الشقيق» أثناء توجه كردي بدعوة لإجراء استفتاءات مماثلة في «الجمهورية السابقة»، غامزاً من قناة «العرب السنّة». من الناحية النظرية، لا قيمة لعبارة كهذه إلا من باب أنّها توضح الزاوية التي بات يُنظر «كُردياً» من خلالها إلى العراق: «دولة شقيقة»!
من الجهة المقابلة، قد تسأل عراقياً عن نظرته إلى البرزاني، فيجيب قائلاً: «بالنسبة إلي، إنّ البرزاني هو الزعيم السياسي الوحيد الذي عرف ماذا يريد في العراق، ووضع خطة لتحويل هذه الإرادة إلى واقع... عندما أقيسه بزعمائنا الآخرين، أخجل من كوني عربياً، وهذا قطعاً بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه».
هاتان النظرتان تدفعان نحو طرح أسئلة عن حجم زعامة البرزاني بعد الاستفتاء ونفوذها، فهل يكون «رجل الأكراد الجديد»، خاصة في ظل غياب جلال الطالباني وعبدالله أوجلان عن المشهد؟ «قطعاً إنّه يستفيد من هذا الواقع، خاصة بعدما لعب لعبة الاستفتاء بحذاقة، وبالتالي إنّ وضعه سيتطور بصرف النظر عن الموقف الشخصي منه... لكن لا أعتقد أنه يجب تعميم واقع الزعامة الجديدة على صعيد المنطقة ككل»، يجيب السياسي الكردي.




«العمّال الكردستاني»: الغموض سيّد الموقف

قد يؤثر نجاح مشروع مسعود البرزاني، (حتى يومنا) في ريادة «حزب العمال الكردستاني» ضمن «البيت الكردي»، الذي بات البعض من «الحلفاء غير الأكراد» يخشون من أنه «نقل البندقية من كتف إلى أخرى». لا بد من الانتظار «للحكم»، لكن عند سؤال سمان نوح عن «طبيعة تفاعل مناصري حزب العمال مع الاستفتاء»، يجيب بأنّ «حزب العمال رحّب عملياً بالاستفتاء وسيرحب بالانفصال أكثر لأنه يأمل أن يوفر ساحة أكبر لتحركاتهم ونشاطاتهم التي برزت في شمال سوريا في السنوات الأخيرة... إلى حد أنه أصبح الحاكم الفعلي في المنطقة عبر حزب الاتحاد الديموقراطي المتناغم فكرياً وعقائدياً وتنظيمياً معه»، قبل أن يختم بأنّ «الحزب سيستفيد عملياً من أي فوضى وصراعات قد تحصل في المنطقة لتقوية نفوذه».