القاهرة | منذ كلمة الرئيس المصريّ عبد الفتّاح السيسي، أمام الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة في الشهر الماضي، بشأن نفاد صبر الإدارة السياسيّة المصريّة من الإخفاق المتكرّر للمفاوضات المباشرة مع إثيوبيا لتقليل الأضرار المتوقّعة من «سدّ النهضة» الإثيوبيّ على الأمن المائيّ المصريّ، بدأت مساعٍ دبلوماسية مصرية للعمل في مسار التدويل لإبداء الاعتراض على السد الإثيوبي والآلية التي تتبعها إثيوبيا في الإسراع بمعدلات البناء دون اعتبار أيٍّ من الاعتراضات والشواغل المصرية.
كان الرئيس السيسي قد أعلن أنه «رغم احترام مصر مبادئ القانون الدوليّ في تسوية الخلافات من دون اللجوء للقوّة أو المعادلات الصفريّة، إلّا أنّ الوقت يدركنا ويجب إخلاص النيات والالتزام الكامل والنزيه باتفاق المبادئ الثلاثيّ، الذي أصبح تنفيذه أمراً شديد الإلحاح، لتجنّب ضياع فرصة تقديم نموذج ناجح لإدارة العلاقة بين ثلاث دول في حوض النيل».
وبعد عامين ونصف عام من توقيع اتفاق إعلان المبادئ حول «سدّ النهضة» في آذار/ مارس من عام 2015 مع السودان وإثيوبيا، لم تستطع القاهرة جني أي مكاسب من بنود الإعلان، الذي كان قد شمل مبادئ محدّدة لحلّ النزاع حول السدّ وتجنّب تأثيراته الفنيّة، إذ ينصّ البند الخامس في الاتفاق على التعاون في ملء السدّ وتشغيله وإدارته، بالاتفاق على الخطوط الإرشاديّة في قواعد الملء والتشغيل بناءً على دراسات يقوم بها مكتب استشاريّ دوليّ، إلّا أنّ العديد من الخلافات الفنيّة لا تزال تقف عائقاً أمام إنهاء هذه الدراسات، رغم انتهاء المهلة الزمنيّة المحدّدة لها في أيلول/ سبتمبر الماضي.

في ظل الظروف الإقليمية لا يمكن اللجوء إلى القوّة أو التهديد بها


ويقول مسؤول حكوميّ مطّلع على ملف «سدّ النهضة» في تصريح إلى «الأخبار»، إنّ «كلّ الخيارات والمسارات الدبلوماسيّة والقانونيّة مفتوحة أمام الإدارة السياسيّة من أجل حماية المصالح المصريّة في نهر النيل»، مضيفاً أنه «لا يمكن انتظار نتائج المفاوضات على المسار الفنيّ، خصوصاً أنّ هناك مماطلة من بعض الأطراف واستهلاكاً في الوقت، بينما يستمرّ البناء في السدّ من دون توقّف».
ويتابع المصدر موضحاً أنّ «مصر تعهّدت سياسيّاً باحترام المفاوضات الفنيّة على مستوى الخبراء من أجل تسهيل مهمّة المكاتب الاستشاريّة في إعداد الدراسات حول تأثيرات السدّ، والتي من شأنها تسهيل التوصّل إلى اتفاق مع السودان وإثيوبيا حول قواعد التشغيل والملء، إلّا أنّ الاجتماعات التي تمّت على مدار العامين الماضيين أظهرت خلافات حول نقاط فنيّة عديدة».
وتوضيحاً للهدف من «المسار الفنيّ»، يشرح أستاذ الموارد الطبيعيّة في «معهد البحوث الإفريقيّة» عبّاس شراقي، في حديث إلى «الأخبار»، أنّ «مصر كانت تهدف منذ بداية المفاوضات الفنيّة إلى الخروج بدراسة توصي بتقليل السعة التخزينيّة للسدّ، ولكن مع ضياع هذه الفرصة بسبب الرفض الإثيوبيّ الشديد، يحاول الخبراء المصريّون الآن دفع الشركات الاستشاريّة المنفّذة للدراسات للوصول إلى نتائج يكون من شأنها التحكّم في معدّلات تدفّق المياه من سدّ النهضة بشكل لا يضرّ بكميّات المياه الواردة إلى بحيرة ناصر». ويضيف: «من الناحية الفنيّة، وصلنا إلى طريق مسدودة، فالمفاوضات القائمة لا يمكن من خلالها انتظار أيّ نتائج تصبّ في خدمة المصالح المصريّة»، الأمر الذي يدفعه إلى اعتبار أنّه «لا بديل من اتفاق سياسيّ مباشر على التشغيل والملء، وفقاً لإعلان المبادئ الذي ينصّ على التعاون وحسن النيّة».
وتعدّ مصر والسودان وإثيوبيا اتفاق المبادئ، الوثيقة القانونيّة المرجعيّة لتحديد آليّة الاتفاق على حلّ النزاعات في ملف «سدّ النهضة»، إذ ينصّ البند العاشر في الاتفاق على تسوية النزاعات بالتوافق من خلال المشاورات أو التفاوض وفقاً لمبدأ حسن النيات. وفي حال عدم النجاح، يمكن الأطراف الثلاثة مجتمعة طلب التوفيق أو الوساطة أو الإحالة على رؤساء الدول.
وأظهر الاجتماع الأخير للّجنة الفنيّة الثلاثيّة للسدّ في مدينة عطبرة بالسودان في 14 أيلول/ سبتمبر الماضي، تصاعد الخلاف حول بنود «التقرير الاستهلاليّ للدراسات الفنيّة» المقدّم من المكتب الاستشاريّ الفرنسيّ «بي. أر. أل.»، إذ أبدى الخبراء المصريّون ملاحظات على الفرضيّات والمنهجيّة التي تقوم عليها الدراسات، والتي ستؤدّي إلى عدم دقّة النتائج المتوقّعة لتأثيرات السدّ على معدّلات تدفّق المياه إلى مصر.
وفي السياق، يشير المصدر الحكومي المصري إلى أنّ القاهرة «تطرق الآن أبواب المنظّمات الدوليّة بعد استمرار الخلافات، وتقوم بالتفاوض المباشر مع الجانب الإثيوبيّ من أجل إظهار الشواغل والتخوّفات من المماطلة الإثيوبيّة وعدم التزامها التعهّدات المتضمّنة في اتفاق المبادئ».
ومع استمرار تعقّد المفاوضات الفنيّة والسياسيّة ودخول القاهرة في نفق لا ينتهي من المداولات المباشرة مع إثيوبيا والسودان وضعف البطاقات التي تمتلكها من أجل فرض وجهة نظرها أو حتّى التوافق مع الأطراف الأخرى في إطار المنفعة المتبادلة، لم يبق أمام الإدارة السياسيّة بديل سوى الشكوى للمجتمع الدوليّ، بعد تعهّدات قانونيّة التزمت بها مصر في اتفاق إعلان المبادئ وأصبحت قيداً أمام تأمين مصالحها في مياه النيل.
وفي حديث إلى «الأخبار»، يوضح أستاذ القانون الدوليّ العام أيمن سلامة، أنّ «توقيع مصر على اتفاق المبادئ يلزمها بمبدأ حسن النيات من أجل التسوية السلميّة للنزاعات حول سدّ النهضة، وفقاً للبند العاشر... ولا يمكن مصرَ، في ظلّ الظروف الإقليميّة الآن، اللجوء إلى القوّة المسلّحة أو مجرّد التهديد بها، لأنّ أيّ حديث عن القوّة الآن سيضرّ بالموقف المصريّ ولا يفيده». ويقول سلامة إنّ «الموقف القانونيّ الآن بين مصر وإثيوبيا حول سدّ النهضة أصبح نزاعاً، لكنّه لم يصل بعد إلى الدرجة التي تهدّد السلم والأمن الدوليَّين».
وفي سياق الحديث، يشير إلى أنّه برغم «تحديد ميثاق منظّمة الأمم المتّحدة لعدد من الوسائل السلميّة لتسوية النزاعات الدوليّة، بدءاً من المفاوضات والوساطة والتحكيم والقضاء الدوليّ، إلا أنّه في حالة سدّ النهضة فإنّ اتفاق إعلان المبادئ يقصر الأمر على المفاوضات أو طلب الوساطة، وهو ما يمنع أيّ مطالبات باللجوء إلى التحكيم والقضاء الدوليّ». ويرى أستاذ القانون الدولي أنّ «المفاوضات دائماً بين أطراف النزاع هي الوسيلة الأمثل والأسرع للحلّ، فضلاً عن أنّ اللجوء إلى التحكيم الدوليّ من شأنه ضياع المزيد من الوقت»، موضحاً أنّ «القيادة السياسيّة المصريّة مدركة للمخاطر المتوقّعة من السدّ، وأيّ رسائل سياسيّة الآن هدفها عدم إعطاء انطباع بأنّ الأيدي مكبّلة».