باريس | أكثر من عشر سنوات بقليل، هو عمر «الثلاثي جبران». تلك الفكرة الجامحة لشاب متحمس أزعجته سلطة المغني على العازف، وخضوع العود للغناء، فقرر أن يأخذ أناه بصحبة عوده ويضعهما منفردين تحت أضواء المسرح. الشاب الذي يحلم بالنجومية سيُنتجُ على حسابه الخاص أول أسطوانة وسيفرح بصورته عليها، سيعرف شيئاً من النجومية نعم، لكنه لن يكتفي بذلك؛ فالفتى الذي سرقته الموسيقى من دراسة علم الجينات، سيقرر الدخول إلى مختبر العائلة ليبدأ أولى تجاربه التي سينتج عنها صوت سيصدح في أنحاء الأرض.
غداً، يقف هذا الخيميائي مع أخويه وسام (1983) وعدنان (1985) على خشبة «ميوزكهول» في «حفلة ستطوي مرحلة» في مسيرتهم الحافلة ليبدأوا مرحلة أخرى ستفاجئ كل متابعيهم. بهذه المناسبة، التقينا بالعازف والملحن سمير جبران (1973) في هذا الحوار الذي ينبش في تفاصيل التجربة اللافتة ويقف عند أبرز محطاتها



■ بدأت عازفاً منفرداً قبل أن تقرر تأسيس الـ «ثلاثي جبران». كيف فكرت بذلك؟ وكيف كان شكل المحطات الأساسية؟
أنا أكبر من وسام وعدنان بـ 12 عاماً، والدنا حاتم جبران صانع أعواد الجيل الثالث من عائلة جبران. في طفولتي المبكرة، كنت محاطاً بالأعواد. كانت في كل أرجاء المنزل، حتى في المطبخ حيث كان والدي يصنعها أحياناً، التماس مع آلة العود بدأ في سن الخامسة.

في ذاك العمر، خرجت أولى الأنغام كما يؤكد لي والدي دائماً. أنهيت مرحلة المدرسة، وكانت لديّ رغبة في دراسة الطب وعلم الجينات، ولكن في ذاك الوقت كنت معروفاً محلياً في الناصرة كعازف عود. شجعني الوالد أن أسافر إلى القاهرة لدراسة الموسيقى، وهناك حصلت على ماجستير العزف على الآلة. القاهرة كانت منعطفاً كبيراً وجميلاً. في عام 1991 كنت سعيداً بأن أمثّل فلسطين للمرة الأولى منذ عام 1932 في «مهرجان الموسيقى العربية»، بعرض ثلاثي على مسرح «دار الأوبرا» مع الفنانة السورية أصالة نصري، والفنان التونسي لطفي بوشناق. من هناك بدأت أفكر بأخد العود إلى مكان آخر، دائماً ما فكرت بخضوع العود لسلطة المغني، والمغني كدكتاتور فني على العازفين، والموسيقى الآلية المهضوم حقها في الموسيقى العربية، وبالتالي النجم دائماً هو المغني. أما العازف، فلو كان أكثر إبداعاً ومعرفة، فهو لا يأخذ حقه. حاولت أن أجد لنفسي جمهوراً، وهذا تجلى من خلال أول حفلة أقمتها في فلسطين كعازف منفرد، وقد أكون أول عازف في فلسطين يقدّم عرضاً منفرداً على آلة العود. وقتها نُعتُّ بالمجنون من قبل أصدقائي الذين استهجنوا إقامة عرض صولو عود بحجة أن لا أحد في فلسطين سيذهب ليستمع إلى عازف منفرد لمدة ساعة. لم تكن مسيرة سهلة أبداً. في عام 1996، أنتجت أول اسطوانة «تقاسيم». وبعدها بسنوات اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وقتها كنت أقيم في رام الله التي كانت مركز الأحداث. أصدرت اسطوانة «سوء فهم» عام2001 .

أنا لست «فناناً من أجل السلام»، أنا فنان فلسطيني يدافع عن عدالة قضيته، قبل «السلام» أعطوني العدالة والحرية


أخذت الأسطوانة هذا الاسم لأنني كنت ككل الفلسطينيين وقتها تحت الحصار، لم يكن هناك مكان للموسيقى ودبابات الاحتلال بجانب منزلي، ولا أفق لسماع الموسيقى وصوت الانفجارات والرصاص يحتل كل تفاصيل الوقت. بعدها بعام، دُعيت إلى إقامة حفلة في باريس. يومها، اصطحبت أخي وسام كي يعزف معي، وكان في عمر الـ13 عاماً. ومن هناك ظهرت البذور، كان عرضاً ناجحاً وتفاعلاً كبيراً من الجمهور، وتلقينا يومها عرضاً من منتجة فرنسية، وكانت اسطوانة «تماس» (2002) التي لاقت نجاحاً كبيراً. بدأت مرحلة جديدة، وبدأت مع وسام بتأليف موسيقانا الخاصة. في عام 2004، فكرنا بعدنان الأخ الثالث وبأضلاع المثلث التي تسند بعضها بعضاً. هكذا انضم إلينا أخونا الثالث، وبدأنا بتسجيل اسطوانة «رندنة» (2005) التي أكدت لنا نجاح الفكرة، وكانت بمثابة الإعلان عن «الثلاثي جبران». تزامنت الاسطوانة وقتها مع ظهور فيلم «ارتجال» الذي أخرجه رائد أنضوني يحكي فيه اجتماع وتجربة الأخوة الثلاثة. ومن هناك بدأت المسيرة، لتتوالى العروض والنجاحات، وينضم إلينا في عام 2006 عازف الإيقاع يوسف حبيش الذي قدم إضافة نوعية إلى موسيقانا. أصدرنا «مجاز» (2007). وبعدها جاءت «في ظل الكلام» (2008) مع صوت الشاعر محمود درويش، وبعدها «أسفار» (2010). وبين تلك الاسطوانات قمنا بوضع الموسيقى لمجموعة من الأفلام وتوجت الموسيقى بجوائز في مهرجانات عالمية هامة. حتى الآن قدم «الثلاثي جبران» أكثر من ألف عرض في معظم أنحاء العالم، وأنا مؤمن بأنّ الآتي أعظم.

■ هل كنت تتوقع هذا النجاح الكبير، يخيفك النجاح؟
علاقتي مع الفن مختلفة، لا أشعر بالخطر، كما ليست لدي أي إشكالية مع النقد، هذا لا يضرّ. علاقتي مع الموسيقى علاقة حب والحب لا يخيف. أما عن التوقعات، فلا، لم أتوقع هذا النجاح بالتحديد، بل إن توقعاتي كانت أكبر مما وصلنا إليه. كانت لدي قناعة منذ البداية بأننا سننجح كثلاثي، بسبب النجاح الذي لاقيته حين كنت أنا ووسام فقط على المسرح. في ذاك الوقت قدمنا أكثر من 200 عرض في فترة قياسية، فما بالك بفكرة ثلاثة أخوة، نحن لسنا ثلاثة أعواد تعزف على المسرح فقط؛ بل ثلاث شخصيات تتحاور على المسرح. كنت متأكداً من النجاح، ولا أخفيك بأنني تأثرت أيضاً بألبوم Friday Night in San Francisco 1981 الذي جمع أشهر ثلاثة عازفين لآلة الغيتار هم «آل دي ميولا» وجون ماكلوفلين وباكو دي لوسيا. هذا الألبوم كان مصدر إلهام لي، وبرأيي أنّه واحد من أجمل الألبومات التي شهدتها الموسيقى الغربية على الإطلاق. شجعني ودفعني إلى التحدي بآلة العود، ولم لا؟! العود هو الأب الشرعي للغيتار، من ذاك الوقت رأيت هذا النجاح الذي يحققه الثلاثي الآن.

■ أنتم منسجمون على المسرح بشكل لافت وطاقة استثنائية تجمعكم دائماً، ولكن ماذا خلف الكواليس؟
لا أخفيك، كل عرض، كل ألبوم، هو بمثابة مخاض يحمل كل صفات الألم الجسدي والمعنوي والنفسي. نحن أخوة، وبالتالي ليس هناك مجاملات، ولا يمكن استبدال أي عازف بآخر، نحن الثلاثة نؤلف موسيقانا. إذا لم تعجب جملة ما الآخر، يكون الأمر صعباً للغاية، التفاهم على الذوق والأمزجة بيننا الثلاثة هو من أصعب الأمور، قد أعيش حالة حب ووسام وعدنان اكتئاب أو العكس. هنا يتحتم علينا أن نلتقي وأن نتجرد ونتفاهم، هناك صدام دائم، إلى درجة اختلافنا أحياناً على تفاصيل بسيطة تتعلق بمساحة الصمت في الألبوم بين القطعة والأخرى. كم جزءاً من الثانية؟ ولك أن تتخيل. هو صدام قاس ولكنه جميل، وتعب منعش لكنه يتطلب الكثير من الجهد والطاقة والوقت، عندما أتكلم عن الصمت لك أن تتخيل كل نغمة وما تتطلبها من دراسة وعمل.

■ ما هي خصوصيات كل من وسام وعدنان وإضافاتهما إلى الثلاثي جبران؟
خصوصية التريو كمثلث، نحن من نفس الأم والأب، لدينا موسيقى في الجينات، في نفس الدم، وأعتقد أن هذا ما يجعلنا قادرين على فهم واستيعاب بعضنا جيداً، لدينا مشروع نحرسه ونخاف عليه كعائلة وكوطنيين فلسطينيين. مسموح أن نختلف وممنوع أن ننفصل، وهذه خصوصية تميز التريو، الخصوصية الثانية باعتقادي أننا صنعنا صوتاً جديداً، ربما ليس بتأليف الموسيقى، ولكن بالتأكيد بالصوت الصادر من الأعواد الثلاثة، وهو الذي لا يشبه أي صوت آخر في الموسيقى العربية أو الغربية. ما يميز فردياً كلاً من وسام وعدنان وسمير، أنا حامل المشروع أو «الكابتن» وفي نفس الوقت الطائر، ووسام وعدنان هما جناحاي. عدنان لديه نضوج كبير في التأليف الموسيقي، خاصة في عملنا الأخير الذي يحمل بصمات عدنان بشكل كبير. ونحن سعداء بالموهبة الاستثنائية لديه. أما وسام فهو صاحب أجمل صوت يصدر من الثلاثي، عندما يعزف بمفرده وبخاصة ارتجالاته، أطرب على المسرح، وربما هذا الشيء له علاقة بأن وسام هو صانع أعواد.

■ ما هي أبرز المعوقات التي وقفت في طريقكم خلال هذه المسيرة الحافلة؟
أنا ضد كل ما يسمى معوقات، قد تكون هناك منغصات أحياناً من منظمي الحفلات أو المؤسسات، بما أننا فلسطينيون، كثيراً ما واجهنا منظمين يحاولون ترتيب عروض مشتركة مع إسرائيليين، تحت عنوان «السلام». نحن لا نصعد إلى مسرح فيه إسرائيلي، ولا نشترك في مهرجان فيه إسرائيليون، هذا من أبجديات «الثلاثي جبران» لم ولن نعزف مع أي إسرائيلي، ولا نشترك في أي مهرجان فيه اسم «إسرائيل» ولن نكون «فناني سلام». أنا لست «فناناً من أجل السلام»، أنا فنان فلسطيني يدافع عن عدالته وعدالة قضيته، قبل «السلام» أعطوني العدالة والحرية، وبعدها سأقرر إن كنت أريد صنع سلام أم لا؛ لأن هذا حقي الطبيعي. اليوم وبعد 13 عاماً، رسخنا هذا المفهوم وصار معروفاً لدى معظم منظمي الحفلات. وبالتالي نسبة المنغصات من هذا النوع قلت كثيراً. من ناحية أخرى، كثيراً ما نتعرض لأسئلة لها علاقة بالسياسة، ليست لدي مشكلة بذلك طبعاً، لكن ليس على حساب الفن، نحن لسنا فنانين فلسطينيين. نحن فنانون من فلسطين، أنا أرفض أن أكون ضحية وأرفض أن أكون بطلاً، أنا مجرد فنان طبيعي يحارب من أجل قيمه وحريته، وعلى العالم أن يفهم، ويتعامل معنا على هذا الأساس.

■ هل ترتجلون على المسرح، أم كل شيء محسوب بدقة؟
أساسات كل قطعة مدروسة جيداً، ولكن لا أبالغ إذا قلت أنّ 40 في المئة من العرض يكون مرتجلاً وأحياناً أكثر، وإلّا لما كنا قادرين على بناء الطاقة في ما بيننا كلّ عرض، نحن لسنا ممثلين بحركات متفق عليها وسيناريو محفوظ، بل عازفون تقودهم الطاقة والنغمات.

■ المعلم الكبير وعازف الإيقاع يوسف حبيش هو رفيق درب «الثلاثي جبران». اخترتم العمل معه منذ البداية، وصفتموه يوماً بأنه «خميرة» موسيقاكم، كيف بدأت العلاقة ولماذا حبيش تحديداً؟
في السنوات العشر الأخيرة، عشنا مع يوسف حبيش ربما أكثر من عيشنا مع عائلاتنا. علاقتي معه تعود إلى ثلاثين عاماً، أي قبل أن يحمل وسام وعدنان أي عود. عندما تخرجت من القاهرة، عدت إلى فلسطين وتعرفت إلى حبيش، وأقمنا بعض الحفلات وقتها. وعندما فكرت بالثلاثي، كنت أرى أنه الوحيد القادر على مرافقتنا ودعمنا، هو الأخ الرابع، والفنان النبيل المولع بالإيقاع أحياناً على حساب حياته وصحته.

■ على مدار سنوات، ارتبط اسمكم بالشاعر محمود درويش، كيف بدأت العلاقة مع درويش وكيف كان شكل أول لقاء؟
أول لقاء لن أنساه، كان في عام 1996 في «اكس ان بروفانس» (جنوب فرنسا). كانت لدي أمسية عزف منفرد على العود، وتفاجأت قبل الحفلة بليلى شهيد سفيرة فلسطين في فرنسا آنذاك تطلب مني مرافقة محمود درويش على المسرح نفسه في قراءة شعرية. رأيت درويش قبل ربع ساعة من ظهورنا على المسرح، كان حادّاً يومها وقال لي «أعرف أنك تعزف جيداً ولكن لا أريدك أن تعزف معي أثناء القراءة، لا أريد أي وسيط بيني وبين القارئ، ولكن الأخت ليلى شهيد ورطتني وورطتك! أسمحُ لك أن تعزف ثلاث دقائق كفواصل بين القصائد التي سأقرؤها وإياك أن تتجرأ وتعزف أكثر، لأنك إن فعلت سأنزلك عن المسرح». بدأتُ يومها الحفلة بقطعة تقارب ثلاث دقائق كما طلب درويش، وبعدها بدأ بقراءته. عندما انتهى، جاء دوري مجدداً لثلاث دقائق أخرى. وبعد الدقيقة الأولى على عزفي، بدأ درويش بالقراءة! كان موقفاً من أصعب المواقف في حياتي وأصعب القرارات، هل أواصل العزف أم أتوقف! كان الاتفاق ثلاث دقائق، فلماذا بدأ درويش بالقراءة، يومها أغمضت عينيّ وقررت مواصلة الثلاث دقائق التي اعتبرتها حقي.

سنخصّ جمهور بيروت
بقطعتين من الألبوم الجديد، ومتحمسون للعزف إلى جانب البحر
الذي يعني الكثير للفلسطينيين
بدأت أتسلل في اللحظات التي يحتاجها درويش لأخذ الشهيق وأضع النغمات، فتحت عيني بعد ما يقارب خمس دقائق ونظر إليّ الشاعر مشيراً لي بأن أكمل، فأكملنا ساعتين من الشعر والعزف المتواصل سوياً. وقتها أذكر بأنه قال لإحدى المحطات الفرنسية المتواجدة آنذاك بأن سمير جبران هو أول من يعزف الموسيقى داخل نصوصي الشعرية، وبعدها بشهر دعاني إلى قراءة في «المدرج الشمالي» في مدينة جرش في الأردن. ومنذ ذلك الوقت استمرت علاقتنا على المسرح حتى رحيله في عام 2008. للصدف وقبل رحيله بوقت قصير في منتصف يوليو (تموز)، كان لنا عرض آخر في القاعة نفسها التي التقيته فيها قبل ثلاثة عشر عاماً، كأنها دائرة وأغلقت في نقطة بدايتها. مع درويش قدمنا أكثر من 33 أمسية، وقبل رحيله بأسبوع استضاف «الثلاثي جبران» على مسرح «قصر الثقافة» في رام الله.

■ عندما تتحدث، كثيراً ما تستشهد بكلمات محمود درويش، ماذا أعطاكم درويش؟ والسؤال هنا على الصعيدين الشخصي والموسيقي، هل كان له تأثير ما على موسيقاكم؟
أكيد، وتأثير كبير جداً، أنا درست وحصلت على الماجيستر ودرست علوماً كثيرة في الموسيقى، ولكن لم أصادف أستاذ موسيقى علمني أكثر من درويش. في أحد الأيام، طلب مني أن يسمع «جملة موسيقية بيضاء»! أمور كهذه ليست موجودة في أكاديميات الموسيقى. درويش علمني كيف أرى الموسيقى، أخذ بيدي ودلني على الكيمياء التي لا تُعلّم في المعاهد. في مراحل الشباب كنا نحن الموسيقيين نتبارز من لديه تقنيات أكثر في العزف ومن الأسرع… تعلمت من درويش أنه إذا لم يكن لدى الفنان كيمياء وحضور على المسرح، فإنه لن يبدع. الموسيقى يجب أن تصنع القشعريرة، يجب أن تدفعنا لسماع تدفق الدماء في أجسادنا، تعلمت كلّ هذا من درويش، وكثيراً ما كان ينبهني ويحذّرني من تلحين كلماته. قال لي مرة بأنه يحسدني لأن الموسيقى قابلة للتأويل أكثر بكثير من النص الشعري، علمني أن يكون عنوان القطعة أو الألبوم دائماً مفتوحاً، كي لا تسجن الموسيقى داخل الكلمة.

■ تحملون فلسطين معكم أينما حللتم، ما هي فلسطين للثلاثي جبران؟
في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، طُلب منا تقديم حفلة في رام الله يذهب ريعها لصالح التوعية لسرطان الثدي. قررنا الصعود إلى المسرح في العاشرة صباحاً والعزف لمدة 12 ساعة متواصلة. خلال كل تلك الساعات كانت القاعة مكتظة، ودَخلَت على المسرح كل أنواع الفنون بمشاركة أكثر من 70 فناناً فلسطينياً. التحدي كان أن نجمع الأموال لتلك المؤسسة، ونجحنا يومها في جمع أكثر من مليون دولار، هذه التجربة لا يمكن لأي مكان أي يعطيها لنا ولا يمكننا أن نعطيها لأي مكان آخر. كان يوماً من أجمل أيام حياتي على الإطلاق. وفي ذاك اليوم علمتني فلسطين أن بإمكاننا أن نبني بمفردنا دون أي مساعدات، فلسطين هي الأم، المنهل، وهي العطاء الذي لا ينضب.

■ هل كانت فلسطين بمثابة دافع للإصرار والمضي، أم كانت عبئاً وهوية ضاغطة على موسيقاكم؟
هي أبداً ليست عبئاً بل العكس، دائما أُذَكر نفسي وإخوتي، أن هناك ضغطاً من الهوية على الثقافة نعم ويجب أن ندرك ذلك، ونعرف كيف نتعامل معه، الإبداع لا يجب أن يكون مرتبطاً مباشرة بالشعارات السياسية والوطنية. تصريحاتي السياسية واضحة جداً، قد أقولها في لقاء صحافي أو أرمز إليها على المسرح. لكن حين أصنع وأعزف الموسيقى، أجرد نفسي من كل شيء، الموسيقى يجب أن تتجرد من كل ما قد يثقلها، بقدر ما يجب أن تحمل الهوية في الوقت عينه. هويتنا مصدر قوة وفخر واعتزاز.

■ أنتم من مدينة الناصرة الواقعة تحت الاحتلال منذ عام 1948، كل واحد منكم يعيش في مكان مختلف، أنت بين رام الله وباريس، وسام في باريس وعدنان في لندن، كيف هي علاقتكم مع الناصرة؟ وما الذي يمنعكم من العيش فيها؟ محاولة لتلافي العيش مع الاحتلال قدر الإمكان؟
ذكرياتي مع الناصرة ذكريات طفولة فقط، وسام وعدنان أيضاً، نحن من عائلة متواضعة، مجنونة بالعود. عندما انتقلت إلى مصر للدراسة، بدأ الوعي الوطني يتشكل أكثر وأكثر، وكان هذا قبل «أوسلو». وقتها كان ذكر اسم «فلسطين» قد يعرضك للاعتقال. اخترت أن أكون فلسطينياً وأن لا أتعرض لسؤال من أين أنا، أنا لا أنتمي إلى بقعة جغرافية محددة فقط، وضد التقسيمات السياسية والجغرافية لفلسطين الـ48 و67 والمخيمات والشتات. أنا فلسطيني ونقطة، وطني أصبح المسرح أيضاً، وتأثير فرنسا على ثقافتي هو يمكن أكثر من تأثير فلسطين، ولكن هويتي فلسطينية، وبقدر كل التأثيرات الخارجية على تكويني، بقدر ما أؤمن بهويتي وكياني، الناصرة ما زالت المدينة الأولى والذكريات الأولى، هي الوالدة والوالد.

■ تعملون على ألبوم جديد الآن، متى سيظهر، وما المختلف فيه بعد خمس ألبومات سابقة؟
سيكون ألبوماً مختلفاً، بمثابة تحدٍّ للذات وخروج عن المألوف لـ «الثلاثي جبران». نتعامل مع مدير فني للمرة الأولى، ولأول مرة أيضاً سيكون العمل الجديد من أوركستراتين، ومع أصوات إلكترونية جديدة. وللمرة الأولى، سيكون الغناء حاضراً معنا، بمشاركة نجم عالمي كبير، قد أعتبره الأهم عالمياً، لن أصرح عن اسمه الآن لأنه سيكون مفاجأة الألبوم، إضافة إلى صوت جديد آخر من إيران، وطبعاً صوت محمود درويش الذي ستكون كلمته هي رسالة الألبوم.

■ كأنك تقول إن العمل القادم هو محطتكم الجديدة كلياً؟
صحيح، هي بداية جديدة كلياً ستفاجئ الجميع، بداية تطوي المرحلة السابقة وتبدأ مرحلة جديدة أخرى، بتنوع موسيقي من إيران إلى أقصى الغرب.

■ بعد هذا النجاح العالمي، كيف تنظرون إلى المستقبل؟ وإلى أين تريدون الوصول؟
الصحة أهم شيء، وبعدها أتمنى النجاح للتجربة الجديدة المقبلة. هناك أخبار قوية لن أفصح عنها الآن، لكنها قد تضع العود في موضع لم يصل إليه سابقاً. طموحي أن أتوقف عن التعريف بآلة العود، للأسف ما زلنا مجبرين أن نعرّف العود إلى العالم.

■ ما هي المدينة التي لم تعزفوا فيها من قبل وتحلمون بالوقوف على خشبة مسرح فيها، أو المدينة التي تحنّون إليها وتودون العزف فيها مجدداً؟
هناك أكثر من مدينة، بدون تفكير طويل أقول كل مدن فلسطين، أقول بيروت وباريس، ما يصنع التقارب في العالم المدن لا الحكومات، التوأمة ما بين المدن في العالم هي أقصر الطرق للتشابك والتعايش. باريس هي المدينة التي أعطتنا الكثير، أنا مدين لهذه المدينة التي احتضنتنا وأعطتنا مساحة كبيرة من الحرية والإبداع.

■ هل صحيح أن الثقافة الفلسطينية حققت ما أخفقت فيه الطبقة السياسية؟
أكيد، طبعاً، المشهد الثقافي الفلسطيني هو ربما من الأغنى عالمياً (نسبة لعدد السكان) والأغنى عربياً، بالرغم من أننا تحت احتلال وليس لدينا صناعة منتج ثقافي. على الصعيد الموسيقي أو السينمائي أو الأدبي أو الفنون البصرية، لدينا أسماء كثيرة أثّرت في الوجدان العالمي ووضعت بصمة لا تُمحى، وباريس كانت محطة مهمّة للكثير من تلك الأسماء، ربّما لأن التواصل ضعيف مع الدول العربية أو ليس بالمستوى المطلوب. هناك فرق كبير في أن تكون معروفاً على الصعيد العربي وأن تكون معروفاً على الصعيد العالمي. الشهرة العالمية أن تقيم عشرات الحفلات في مدينة بعيدة، أن يُدرَّس إنتاجك الفني والأدبي في اليابان، وأن تُلعب موسيقاك في إنتاج درامي وسينمائي في تركيا وأميركا وأوروبا وليس العكس. الإنتاج الثقافي الفلسطيني غنيٌّ ويصل إلى كل ذلك، والمشهد الثقافي أقوى بمراحل عديدة من السياسي، لا حاجة مباشرة للمثقف أن يكون سياسياً، لكن هناك حاجة جوهرية للسياسي أن يكون مثقفاً، وقد يكون هذا ما نفتقده سياسياً.

■ ما الذي ينقص المشهد الثقافي الفلسطيني؟
الصناعة، أن نؤمن بالفن كمكوّن اقتصادي للبلد، مشكلتنا في فلسطين في العقد والنصف الأخيرين هو ظهور المساعدات والمنح. أصبحنا نعتمد على التبرعات، والأخطر من ذلك تحول الفنان لإنشاء المؤسسات بدلاً من التركيز على فنه، وهذه مشكلة كبيرة، للأسف، كثير من الفنانين والفرق الفلسطينية حين اكتشفوا أسرار المنح، فتحوا مؤسسات وتوقفوا عن الإنتاج. يجب أن نفهم بأننا لسنا بحاجة للمساعدات كي ننتج فناً. نحن بحاجة أن ننتج ونصعد المسرح ونبيع التذاكر، وهي عجلة ثقافية اقتصادية. للأسف ما زلنا نعيش على الرعايات. على سبيل المثال، منذ ثلاث سنوات، وقّع «الثلاثي جبران» عقد شراكة مع «بنك فلسطين». شراكة تعني أن الفرقة تروج اسم البنك، والبنك يساعد في الإنتاج الفني للفرقة. من خلال هذه الشراكة أيضاً قدمنا مشاريع كثيرة من ضمنها «الماراثون» الذي جمع تبرعات للاجئين في «مخيم اليرموك». لكنني متفائل، هناك جيل جديد يصعد بقوة وأتوقع له مستقبلاً باهراً.

■ هناك احتلال لم يكتف بسرقة الأرض والإنسان فقط بل يعمل على سرقة الثقافة أيضاً، قلت بأن العود هو «السلاح الذي تواجه فيه». هل تشعر فعلاً أن الفن قادر على مواجهة آلة الظلم والوحشية هذه؟
في آب (أغسطس) عام 2001 قصفت طائرة F16 المنطقة التي كنت أسكن فيها في رام الله. يومها تضرر البيت كثيراً وألحَّ عليّ هذا السؤال فعلاً. العود مقابل ذاك الموت قد لا يكون شيئاً يذكر، ولكن تستفيق لاحقاً على كلمات درويش: «هزمَتكَ يا موت الفنون جميعها». في النهاية أنا ما أنتجه، وما ننتجه هو روايتنا الفلسطينية التي ترسخ جذورنا في الأرض، قال لي درويش مرة أن لا أعزف موسيقى تقليدية، بل أن أعزف موسيقى «بنت اليوم» حديثة، لأن الموسيقى الحديثة الجيدة سوف تكون يوماً ما هي التقليد. ما نطمح إليه أن تتحول الموسيقى الحديثة التي ننتجها اليوم إلى «تقليد». أن تصبح هي الفولوكلور، وإذا استطعنا ذلك، فمعناه أنّ العود فعلاً هو سلاح أقوى من الطائرة بكثير.

■ أكثر من ألف عرض في عشر سنوات، بين كل تلك العروض كيف تجدون الوقت للراحة، التأليف، أو لقضاء الوقت مع العائلة؟
هذا العام قلّصنا العروض إلى خمسين فقط، لأننا نعمل على الألبوم الجديد. ليس من السهل أن نبتعد عن عائلاتنا، أحياناً نخطف أنفسنا يوماً ويومين بين العروض. أحيانا ندعو العائلة، ونحن ممتنون لها كونها تتفهم حجم المشروع الذي نعمل عليه. عندما نسافر وخلال الجولات؛ أحياناً نسترق الأوقات القصيرة في الطائرة أو القطار لمحاولة الراحة، ولا نتكلم مع بعضنا أبداً حتى الساعات الأخيرة قبل العرض.

■ هذه هي المرة الثالثة التي ستعزفون بها في بيروت، ما الذي تعنيه لكم هذه المدينة؟
بيروت عشقتها وتعرفت إليها من شعر محمود درويش: «أنا لا أحبك، كم أحبك». أول مرة زرنا بيروت، بكينا في المطار، كانت حلماً كبيراً لنا، مدينة فيها الجنون والصخب والحرية والوطنية، تجمع فيها كل التناقضات. أذكر عند زيارتي الأولى، صادفني ملصق عرضنا على حائط لا تزال فيه آثار طلقات الرصاص. وعرفت أن هذه بيروت المصرَّة دائماً على الحياة والجمال، ليالي بيروت بأجوائها الثقافية الحميمة لا تجدها في أي مكان آخر. مدينة فيها فلسطين وروح فلسطين، فيها أهلي الذين هجروا من شمال فلسطين. في زيارتي الأولى إلى المدينة، أذكر أنه صادفني محل مجوهرات يحمل اسم «الطوف» في شارع الحمرا، وكانت مفاجأة، فالاسم نفسه موجود في الناصرة، دخلت إلى المحل وسألت البائع عن سبب التسمية، وتبين لي أنه من الناصرة أيضاً.

■ ما هو برنامج العرض في بيروت وكيف سيكون شكله؟
سيكون العرض خليطاً من الألبومات السابقة «رندنة» و«مجاز» و«أسفار». سيكون صوت محمد درويش حاضراً معنا، وسنخصّ جمهور بيروت بقطعتين من الألبوم الجديد، مشتاقون لجمهورنا هناك، ومتحمسون للعزف إلى جانب البحر، والبحر يعني الكثير للفلسطينيين. في بيروت سنحتفل أيضاً بنهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة لـ «الثلاثي جبران» ولا أجمل من هذه المدينة لهذا الاحتفال.

أمسية «الثلاثي جبران»: 21:00 مساء الغد ــــ «ميوزك هول» (الواجهة البحرية) ــــ للحجز: 01/999666