أي كابوس تعيش، حين تعرف أن دمك متخم بالأعداء؟ جسدك وطن للحروب؟ وروحك قد تحولت إلى عين ثالثة بحجم السماء لتعيد شريط المأساة؟ أي فكرة مجنونة تلك، حين تعمد إلى استلال أعدائك من قطرات دمك لتعيد محاكمتهم؟ هذه الأسئلة بأفكارها المشاكسة التي تحاول إدراك فنتازيا الواقع، ظلّتْ قلقة، حتى كبُرتْ لتصبح ملفاً داخل أرشيف الوجع العراقي الذي امتد لأكثر من ثلاثين سنة، حين صارت رواية صدرت أخيراً بعنوان «العين الثالثة» (دار فضاءات ـــ 2017) للعراقية صبا مطر.
الرواية التي تبدأ من إحدى ردهات مستشفى دنماركي، تصور لنا امرأة عراقية تخضع لفحص وتحليل الدم. وفي فترة انتظار النتيجة، تذهب مخيلتها صوب الماضي لتتصور بقناعة راسخة، أن مأساتها بشخوصها (الضحية والجلاد) قد أصبحت ضمن نسيج دمها. عندها ينبثق السؤال معلناً وجع المرأة: «هل رأى الطبيب عينة دمي؟ هل رأى الملايين من البشر الذين رأيتهم وجئت بهم من عالمي الأول ومن بداياتي؟ هل سمعهم، هل رأى مأساتهم؟». عند هذا السؤال، تبدأ اللعبة.

تستل بطلة الرواية من مقطرات دمها الطفلة «نور» ذات العشر سنوات، ابنة أحد المخطوفين موتاً في حرب الثماني سنوات والتي كانت تتسول الطعام من بيوت الحي. تخرجها من بين جزيئات دمها، لتعيد لها الحياة من خلال سرد بعض حياتها. تتفق معها بأن تكون راحتاها سجناً للمجرمين، وتكون أصابع كفيّ «نور» قضباناً لذلك السجن. صورة سريالية لا تخلو من الشاعرية. إلا أن القارئ سرعان ما يتلمس أن بطلة الرواية لم تقم بمحاسبة المجرمين، بل كرّست جل اهتمامها على استعراض حياة الضحايا وظروف قتلهم روحياً وجسدياً. وهي بهذا تترك للقارئ محاكمة المجرم، وتمنحهُ أحقية النطق بالحكم. لذا يحق لنا القول بأن الرواية تهتم بالضحية أكثر من الجلاد.

بنية روائية ترتكز إلى تسلسل «أرشيفي» لأحداث العراق


يمكن للقارئ تصنيف الرواية ضمن أدب السيرة الذاتية. في الشكل، تسرد لنا صبا مطر سيرة حياتها، منذ كانت طفلة في الرابعة حين بدأت حرب الثماني سنوات. لكن المضمون يشير إلى أنها تسرد لنا سيرة وطن في أتعس مراحله. قرابة ربع قرن من الحروب والجوع والعوز، نشأت داخل فضائه تلك المخلوقة التي عرفتْ كلمة حرب قبل أن تدخل المدرسة، ودخلت عالم المراهقة مع احتلال الكويت. «الحرب أكثر إيلاماً وقسوة بعين المراهقة من عين الطفلة» تعترف المؤلفة التي راحت تعيد كوارث بلدها بتتابع سلس رغم مرارته. حرب الثماني سنوات، شباب يصعدون إلى السماء بأحلام موؤدة. عروس مندلي، نصب الشهيد، ملجأ العامرية، الحصار وحتى المطر الأسود لم يفلت من قبضة صبا مطر... وصولاً إلى «الانتفاضة الشعبية» ثم الاحتلال وسقوط الصنم.
«العين الثالثة» التي اعتمدت بنية روائية ترتكز إلى تسلسل «أرشيفي» لأحداث العراق، نجدها وقد اهتمت في إظهار التركيبة الشخصية للفرد العراقي، خصوصاً المرأة، من خلال التركيز والاهتمام بالدراما الداخلية التي تعتمرها روح الضحية، وتنامي إيقاع الوجع العراقي زمنياً. لا يتلمس القارئ أي تنافرات بين أفكار وروى شخوص الرواية، بل يجد أن جميع الشخوص قد وحّدهم التعبير عن الوجود الشخصي الذي لم يعرف الاستقرار أو الاسترخاء، أكثر من معرفتهم بخبايا الخوف والهلع، وإن جاء بصورة رومانسية سوداء، حيث يولد الحب تحت ضلال الموت وهستيريا الواقع.
تدخل صبا مطر في روايتها عالم الواقعية السحرية من خلال استحضار روح جدتها التي عاشت زمن المحبة الخالي من رائحة الدم، وتمنحها لقب «أميرة المحبة» حيناً، و«أميرة اللازورد» أحياناً. تستحضرها لتكون الشاهد الأقوى رغم أنها قد غادرت الواقع منذ زمن بعيد. إنه استحضار الحكمة والحياد... يمنح حضور الجدة مقارنة قاسية بين زمنين، زمن خالٍ من الحروب والموت وآخر بهواء ثقيل يحمل ذكرى النعوش وصوت الرصاص وأشلاء بشرية متناثرة. ثم تصل المؤلفة من خلال سرد حقيقة الواقع الذي كانت تعيش إلى محاكاة رائعة ماركيز «مئة عام من العزلة»: «كنا في عزلة غريبة عن العالم وما يدور فيه حتى على الصعيد الإنساني والاجتماعي، نشبه بذلك أبطال ماركيز العائمين على أجنحة الغرابة في روايته «مئة عام من العزلة» مع تعديل بسيط على التسمية لتصبح أكثر ملاءمة لواقعنا، «مئة عام من الحرب» مثلاً، أو «مئة عام من الخوف» أو ربما «مئتا عام من انسياب الزمن العكسي». ترى هل سيرضى ماركيز بالتحويرات التي أطلقناها على رائعته لتلائم طبيعة عزلتنا التي لم يعرف عنها شيء؟».