لندن | بدا جريمي كوربن زعيم «حزب العمال» البريطاني المعارض (لديه 262 مقعداً في البرلمان من أصل 650)، وهو يلقي كلمته المنتظرة أمام المؤتمر السنوي للحزب في برايتون (جنوب) بمثابة رئيس وزراء بريطاني ذي رؤية ومهابة مكتملتين، «متعهداً بوضع السلطة في يد الشعب»، ولم يعد ينقصه بالفعل إلا خطاب تكليف ملكي يعتقد أنّه حان وقته، الآن، أكثر من أي وقت مضى.
وأعلن كوربن، المنتشي بارتفاع شعبيّة غير مسبوقة للحزب في استطلاعات الرأي، أنّه يتعهّد للناخبين بتقديم «نموذج جديد للعيش في بريطانيا يفكك تراث النيوليبراليّة التاتشريّة» المرّ، الذي تسبّب بثلاثة عقود صعبة على الطبقة العاملة البريطانيّة، انعكست آثارها بوضوح على نسب تملّك المساكن، وتفشّي الفقر وتراجع التقديمات الاجتماعيّة وتضاعف أعداد المشردين. وقد وصفت مطبوعات الحزب هذا النموذج المقترح، بكونه نظاماً يقوم على «الحسّ السليم»، تجنّباً في ما يبدو لذكر أيّ تسميات يساريّة محضة قد تسبب قلقاً للناخبين التقليديين. وتحوّل برج غرينفل ــ وهو مجمّع سكني شعبي يمتلكه المجلس البلدي في أحد أحياء لندن الفارهة ويسكنه عدة آلاف من المواطنين الفقراء الذين قضى عشرات منهم في حريق كبير كشف عن عيوب لا تغتفر في إدارة البلاد ــ إلى رمز قدّم من خلاله كوربن مطارحة مؤثرة بيّنت أن موضوع الإسكان سيكون على أعلى قائمة أولويات الحزب إن حكم، و«إنه لن يسمح بتنفيذ سياسات تطهير اجتماعي في البلاد»، كتلك التي استهدفت عبر عقود عدّة المجموعات الأقل حظاً من البريطانيين، وأنه «سيضع قيوداً على الإيجارات لكبح التصاعد غير المقبول لتكلفة السكن، ولا سيما داخل المدن الكبرى»، واصفاً قوى السوق «بانعدام الكفاءة الاقتصاديّة بهذا الخصوص».
كذلك أعاد كوربن التأكيد على سياسات حزبه بشأن نظام الصحة القومي، وعلى أن الحزب يعتزم وقف كل أشكال الخصخصة غير المباشرة التي يدعمها «حزب المحافظين» الحاكم، وسيدعم بدلاً من ذلك تقوية المنظومة الحاليّة.
كوربن، الذي تحدث بنوع من لهجة تصالحيّة مع التيارات المتصارعة داخل حزبه، رغم أن تيّاره اليساري انتصر ضد اليمين (أتباع طوني بلير) انتقل من الدفاع إلى الهجوم: على «حزب المحافظين» الحاكم، وسياساته المنحازة للبورجوازيّة، وتناقضاته وصراعات الخلافة فيه، والنكسات المتتالية التي تتعرض لها المملكة المتحدة بسبب «ضعف فريق التفاوض مع الاتحاد الأوروبي بشأن البريكست الذي لا أمل في إصلاحه»، وعلى الذين يمتلكون معظم صحف بريطانيا الكبرى ويتهربون من دفع الضرائب، وأيضاً على أصحاب العقارات الجشعين. لكنه، كزعيم دولة حقيقي، تجنّب الهجمات الشخصيّة وركّز انتقاداته على البرامج والسياسات الفاشلة، فبدت تيريزا ماي شبحاً يتجنّب الجميع ذكره. «أدعو الفريق الحكومي من أجل بريطانيا إلى أن يلملم نفسه، أو فليتنحَّ عن الطريق».
وقد رفض كوربن ضغوطاً من بعض مجموعات داخل الحزب للانقلاب على الـ«بريكست» وتبنّي موقف نصف البريطانيين، الذين يريدون البقاء جزءاً من الاتحاد الأوروبي. وحاول تقديم حزبه كمظلّة مشتركة بين المعسكرين، يوازن بين قرار الخروج والبقاء ضمن السوق الأوروربيّة الموحّدة، مع التركيز على سياسات اقتصادية لتقليل البطالة وتحسين الأجور ومستويات الخدمات العامة على نحو يمنع من تحميل عبء التقشف ــ الذي يرزح تحته البريطانيون ــ على المهاجرين الضعفاء من الاتحاد الأوروبي وغيره.
كان واضحاً في المؤتمر تلك العلاقة الحميمة التي طورها كوربن مع طبقة الشباب في الحزب، فكلمة السر في المؤتمر كانت القاعدة الحزبيّة ــ التي تميل بشدة نحو الجيل الجديد ــ وهو على الرغم من تجنّبه ذكر سياسة التعليم المجاني التي كانت قد طرحت في الحملة الانتخابيّة السابقة، وتسببت في جدل واسع، فقد أكد توفير السبل للجميع للحصول على فرص التعليم. وقد أُعطيت منصة الخطابة لممثلين عديدين شبان، منهم طالبة لم تتعدَّ السادسة عشرة من العمر.
في أرجاء المؤتمر وفعالياته المرافقة، حظيت سياسات كوربن بدعم معظم المجموعات الرئيسة في الحزب، ولا سيما اتحادات العمال المختلفة التي يجمع بينها الحزب كممثل سياسي. مجموعة «ماركسيو حزب العمال» بالذات، كانت تعيش أياماً ذهبيّة في المؤتمر، وعقدت ندوات عدّة، كما شاركت بكثافة في النقاشات. ومن الواضح أن هذه المجموعة الصغيرة من المثقفين لها صوت مسموع في أجواء فريق كوربن، وتقدّم النصح دائماً لموازنة السياسات المقترحة يسارياً. كما ألقيت خطابات شددت على الفصل بين فكرة العداء للساميّة وانتقاد سلوك إسرائيل، بالنظر إلى أن مجموعة أنصار إسرائيل داخل الحزب، وبالتعاون الوثيق مع جناح اليمين «البليري»، يحاولون منذ فترة توظيف وصمة العداء للساميّة، لمنع كوربن أو أي من قيادات الحزب اليساريّة المعروفة بتأييدها لحقوق الفلسطينيين، من إصدار أي مواقف منتقدة للكيان، وطرد من يجرؤ منهم خارج الحياة السياسيّة. في المقابل، خفتت أصوات يمينيي الحزب على نحو غير مسبوق، وتحولت كتلة نواب الحزب في البرلمان ــ التي يعارض عديدون منهم كوربن ــ إلى مجموعة غير ذي صلة بهدير الحراك الهائل داخل الحزب.
وعلى الرغم من هذه السياسة الاجتماعيّة شبه المتكاملة، والتي نُسقت بذكاء من قبل فريق كوربن ليصعب على أي منصف انتقادها، في ظل الظروف الموضوعيّة في المملكة، فإن اليسار المتطرف لا يزال يرى أن ذلك كلّه غير كافٍ ولو كبرنامج حد أدنى لمشروع يساري حقيقي، وإن ما يفعله كوربن ورفاقه ما هو إلا تجميل لوحشية الرأسماليّة التي لا تجمّل. في المقابل، فإن غلاة اليمين وصقور «حزب المحافظين» الحاكم يعتبرون أن كوربن مجرّد ثعلب ماركسي، وأن برنامجه سيضع المملكة المتحدة على سكة اشتراكيّة مستترة. طاقم كوربن بدا سعيداً في تموضعه الوسطي هذا بين النقيضين، على اعتبار أن ذلك من شأنه تسهيل مهمة الحزب في تولي مقاليد الحكم وتوسيع قاعدة ناخبيه في حال إجراء انتخابات عامة مبكرة، وهو ما عبّر عنه كوربن بقوله: «نحن الآن نقطة التوسط ومركز الجاذبية للسياسة البريطانيّة وتيارها الرئيسي»، «والعمال جاهزون لتولي الحكم».




... والمحافظون للملمة الأمور قبل الكارثة

سيعقد «حزب المحافظين» الحاكم مؤتمره السنوي في مدينة مانشستر، وسط البلاد، من الأول إلى الرابع من تشرين الأول المقبل. وتبدو هذه الدورة مفصليّة تحديداً بسبب الأغلبيّة الهشة التي تدار بها البلاد، وصراعات الطامحين لخلافة تيريزا ماي والخلاف العلني المتزايد بين أجنحة مهمة داخل الحزب حول إدارة ملف الـ«بريكست» تحديداً. ورغم المحاولات الحثيثة للإبقاء على حدّ أدنى من التضامن الحكومي بين أعضاء الحزب، وكذلك تنازلات ماي الأخيرة للاتحاد الأوروبي في محاولة للحصول على صفقة تراضٍ تحفظ ماء وجه بريطانيا، فإن مصادر داخل الحزب تشير إلى غياب الأجواء الحماسيّة من التحضيرات للمؤتمر. وأعربت عن تشاؤمها من إمكان عمل أي اختراق نوعي، سواء على صعيد البرامج أو الأشخاص، لتعديل مسار الهبوط الحتمي الذي تتجه إليه طائرة الحزب. وهذا موضوع يكاد يكون متفقاً عليه، إذ إن كوربن وصف المحافظين «بأنهم حزب يفتقر إلى الأفكار والطاقة معاً».