إثر استفتاء كردستان العراق، تجاورت نزعتان قويتان كأنهما من توابع زلزال ضرب الإقليم كله. النزعة الأولى ــ خشية أن يفضي الانفصال الكردي إلى إعادة صياغة خرائط الإقليم وبناء دويلات جديدة على أنقاضه.الكلام لم يعد مرسلاً عن احتمالات تقسيم دول جوهرية وتمزيق روابط استقرت لحقب طويلة، فالخطر ماثل هنا وهناك، ولا أحد خارج نطاق ضربات الزلزال وتوابعه.

باستعارة أخرى، فإن الزلزال الكردي أقرب إلى جراحات في العراء بلا غرف عمليات وأدوات معقمة وأطباء مدربين، كأنه رهان على مجهول يدفع الإقليم إلى مواجهات واقتتالات قد تستغرق القرن الحادي والعشرين ــ كل تمزيق وارد وكل انهيار ممكن.
لعبة التقسيم بدأت ولا أحد يعرف كيف ستنتهي.
إذا ما وصلت اللعبة إلى آخرها في العراق، وهذا احتمال لا يمكن استبعاده، فإن قيمته الاستراتيجية تتقوّض إلى حد كبير، ولا يتبقى منه غير أطلال أدوار وأوزان كانت.
ليس مستبعداً أن يلحق الانفصال الكردي انفصالات أخرى على أسس مذهبية في الجسد المثخن بالجراح ــ وهذا تصميم قديم ومعلن وخرائطه منشورة.
بالوضوح نفسه، فهو طلب إسرائيلي أطلق عليه ذات يوم قريب «الشرق الأوسط الجديد»، الذي تبنّته إدارات أميركية بعد غزو العراق عام ٢٠٠٣.
لم تكن مصادفة أن تُرفع أعلام إسرائيلية بجوار العلم الكردي في أجواء الاستفتاء، فإسرائيل الدولة الوحيدة في العالم التي تؤيد الانفصال وتسانده بمقتضى مصالحها الاستراتيجية، لا إيمانها بمبدأ حق تقرير المصير، الذي تنكره على الفلسطينيين وتمارس بحقهم الإقصاء العنصري والتوسع الاستيطاني. بالقدر ذاته، لم تكن مصادفة أن تطل من على المنصات الكردية في أربيل وجوه عنصرية مثل الفيلسوف الفرنسي برنار هنري ليفي، المعروف بتوجهاته الصهيونية المتطرفة، الذي يصف نفسه بأنه «الأب الروحي» للثورة الليبية، وقد لعب دوراً محورياً في دفع حلف «الناتو» ومراكز صناعة القرار في فرنسا والولايات المتحدة إلى التدخل العسكري في ليبيا باسم حماية المدنيين، الذين لم يأبه بمعاناتهم بعدما خرّبت ليبيا كدولة ومجتمع.
ما الذي دعا «ليفي» إلى المجيء إلا أن يكون ذلك استكمالاً لما يعتقد فيه من ضرورة تفكيك العالم العربي، وإنهاء قوة العراق بالذات إلى الأبد كمصدر تهديد محتمل لإسرائيل. للهدف نفسه، ظهر على المنصات الكردية وزير الخارجية الفرنسي الأسبق برنار كوشنير، وهو يتبنى توجهات صهيونية مماثلة تساند مشروع التوسع الإسرائيلي دون تحفظ واحد. هذه ليست إشارات عابرة بقدر ما هي تعبير عن جهد مقصود لتوظيف «الحلم الكردي في الدولة»، وعمره يمتد إلى نحو قرن، لبناء «الشرق الأوسط الجديد» الذي تكون إسرائيل فيه محور تفاعلاته الاستراتيجية والاقتصادية.
العراق مجرد بداية، فهو مهيّأ أكثر من غيره لسيناريو التقسيم، لكن اللعبة لن تتوقف عنده. سوريا أول خريطة تالية مرشحة لضربات الزلزال، وتقسيمها هدف بذاته بالنظر إلى قيمتها الاستراتيجية في العالم العربي. ذلك موضوع صراع سوف ترتفع وتيرته بين الجيش السوري و«قوات سوريا الديموقراطية» الكردية المدعومة أميركياً.
قد تطرح ــ في سيناريو ما ــ فكرة «الكونفدرالية»، أو «الإدارة الذاتية» في سيناريو آخر، غير أن كل شيء سوف يتوقف على موازين القوى العسكرية على الأرض.
أهم الأسئلة هنا: ما حقيقة الموقف الأميركي؟ وإلى أي حدّ يمكنه المجازفة بصراعات مفتوحة في الإقليم مع حليفه التركي، الذي ينظر إلى دولة كردية في الشمال السوري كمسألة حياة أو موت، حيث توجد على الجانب الآخر من الحدود أقلية كردية كبيرة في حدود العشرين مليون نسمة؟
بصورة شبه مؤكدة، الموقف الأميركي مزدوج، يتحفظ على الاستفتاء الكردي في العراق، لكنه قد تكون له كلمة أخرى قبل إحكام الحصار على أربيل. لا يطرح علناً تقسيم سوريا، لكن تحالفه العسكري مع القوات الكردية يستهدف بالمقام الأول خلق حقائق على الأرض قبل أن يتمكن الجيش السوري من حسم المعركة مع «داعش».
ما هو جار في الكواليس أخطر مما هو ظاهر على السطح، وحسابات القوى والمصالح سوف تغلب على سيناريوات المستقبل.
هكذا تبدت النزعة الثانية على خلفية الاستفتاء الكردي في إعادة ترتيب أوراق الضغط الممكنة من الدول الإقليمية مثل إيران وتركيا، التي تتحسب من تداعيات الزلزال وتوابعه على أمنها القومي ووحدة أراضيها.
ثمة توجّه معلن لبناء تحالف بين الدولتين الإقليميتين الكبيرتين، أو رفع التنسيق أمام الخطر المشترك إلى مستويات غير مسبوقة، وضبط ردات الفعل المشتركة على ما تتبناه الحكومة المركزية في بغداد.
لا يستبعد ــ بمنطق التحالفات ــ أن تدخل موسكو طرفاً مسانداً للإجراءات العقابية المنسقة، إذ إن رهانها الرئيسي في إدارة الأزمة السورية بناء تفاهمات تجمعها إلى طهران واسطنبول وفق صيغة «أستانا» التي تنظم مناطق «خفض التوتر»، وقد قطعت شوطاً لا يستهان به.
من المتوقع أن تتزايد احتمالات الصفقات الكبرى في الإقليم، وأن تمتد لأطراف ليست متداخلة فيها حتى الآن مثل مصر والسعودية.
بحكم خطر التقسيم واحتمالات تمدده إلى دول أخرى في المشرق العربي، فإن ما هو مستبعد قد يصبح واقعاً قبل نهاية هذا العام.
بين خشية التقسيم الماثل وروح الصفقات الممكنة تتداخل اعتبارات وحسابات في سيناريوات ما بعد الزلزال الكردي، التي قد تميل ــ عملياً ــ إلى التصعيد التدريجي في اختبارات القوة ومستويات الضغط الممكنة على أربيل.
في الأزمة المفتوحة، كل سيناريو وارد من فرض الحصار الاقتصادي وإغلاق المنافذ الحدودية وأجواء الطيران ووقف تصدير النفط عبر الأراضي التركية إلى إمكانية التدخل العسكري المباشر، سواء عبر الحدود أو بقوة عراقية تسيطر على المناطق المتنازع عليها، وأهمها كركوك الغنية بالنفط.
التلويح بالقوة العسكرية يصعب إنفاذه الآن بالنظر إلى الحرب على «داعش» وخشية جرّ الإقليم إلى الفوضى الكاملة، لكنه ليس مستبعداً في أي مدي منظور.
لم يكن خفياً أن رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني وظّف اللحظة التاريخية القلقة لاقتناص فرصة «الدولة»، فالحرب على «داعش» لم تصل إلى نهايتها، والقوات العراقية منهكة في حرب مدن وشوارع وأزقة متواصلة، والدولة نفسها يضربها الخلل الداخلي، ولا أحد في العالم ــ تقريباً ــ مستعد لتقبل حرب جديدة في الإقليم المشتعل بالنيران.
كانت تلك الحسابات صلب مجازفة البرزاني، وقد نجح حتى ــ الآن ــ في إضفاء شرعية شعبية على حكمه الذي يفتقدها، فقد انتهت ولايته منذ عامين والبرلمان معطل واتهامات الفساد تلاحقه والانقسام يضرب مجتمعه، غير أن منطق المجازفات تعترضه حقائق الإقليم وأشباح العقوبات تحاصره بما هو فوق طاقة احتماله.
منذ البداية، بنى لعبته على خلق أمر واقع يتفاوض على أساسه، رافضاً أن يوقف الاستفتاء إلى حين إجراء حوارات جدية مع بغداد، ثم حاول ــ لامتصاص ردات الفعل الغاضبة ــ أن يخفف من صدمة الاستفتاء بوصفه أنه «استطلاع رأي» لا يؤسس إجراءات لانفصال عاجل. في المقابل، فإن الحكومة المركزية ترفض ــ من حيث المبدأ ــ أي حوار، أو تفاوض، على أساس الاستفتاء ونتائجه، أو تقبل الانفصال.
بتلخيص ما، الخيارات ضيقة والسيناريوات مفتوحة والمجازفة قد تتحول إلى كابوس إقليمي، أو فخ كردي.
* كاتب وصحافي مصري