ذهبت جائزة نوبل للفيزياء، التي أعلنت عنها الأكاديميّة الملكيّة السويديّة للعلوم هذا الأسبوع، إلى ثلاثة علماء أجروا اختبارات فيزيائيّة حاسمة، وتمكّنوا من رصد الموجات الثقالية أو موجات الجاذبيّة، التي تنتج عن الحركة المتسارعة للكتل الضخمة، وتسبب تموّجات في بنية الفضاء نفسه.
في الواقع، لم تشكّل هوية الفائزين بجائزة نوبل للفيزياء مفاجئة، خصوصاً بعد أن أثبتت هذه الاختبارات صحّة إحدى تنبؤات نظريّة النسبيّة العامة التي وضعها ألبرت أينشتاين قبل 100 عام.

نوبل لمن أثبتوا دقّة توقّعات أينشتاين

خلال العقود الماضية، أثبت العديد من الظواهر التي تتوقّعها هذه النظرية، وباتت حساباتها جزءاً من بديهيات العلم الحديث، من أنظمة قياس المواقع الجغرافية، إلى مسألة انحناء الضوء عند مروره أمام الكتل الكبيرة في الفضاء التي تؤخذ بالاعتبار في كل المشاهدات الكونيّة وحساباتها، وغيرها من التوقّعات الدقيقة. إلّا أن مسألة موجات الجاذبيّة بقيت عصيّة على الاختبار لدقّتها ولغياب الوسائل الملائمة لرصدها. ومع تطوّر التكنولوجيا والعلوم الحديثة، طوّر الفريق العلمي الذي قاده الفائزون في جائزة نوبل، رينير واس وباري باريش وكيب ثورن، تقنيات حديثة تستند إلى ماكينات لايزر عملاقة تمتدّ على طول كيلومترات عدة، وتقيس في شكل فائق الدقّة تداخل الموجات الضوئية الوافدة، والتي لا يكمن أن تتأثّر إلّا بتغير بنية الفضاء الذي تمشي فيه. وبالتالي، عند حصول أي تفارق بين الموجات المتماثلة بين الضوئين، يمكن رصد التموجات التي حصلت في هذا المكان، أو «الزمكان» كما يسمّى عند أخذ الزمان كبعد إضافي رابع إلى جانب الأبعاد المكانيّة الثلاثة. ولفهم دقّة هذا الاختبار يكفي القول إنّ الفارق في الموجات الضوئيّة المتأثرة بموجات الجاذبيّة الآتية من الفضاء يكاد لا يبلغ جزءاً من قطر ذرّة واحدة!
وبالفعل، وفي إنجاز علميّ تاريخي، رصد هؤلاء العلماء موجات الجاذبيّة الناجمة عن تصادم ثقبين أسودين هائلين ودورانهما حول نفسيهما قبل اندماجهما في ثقب أسود واحد. هذا الاختبار أثبت، بما يقطع الشكّ باليقين، صحّة توقّعات النسبية ومدى دقّة توقّعاتها المستندة أصلاً إلى نماذج رياضيّة وهندسيّة للفضاء وتحديداً في مسألة موجات الجاذبيّة. إذاً، سيكون مستغرباً لو ذهبت جائزة نوبل لغير هذا الفريق الذي أثبت صحّة 100 عام من تاريخ الفيزياء النظريّة المبنيّة على أسس النسبية العامة، ومعلّمها الأوّل ألبرت أينشتاين.

مسائل شائكة

تعدّ نظريّة النسبيّة العامّة الوسيلة النظريّة لدراسة حركة الكتل الكبيرة في الكون، مثل حركة المجرّات التي تتشكّل من مئات مليارات النجوم، وتتحرّك في شكل توسعيّ، بحيث تتباعد تدريجيّاً عن بعضها البعض، وذلك منذ مليارات السنين حتى اليوم.
لكنّ توقّعات النسبيّة على حركة المجرّات لا تعطي الإجابات الصحيحة عن الحركة المرصودة والمقاسة. لذلك، كان لا بدّ للعلماء من إدخال تعديلات نظريّة كي تتطابق التوقّعات مع المشاهدات.

تثبت هذه الاختبارات صحّة إحدى تنبؤات نظريّة النسبيّة التي وضعت قبل 100 عام

وأتت هذه التعديلات من خلال نظرية «المادّة المظلمة» التي نحتاج إلى وجودها ليحصل التطابق بين النظري والعملي. إلّا أنّ هذا التعديل ليس بسيطاً على الإطلاق، كون كمية المادة المظلمة المطلوب وجودها للحصول على النتائج الصحيحة تبلغ أضعاف المادة العادية التي نعرفها في الكون. أي أنّنا نفترض وجود كمية هائلة من المادة غير المرئية وغير معروفة التكوين والهويّة، وبنسبة تصل إلى 80% من كتلة الكون!
هذه الفرضيّة قد تؤدي في نهاية المطاف إلى احتمال من اثنين: إمّا التثبّت من وجود هذه المادّة المظلمة، وتحقيق نصر إضافي غير مسبوق لنظريّة النسبية العامة، لجهة تمكّنها من إضاءة الطريق البحثي أمام اكتشافات جديدة. أو عدم التمكّن من تقديم إثباتات عمليّة اختباريّة أو استنتاجات نظريّة جديدة داعمة، ما يعيد الشكوك حول دقة نظريّة النسبية في دراسة حركة المجرّات، وتالياً إلى كماليّة الجانب النظري منها، ما يستدعي استكمالها بملحقات نظريّة إضافيّة.
كذلك، احتاجت مسألة التوسّع المستمرّ للكون وفي شكل متسارع، بعكس التوقّع الطبيعيّ بتباطؤ توسّعه تحت تأثير الجاذبيّة، إلى إدخال مفهوم الطاقة المظلمة إلى جانب المادة المظلمة. وهذا ما تنبّه إليه أينشتاين نفسه عبر إدخال ثابت فيزيائي دقيق أسماه «الثابت الكوني»، وتمّ تحديد قيمته لتتطابق سرعة توسّع الكون المتوقّعة مع المشاهدات دون وجود تفسيرات أو أسباب طبيعيّة لقيمته هذه.

الاختبارات العلميّة

يقوم «مصادم الهادرونات» الذي يسرّع الجزيئات ويؤدي إلى تصادمها على طاقة مرتفعة تعادل تلك الموجودة في قلب النجوم، باختبار التكوين الجزيئي للمادة، وهو في تطوّر مستمر. وقد تمكّن من إثبات نظريات عدّة خاصة بالمادة، وإثبات وجود جزيئات معينة مثل «بوزون هيغز»، الذي توقّعته نظريات الفيزياء منذ ستينات القرن الماضي، لتفسير تركيب المواد الأخرى مثل البروتونات والالكترونات وكيفية حصولها على كتلتها.
راهناً، يضع العلماء جهودهم من أجل محاولة رصد جزيئات المادة المظلمة في هذه الاختبارات، ومحاولة فهم مكوناتها التي تختلف جذريّاً عن المواد العادية المركّبة من مجموعات معينة من الكوارك أو تلك المنتميّة إلى عائلة الالكترونات. لكن حتى اليوم، لا توجد أي إشارة أو طريقة للوصول إلى الغاية المنشودة، فمسألة المادة المظلمة لا تزال بعيدةً نسبيّاً عن الإثبات المادي والفهم العلمي.
من هنا، ما زالت نظريّة النسبيّة العامة تعتبر من أعمق وأقوى النظريات الفيزيائيّة النظريّة، خصوصاً أن بعض توقّعاتها هي بالغة الدقّة، مثل مسألة موجات الجاذبيّة، لكنّ العديد من المسائل تطرح أسئلة حول كيفيّة تطويرها وتفسير بعض مكامن افتراقها عن الواقع أو عن الاختبار الدقيق كما في حالة المادّة المظلمة، فضلاً عن الحاجة المستمرّة لتطوير نظريّة أشمل تجمعها مع النظريّة الكمومية التي لا يمكن فهم خصائص المادة وجزيئاتها إلّا من خلالها. هذا هو علم المستقبل، ومجال البحث الفيزيائيّ النظري الأساسي لعقود مستقبليّة عدّة.