لو توقف ديكارت عند مقولته الأولى «أنا أشك إذاً أنا موجود»، لما سبقه أحد، ولظل فيلسوف أي زمان ومكان. إلا أنه سارع إلى الخروج من الشك بطرق غير منطقية (لن ندخل فيها الآن). واليوم أكثر من أي يوم مضى، يمكن الإنسان الحديث أن يصف هذا العصر بعصر الشك. عصر اللايقين. فكما ضيعت كثرة المعلومات (بواسطة الثورة الرقمية) المعرفة، كذلك ضيعت كثرة الأبحاث والاختراعات المتناقضة الحقائق.
لم تعد «الحاجة أم الاختراع». متطلبات اقتصاد السوق هي التي باتت تحدد كل شيء. ومن يراجع معظم ما يسمى «اختراعات» في العالم، يعرف كم باتت قوى السوق المسيطرة تتحكم بكل شيء تقريباً. فهي التي تخلق الحاجات وتخترع تقنيات وسلعاً لإشباعها في دوامة فظيعة لم يسبق لها مثيل. إلا أن هذا النوع من الاقتصاد خلق الكثير من الأزمات والمشاكل والأمراض التي لا مثيل لها أيضاً، في سرعة انتشارها على الأقل. تعقدت الحياة واهتزت كثيراً أركان ما يسمى «اليقين العلمي». فكيف يمكن تحديد الأمراض وتصنيفها في ظل هذه الزيادة الهائلة في أعدادها وفي ظل تداخل العوامل المسببة لها وفي ظل بيئة متغيرة دائماً جرى التلاعب ببنيتها الطبيعية مع الكثير من «الثورات العلمية» المتتالية وعمليات التصنيع التي لا تعرف الحدود.
كيف يمكن تصنيف الأمراض وتشخيصها وتحديد «الأخطاء الطبية» في ظل هذا التداخل الكبير بين الأمراض الجديدة ومسبباتها وعوارضها؟ وكيف يمكن الحديث عن «سلامة الغذاء» في ظل هذا الكمّ الهائل من الملوثات وهذا التغير والتداخل بين البيئات المنتجة للأمراض والأوبئة؟ وكيف نستسهل اليوم الحكم في قضايا البيئة أو الغذاء أو الصحة العامة في غياب المرجعيات الموثوقة وفي غياب «اليقين العلمي» عموماً؟
أبصرت «الهيئة الأوروبية لسلامة الأغذية» النور في عام 2002 عقب أزمة جنون البقر في أوروبا وتلوث الدجاج بالديوكسين في بلجيكا. وجاءت نتيجةً لزعزعة ثقة المستهلكين بلجان الأغذية الوطنية، عندها قرر الاتحاد الأوروبي تعزيز مؤسساته بالمشورة العلمية التي لا يرقى الشك إلى صدقيتها، مع محاولة الفصل بين تقييم الأخطار بصورة تقنية وما بين القرارات السياسية.
تعددت اختصاصات هذه الهيئة ما بين الأمراض الحيوانية والإضافات الغذائية وتقييم الأخطار البيولوجية الناجمة عن مبيدات الحشرات، وصولاً إلى الأغذية المعدلة جينياً... إلا أنه سرعان ما شُكِّك بصدقية هذه الهيئة أيضاً بعد أن تبين أن معظم أركانها على ارتباط بشركات كبرى تستثمر في الكثير من مفاصل الحياة!
فإذا كانت هذه مشكلة أعلى هيئة أوروبية تُعنى بشؤون سلامة الغذاء، فكيف ستكون الحال مع هيئات وطنية في البلدان النامية مثل لبنان يتداخل فيها الصناعي مع التجاري مع السياسي والعلمي والتقني...؟
فالكثير من الشركات، كما بات معلوماً، تستثمر في الجامعات ومراكز الأبحاث العلمية وفي الإعلام، بالإضافة إلى سوق الإعلانات. بالإضافة إلى الاستثمارات في السياسة عبر دعم الحملات الإعلامية للمرشحين السياسيين الذين يصبحون بدورهم في مواقع مسؤولية متقدمة، يستفاد منهم بتسهيل إنتاج التشريعات الضرورية لحماية مصالحهم ومنتجاتهم. بالإضافة إلى الاستثمار بمنظمات المجتمع المدني الناشطة عبر تمويل بعض أنشطتها السطحية... إلخ.
في ظل هذا المشهد البالغ التعقيد الذي يظهر فيه تقاطع المصالح وتضاربها، بات من الصعب اليوم الحديث عن «اليقين العلمي» بشتى أشكاله الصحية والغذائية والبيئية. لا بل يفترض بالعارف بكل هذه التقاطعات أن يشعر بالهلع من أيّ مكوّن وبالخشية من أية سلعة.
لم نصل إلى هذه النتيجة التراجيدية بسرعة كبيرة نسبياً. لقد بدأ التأسيس لها يوم تخلينا عن مهمات العقل الأولية للمعرفة والتعقل والحكمة، واستسهلنا تحويله إلى عقل عملي ونفعي.
لقد سررنا كثيراً بمكتسبات مرحلية كانت تؤمنها دائماً الاكتشافات العلمية، الناجمة عن العقل العملي والنفعي، ولم يكن لأحد أن يجسر على الظن أنها ستتحول إلى كوارث جديدة. لم تكن كل التقنيات مرغوباً فيها عند نشأتها في الغرب، وقد خيضت معارك كثيرة شارك فيها أطراف عدة وطرحت خلالها المشاكل العلمية والأمراض والآفات الحديثة، وظهرت فيها كيفية تداخل العلمي بالسياسي بالاجتماعي بالاقتصادي، وظهر التشكيك جلياً بالكثير من الصروح العلمية الكبرى، إلا أن الانتصار كان دائماً لمصلحة اقتصاد السوق وأركانه.
فعندما طرحت قضية جنون البقر في وسائل الإعلام الفرنسية عام 1996، على سبيل المثال، أدرجت هذه القضية تحت عنوان «الأحداث العلمية والتقنية ذات الطابع السياسي». وإذا راجعنا وسائل الإعلام اليومية في تلك الفترة فقد نلاحظ بوضوح أنها لم تكن تنشر «خطاب العلم»، بل الخطاب عن العلم وحوله وفي علاقته الصدامية مع المجتمع وقواه، ولا سيما مراكز الأبحاث والخبراء والصناعيون والسياسيون والناشطون في المجتمع المدني... إلخ.
وهكذا استُنتِج أن موضوع «اليقين العلمي»، لم يعد شيئاً يمكن تعريفه أو التحقق منه، وليس هناك من مرجع يستطيع أن يحسم أي خلاف. ولذلك، ربما بدأ التركيز على مبادئ جديدة، مستمدة من الفلسفة وليس من لغة العلم بذاته. بين هذه المبادئ الأكثر شهرة، والذي ابتعد إلى حدود بعيدة عن السجالات حول قضايا تتداخل فيها المصالح العلمية مع التقنية والصناعية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإعلامية... «مبدأ الاحتياط»، أو كما يسميه البعض مبدأ الاحتراز أو الاحتراس. وهو الذي يعبّر عن الإجراءات المفترض اتخاذها تجنباً لضرر أو للتخفيف من أثره. فهل يؤمن هذا المبدأ الطمأنينة النفسية بدل اليقين العلمي المفقود؟

* للمشاركة في صفحة «بيئة» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]