دمشق | بعد نهاية بطولة كأس العالم لكرة القدم التي أقيمت في المكسيك سنة 1986، كتب الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش مقالاً طويلاً يصف فيه نجم تلك البطولة اللاعب الأسطوري دييغو مارادونا استهله بالقول: «لمن سنرفع صراخ الحماسة والمتعة ودبابيس الدم، بعدما وجدنا فيه بطلنا المنشود، وأجج فينا عطش الحاجة إلى: بطل... بطل نصفق له، ندعو له بالنصر، نعلّق له تميمة، ونخاف عليه وعلى أملنا فيه من الانكسار؟ الفرد، الفرد ليس بدعة في التاريخ.
يا مارادونا، يا مارادونا، ماذا فعلت بالساعة... ماذا صنعت بالمواعيد؟». على تلك الشاكلة صاغ درويش حالة أدبية رفيعة مستمدة من كرة القدم، كونه منبعاً حقيقياً للدراما، وخاصة عندما يتسيّده لاعب استثنائي مثل النجم الأرجنتيني الشهير. أما الأديب الراحل نجيب محفوظ، فقد علّق مرات عدة بأنه لو لم يكن كاتباً، لكان لاعب كرة قدم، في حين يصف الروائي التشيكي ميلان كونديرا لاعبي كرة القدم بطريقة لماحة وخاصة، إذ يقول: «لاعبو كرة القدم نفس جمال وتراجيديا الفراشات، فتلك تطير عالياً بمنتهى البهاء، من دون أن يتاح لها الاستمتاع أو الإعجاب بجمال طيرانها». ليس صاحب «خفة الكائن التي لا تحتمل» وحده من تشغفه كرة القدم. ها هو ألبير كامو الذي لعب الكرة وولف بينها وبين الأدب، كتب: «بعد سنوات طويلة، أتاح لي فيها هذا العالم خوض تجارب عديدة، توصلتُ إلى قناعة مفادها- حسبما عشت- أن ما أعرفه عن الأخلاق وواجبات الرجال، مدينٌ بكلّه لكرة القدم». تلك ليست سوى نماذج لعلاقة مبدعي الأدب بكرة القدم.
أما على أرض الواقع، فقد سبقت النتائج الصورة الرومانسية بأشواط، وحققت «لعبة الفقراء» إذهالاً حقيقياً يوم تمكن أسطورة الكرة البرازيلية بيليه ــــ بحسب مجلة «التايم» الأميركية والسيرة الذاتية للنجم الأسمر ـــ من تحقيق هدنة في حرب الانفصال النيجيرية سنة 1967 الدامية التي أرخت بظروف إنسانية ساحقة ومجاعات عارمة. يومها، زار بيليه البلاد ولعب مع ناديه «سانتوس» ضد فرق محلية في البلد المنكوب. أما حديثاً، فقد وجّه ديدييه دروغبا، لاعب منتخب ساحل العاج وأسطورة نادي «تشيلسي» لكرة القدم، نداءً إلى شعبه عقب تأهل بلاده إلى كأس العالم عام 2006 لإنهاء الحرب الأهلية التي استمرت خمس سنوات. وبالفعل، انتهت الحرب بعد ذلك النداء بستة أشهر. في سوريا، لا يزال المشهد موشّحاً بالأحمر، ليس فقط بدم الشهداء على الجبهات، بل أيضاً في ضفة مقابلة مشتاقة للفرح ترتدي لون قمصان المنتخب السوري لكرة القدم منذ أسابيع، ولا ينقصها سوى صوت المذيع الراحل عدنان بوظو وهو يصرخ: «كووووووووول لسوريا» حتى يكتمل العيد، وتعلن المكبرات في الشوارع، نهاية الحرب على أقدام لاعبي الفوتبول! إنه الحلم الذي بات قابلاً للتحقق. خلال سبع سنوات، لم يتوحد الشعب السوري مثلما فعل في التصفيات الأخيرة لكأس العالم التي يخوضها المنتخب السوري، وتحديداً عندما حقق الشهر الماضي فوزاً صريحاً على نظيره القطري 3/1 . الحدث وخز الشعور الجمعي ونبهه إلى أنّ استحقاقاً كروياً ربما في طريقه إلى سوريا. هكذا، انطلقت حملة دعم هستيرية على السوشال ميديا أجبرت الإعلام على الاستدارة الفعلية نحو المنتخب، وكان ملفتاً أن تسجل إذاعة رسمية سورية مثل «سوريانا» كلمات للمنتخب السوري من وزراء وسياسيين ومعارضين حتى ممن يعيشون في الخارج، لتقول بأنّ سوريا للجميع، وبأن المنتخب يلعب من أجل كل السوريين. ثم أتت مباراة إيران، والتعادل الذهبي الذي أحرزه عمر السوما في الوقت بدل الضائع من المباراة، لتنعش آمال السوريين للتأهل لنهائيات كأس العالم في روسيا 2018. وسيخوض المنتخب تصفيات ملحقة يبدأها اليوم الخميس في مواجهة نظيره الأسترالي. مجدداً، يلتفت الإعلام للفريق، وتطرح في السوق عشرات الأغاني لمغنين سوريين تدعو للوقوف إلى جانب أفضل فريق عرفته سوريا في تاريخها، بينما تتوقف جبهات القتال، ويعانق العلمان السوريان الرسمي والمعارض في بعض العواصم العربية والعالمية بعضيهما كما حصل في المباراة الأخيرة. ويتفق الجميع حتى من هم في مناطق سيطرة الأصوليين والجماعات الإرهابية، على أن الصوت سيصدح للمنتخب، الذي ولف قلوب الجميع على نبض يعود لسوريا وحدها. كأنها المعجزة اليتيمة القادرة على إيقاف نزيف الدم بعدما حقق المنتخب ما عجزت عنه كل طاولات الحوار.
الاهتمام العالي بالفريق السوري طبعاً وصل إلى الوسط الفني وسجل عدد من النجوم بينهم سلاف فواخرجي، وناصيف زيتون، وباسم ياخور وآخرون ظهوراً إعلامياً داعماً للفريق، بينما عبّر البقية عن مساندتهم من خلال حساباتهم على السوشال ميديا.

سجّلت إذاعة «سوريانا»
الرسمية كلمات تشجيعية من وزراء وسياسيين معارضين يعيشون في الخارج

لعل أكثر المهتمين كان الممثل والمخرج سيف الدين السبيعي الذي التقط صوراً مع «العكيد» عمر السوما كما يلقب، وأعاد توزيع أغنية والده الراحل رفيق السبيعي «غول لسوريا غول» بصوته، وارتدى قميص المنتخب وحشد كل إمكانياته لدعم الفريق. في حديثنا معه، يقول السبيعي بأنّ «قدرة المنتخب على توحيد الشعب السوري، وبث روح الفرح والحماس، تأتي انطلاقاً من شعبية كرة القدم، والاهتمام الجماهيري الكبير فيها، لا سيما في محفل كبير مثل كأس العالم، والاهتمام الرياضي يأخذ أعلى أشكال الجماهيرية. كما أن المنتخب الحالي هو أفضل منتخب مر على سوريا وحقق أفضل تصنيف للكرة السورية في حياتها وهذا إنجاز، وأغلب لاعبيه محترفون يحققون إنجازات مهمة لدى أنديتهم. أهم ما يحصل الآن هو الأمل الذي يصنعه هذا المنتخب. الفرحة التي قدمتها لعبة إيران في اللحظات الأخيرة لا تقدر بثمن. سواء تأهلنا أم لا، يكفي ما صاغه المنتخب من فرح لشعب أضناه الحرب والفقد والحرمان». أما الممثل الأردني السوري نضال نجم، فقد كان من أكثر المشجعين أثناء لعبة إيران الأخيرة. يقول لنا: «الشعب السوري لا يستكين، ولا ينال منه يأس، بدليل هذا النضال المتوهج لفريق كرة قدم يحمل لاعبوه معهم خلال أدائهم، نبضات قلوب 23 مليون سوري، وملايين العرب المتعاطفين. لا تهم النتيجة في النهاية سواء تأهل المنتخب أم لا، لكن المهم هو حالة الإجماع والالتفاف حول المنتخب، وهذا ليس غريباً على لعبة بشعبية كرة القدم، وإن كنا ننتظر ونطمح لمزيد من الفرح والبهجة يهديها هذا الفريق الاستثنائي لكل السوريين». بدورها، تقول النجمة لينا حوارنة: «لست من متابعي الرياضة، لكن يليق بالمنتخب السوري الوقوف بجانبه، ويستحق الفوز، لأنه في كل مرة يسجل فيها هدفاً، فإنه يهدي الفرح والابتسامة لشعب جبار كل ما يحتاجه اليوم هو الفرح». لكن الأمر خرج عن نطاق لعبة شعبية وموضوع تأهل لنهائيات كأس العالم وفق ما يقول لنا النجم فادي صبيح. ويضيف بأن «الموضوع صار حلم وطن ببلسمة جراحه، وطموح شعب بأن يصوغ فرحه من أبسط الأسباب وأكثرها ودية. لعبة كرة القدم هي أكثر المعارك أخلاقاً، وهي الوحيدة من بين المعارك إن جاز التعبير التي لا تخلّف سوى المتعة والبهجة. لذلك فإنها تستحق أن تكون إعلاناً حقيقياً لنصر سوريا وعودة الأمل على وجوه شعبها».
الإعلامي وضاح الخاطر مدير إذاعة «سوريانا» يقول لنا: «الأثر الأكبر هو أن هذا المنتخب وجه رسالة شديدة البلاغة والبيان، ومفادها أن السوريين عندما يجتمعون، يصبحون رقماً واضحاً، وقيمة لأنفسهم أولاً، ولكل من لا يعتقد بأن كل ما نراه من قتل وتباين يصل إلى حد التخوين، هو ثقافة طارئة، وليست أصلية عند السوريين».
من جانبه، يعتبر الممثل الشاب بيدرو برصوميان من أكثر الممثلين السوريين هوساً بكرة القدم. يقول لنا: «الساحرة المستديرة وسطوة نجومها هي من خلقت تلك الحالة الإيجابية، وذلك الالتفاف حول المنتخب، تأثير هذه اللعبة لا يمكن أن يضاهى، ولا ينافسه شيء آخر. لا أعرف إن كان سيواكب التصفيات وعي شعبي وإعلامي يتقبل مثلاً الخروج من التصفيات. عموماً كنت آمل لو بدأ الاهتمام الإعلامي والشعبي منذ بداية التصفيات، فالضجة هي التي جعلت السوما يلتحق بالفريق، والآن غابريل السومي، وحتى فراس الخطيب هؤلاء نجوم في أنديتهم، عندما يشاهدون كم الحفاوة والعناية يتشوقون للمشاركة في المنتخب». «المستطيل الأخضر» سيحكم البلاد لتسعين دقيقة، ربما ينتظر السوريون من اللعبة الأكثر شعبية في العالم أن تجهز على معاناتهم بصرخة فرح تعلن نصراً كروياً وهزيمة للحرب!