الجزائر | رغم مرور 12 عاماً على إصدار «قانون السلم والمصالحة» في الجزائر، فإنّ هذا الموضوع لا يزال يثير كمّاً هائلاً من ردود الفعل كلما مرت ذكراه السنوية، نظراً إلى ارتباطه بسنوات الإرهاب الأليمة التي عاشها الجزائريون والتي خلّفت نحو 200 ألف قتيل وآلاف المفقودين والمهجرين ومليارات الدولارات من الخسائر الاقتصادية، فضلاً عن الآثار النفسية الكبيرة التي تركتها في نفوس المواطنين.
ونظراً إلى معرفتها الدقيقة بالآلام التي خلفتها سنوات الإرهاب، تُقدّم السلطة في الجزائر موضوع المصالحة على أنه أكبر إنجاز تحقق للجزائريين خلال العقدين الماضيين، وتربط ذلك مباشرة بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي اتخذ من هذا الموضوع عنواناً لترشحه للولايتين الرئاسيتين الأولى والثانية.
وبرغم استعادة الجزائر عافيتها الأمنية منذ سنوات (باستثناء وقوع هجمات محدودة)، إلا أنّ السلطة لا تزال تحتفي بموضوع المصالحة كما لو أنه ما زال في سنواته الأولى. وقد أصبحت هذه المبالغة في استدعاء هذا الموضوع، تثير حفيظة المعارضة وشخصيات في المجتمع المدني، وصاروا جميعهم يتهمون السلطة بـ«استغلال هذا الحدث لغايات سياسية» تسيء إلى ذكرى ضحايا سنوات الإرهاب وعائلاتهم، وتغفل كثيراً من القضايا العالقة التي لم ينجح موضوع المصالحة في طيّها.
وقد زاد هذا الشعور لدى المعارضة عقب بث التلفزيون الجزائري العام، صوراً هي الأولى من نوعها من قلب المجازر التي ارتُكبت عند أطراف الجزائر العاصمة وفي ولايات داخلية، وذلك دون أي تشويش على بشاعة المناظر التي صدمت قطاعاً واسعاً من الجزائريين.
وتشابهت الصور المعروضة مع صور الجرائم التي يرتكبها تنظيم مثل «داعش» في سوريا والعراق، فيما تمازج صراخ ذوي الضحايا في المشاهد المعروضة مع خطب الرئيس بوتفليقة التي تبشر بالسلم والمصالحة، في إيحاء مباشر على أن الرئيس هو الذي أنقذ البلاد من مستنقع الدم الذي كانت تعيشه.
وليست المرة الأولى التي يتم فيها التركيز «الدعائي» على موضوع المصالحة، إذ في الفترة التي كانت تشهد فيها المنطقة العربية أحداث ما يسمى «الربيع العربي»، كانت السلطة في الجزائر تحذّر المواطنين من أن أي خروج إلى الشارع من شأنه أن يفقدهم «الاستقرار» الذي يعيشون فيه. وجرى التسويق في تلك الفترة إلى أن الجزائريين قاموا بثورتهم الديموقراطية في أكتوبر سنة 1988، في إشارة إلى التظاهرات الشهيرة التي أعقبها الانفتاح السياسي والإعلامي في البلاد بعد فترة حكم الحزب الواحد الذي كان مسيطراً على كل أجهزة الدولة منذ الاستقلال سنة 1962.
وفي تفسير لدلالات هذا التركيز على موضوع المصالحة، يقول الناشط الحقوقي بوجمعة غشير، إنّ «ذلك يعود إلى رغبة السلطة في إعادة الرئيس بوتفليقة إلى الواجهة بعدما غيّبه المرض عن الأحداث، من خلال إبرازه على أنه صاحب الفضل في إعادة السلم إلى الجزائر». ويرفض غشير، في تصريحه لـ«الأخبار»، هذا «الاختزال للتاريخ»، لأنه يعتقد أن «الجهد الأكبر» يعود للأجهزة الأمنية التي عملت خلال مرحلة الرئيس السابق اليامين زروال، على إقناع المسلحين بالنزول من الجبال، وثم حين استقال الرئيس زروال سنة 1998، وخلفه الرئيس بوتفليقة، «لم يقم الأخير سوى بإضفاء الغطاء القانوني والسياسي على الموضوع».
ويتحفظ غشير الذي اشتغل كثيراً على ملف ضحايا الإرهاب، على قانون المصالحة نفسه، إذ يرى أنه «لا ينبغي أن يكون موضوعاً للمفاخرة»، كونه كرّس مبدأ «اللاعقاب» لكل من شارك في الجرائم ضد الجزائريين بعدما منح هؤلاء الحماية. كما أنّه من جانب آخر «طمس الحقيقة»، بفرضه قانون الصمت على الجميع، إذ يُعاقب كل من يحاول «تقليب جراح المأساة الوطنية»، وهو إجراء صعّب فتح أي ملف حقوقي يعود إلى تلك السنوات.
وأمام الانتقادات الكبيرة، دافع رئيس الحكومة (الوزير الأول) أحمد أويحيى، بشدة عن خيار إبقاء ذاكرة الجزائريين «حية» إزاء الجرائم التي ارتكبها الإرهاب. وقال: «إنّ الصور التي بثها التلفزيون كانت للترحم على ضحايا الإرهاب، ونحن نعتقد أن ذاكرة الجزائريين مهما كانت توجهاتهم السياسية هي أمانة يجب أن تُحفظ».
من جانب آخر، لم تعد «المصالحة» بالنسبة إلى السلطة ملفاً داخياً فحسب، إذ أصبح بمثابة مادة دبلوماسية مهمة للخارجية الجزائرية في كل المؤتمرات واللقاءات الدولية. ويعتقد وزير الخارجية عبد القادر مساهل، أن التجربة الجزائرية صالحة للتطبيق في كثير من الدول العربية التي تعاني من الإرهاب أو الانقسام مثل سوريا وليبيا.
في المقابل، يرى الصحافي في جريدة «الخبر» المحلية، حميد غمراسة، أنّ تصدير التجربة الجزائرية في ما يخصّ قضية المصالحة «مسألة تحتاج إلى نظر». ويقول في تصريح إلى «الأخبار»، إنّ «المصالحة في الجزائر لم تكن تسوية بين جهتين متصارعتين، وإنما تكريس لمنطق الغالب في الميدان العسكري الذي أملى شروطه على المغلوب. هذا فضلاً عن نقيصة كبيرة تشوب هذا المشروع السياسي ذي الأبعاد الأمنية والعسكرية، تتمثل في عدم إخضاعه للنقاش والتقييم بعد مرور سنوات على تنفيذه».