تقود أنهار كوتشينفيا سائحين روسيين نحو مغارة قانا الجليل (قضاء صور). تلعب الصحافية الروسية دور المرشد السياحي لمواطنيها، ليس لأنهما لا يجيدان التحدث بغير الروسية، بل لعدم توافر مرشد من قبل وزارة السياحة في الموقع. تبدو كوتشينفيا ملمّة بتاريخ الموقع. تقيم في لبنان منذ عام 1999، وتعمل على رصد المواقع الأثرية لجمعها في كتاب واحد «يغني عن التفتيش في أكثر من مرجع».
سابقاً، أنجزت كتابين مماثلين عن القاهرة والأردن. حتى الآن، أحصت 150 موقعاً أثرياً في لبنان، معظمها مجهول من قبل كثير من اللبنانيين، ووثّقتها بالصور والمعلومات على موقع الكتروني يدعى «بيروت» باللغة الروسية. «هل تعرفين أكوي دوك، المعبد الروماني، في الكرنتينا؟ هل تعرفين موقع السفيرة في عكار؟ وهل زرتي الآثار الرومانية في قصرنبا البقاعية؟ (...)»، تتساءل بحماسة، وتضيف: «كل هذا ولا أزال منذ ثلاث سنوات أحاول مقابلة وزير السياحة لعرض مشروعي... ولكن من دون جدوى»!
كوتشينفيا ليست «زعلانة» لأنها تدرك أنها ليست مستهدفة شخصياً. فعدم الاهتمام بمشروعها يقابله ما تراه من غياب تام للوزارة وأجهزتها في معظم المواقع الأثرية، حيث لا مرشدين سياحيين ولا بنى خدماتية مؤهلة من جهة، ولا دعاية ترويجية كافية حول العالم من جهة أخرى. الذريعة نفسها سمعتها ممن تمكنت من لقائهم من المسؤولين: «قلة الإمكانات المادية».

أنطوان زهرا: ما يحصل استنزاف لموارد الدولة واستثمار سياسي وانتخابي
ويؤكد هذه الذريعة أن معظم ورش ترميم المواقع السياحية تتم بهبات على غرار الهبات الإيطالية التي موّلت تأهيل مغارة قانا وموقعي البص والقلعة البحرية في صور وتشييد متحف في موقع البص وفي القلعة البرية في صيدا. لكن كوتشينفيا «ستزعل»، بالتأكيد، عندما تعلم أن وزارة السياحة نفسها تخصص سنوياً المليارات لدعم مهرجانات «طقش وفقش»، يصرف معالي الوزراء المتعاقبين وقتاً كثيراً، ومالاً أيضاً، في رعايتها وحضور افتتاحها واختتامها!


185 كرنفالاً

«الصيف كان مولّع». عبارة يردّدها مسؤولون ومستثمرون ومواطنون توصيفاً لكثرة الأنشطة والمهرجانات التي نظمت في المناطق. في الطريق بين بيروت والشمال وبيروت وجبل لبنان، ازدحمت اللوحات الإعلانية والأعمدة بإعلانات عن «ليالي مهرجانات»، يتضمّن معظمها حفلات غنائية وعشاء قروياً ومعارض حرفية. بعض هذه المهرجانات يحمل أسماء قرى نائية ربما لم يسمع بها أحد من قبل. هل سمع أحد بـ«مهرجانات غلبون الدولية»، مثلاً! (قرية نائية في جرد جبيل)؟ وبعضها يقام في قرى متجاورة تقع على مرمى حجر من بعضها بعضاً: على سبيل المثال مهرجانات تنورين والبترون و«نيو بترون» وجسر المدفون ودوما!
رئيس دائرة المهرجانات السياحية في وزارة السياحة ربيع شداد أوضح لـ«الأخبار» أن الموجة بدأت عام 2014. «مذذاك، نشهد ازدياداً تصاعدياً في عدد المهرجانات المناطقية حتى وصل العدد في صيف 2017 إلى حوالى 185 مهرجاناً مرخصة من الوزارة». في عام 2016، أحصت الوزارة 177 مهرجاناً نظمت في كافة المناطق. وكان توزيعها بين المحافظات كالآتي: بيروت 27 في المئة، جبل لبنان 43 في المئة، عكار 3 في المئة، النبطية 2 في المئة، البقاع 4 في المئة، بعلبك الهرمل 3 في المئة، لبنان الجنوبي 5 في المئة، ولبنان الشمالي 13 في المئة.
بحسب شداد، تنقسم المهرجانات إلى ثلاثة أنواع: الدولية والمحلية ــــ القروية، وأخيراً المهرجانات الجمالية وعروض الشارع والأزياء. ورغم إطلاق عدد من اللجان لقب «الدولية» على المهرجانات التي تنظمها، إلا أن هذه الصفة في لبنان حكر ـــ بالعرف وليس رسمياً ــــ على ثلاثة مهرجانات: بعلبك وبيبلوس وبيت الدين. والسبب، وفق شداد، «عراقتها الزمنية ومستوى الشخصيات الدولية التي تستضيفها. لكن لا أحد يحاسب على التسميات، والزمن كفيل بمنح صبغة الاحترافية».
أما انتشارها فأسبابه عدة. في الوزارة، يتناقل البعض همساً وجهراً بأن المهرجانات تنظم على «الطريقة اللبنانية». أي وفق «الغايات التنموية والترويجية للجمعيات والشركات الراعية كالمصارف والشركات الخاصة، أو لزيادة الرصيد الانتخابي والشعبي لبعض المسؤولين ورؤساء البلديات. فيما تأخذ الغيرة بين الزعامات السياسية مساحة كبيرة. إذ باتت زوجة كل سياسي لبناني، تقريباً، راعيةً لمهرجان في منطقة نفوذ زوجها». هذا بالنسبة الى المستفيدين، ولكن ماذا عن «صاحب الأمانة» الذي بيده توزيع المساهمات؟ بحسب العارفين في الوزارة، فإن «شخص وزير السياحة وصداقاته وانتماءه السياسي والحزبي ومصالحه الانتخابية، كلها تلعب دوراً أساسياً في التوزيع».

المهرجان بمليار

بحسب شداد، تخصص وزارة السياحة نحو ثلاثة مليارات ليرة سنوياً توزّع على المهرجانات، الدولية منها والمحلية. أما المسابقات الجمالية «فلا ندعمها لأننا لا نجد منها جدوى سياحية بمعنى العائد الربحي». لكن النائب أنطوان زهرا الذي انتقد في إحدى الجلسات التشريعية تمويل الدولة للمهرجانات السياحية أكد لـ«الأخبار» أن موازنة الوزارة السنوية الخاصة بالمهرجانات «لا تقل عن خمسة مليارات ليرة»، فيما أكد مصدر ثالث أنها «تصل إلى سبعة مليارات ليرة»! ناهيك عن عشرات آلاف الدولارات من شركات الخلوي والمصارف وغيرها.

للصورة المكبرة انقر هنا



إذا اعتمدنا رقم الثلاثة مليارات، فإنه ينفق كمساهمات مالية لتغطية تكلفة المهرجان. الجزء الأكبر من المليارات الثلاثة تستحوذ عليه المهرجانات الدولية الثلاثة (بعلبك وبيت الدين وبيبلوس) بأقل بقليل من مليار ليرة لكل منها. علماً بأن مهرجانات أخرى تطلق على نفسها صفة «دولية» أيضاً، لا تحصل على أي مساهمات من «السياحة» كمهرجانات الأرز وصيدا. فيما تساهم الوزارة بنحو 15 مليون ليرة لرعاية كل من المهرجانات القروية. المساهمات تتنوع بين فنية (عقود مع فنانين وفرق فولكلوية وشركات تنظيم الحفلات)، وعينية تذهب للبلديات والكنائس (التي لا يحق لها أن تحصل على مساهمة مالية)، ولوجيستية كتسهيل دخول الفنانين ومستلزماتهم وإعفائهم من الرسوم الجمركية.
يقرّ شداد بأن منظمي المهرجانات «ينظمونها بسبب الدعم المالي الذي توفره الوزارة». فيما يتحدث البعض عن «تدخلات وضغوط سياسية تُمارس على الوزير لصرف مساهمات لطرف دون آخر أو لطرف أكثر من آخر». لكن من يضبط توزيع المساهمات التي تصل إلى حدّ هدر المال العام بسبب مصالح فئوية؟

المهرجانات تجني
أرباحاً ومنظموها يقدمون أرقاماً مغلوطة خشية تقليص مساهمة الوزارة


يؤكد زهرا أن الهدر واقع، ليس في توزيع مساهمات وزارة السياحة على المهرجانات فحسب، بل أيضاً في توزيع مساهمات وزارتي الصحة والشؤون الاجتماعية على الجمعيات الخيرية من جهة، وتواطؤ المصارف وشركات الخلوي مع بعض لجان المهرجانات من جهة أخرى. يتساءل عن جدوى إنفاق المليارات على حفلات غنائية لا تقدم إنتاجاً حضارياً وثقافياً لبنانياً. «والأسوأ دور شركات الخلوي التي تتبجّح بدعم المهرجانات بملايين الدولارات من جيوبنا»، لافتاً إلى أن «تاتش» و«ألفا» مجرد شركتين مشغّلتين لقطاع الخليوي الذي تملكه الدولة. «صحيح أنه يحق للشركتين رعاية نشاطات سياحية ورياضية وغير ذلك، لكن الملايين التي تنفقانها تدفعنا للمطالبة بإعادة احتساب أرباحهما وتحويلها إلى خزينة الدولة». ما يحصل، في رأي زهرا، «نزف لموارد الدولة واستثمار سياسي وانتخابي ونوايا فئوية. أي شخص يريد أن يحيي عيد شفيع الضيعة، نصرف له 20 مليوناً وطلوع؟! على ماذا؟!». في هذا الإطار، يتوقف عند «تكرار ظهور الفنانين أنفسهم في كثير من المهرجانات وتقديمهم البرنامج نفسه. ندفع من جيوبنا كمواطنين ويربّحنا المنظمون جميلة خدمة الفن والثقافة؟!».
في هذا الإطار، يستشهد زهرا بمهرجانات الأرز التي تشرف عليها زميلته في كتلة القوات اللبنانية النائبة ستريدا جعجع. لجنة المهرجانات لا تحصل على مساهمة من الوزارة. يكفيها الشركات والمصارف والمتمولون الرعاة، وأبرزهم لدورة هذا الصيف شركة طيران الشرق الأوسط. زهرا نصح زميلته بأن تقدم «إنتاجاً حضارياً يحاكي الليالي اللبنانية التي كان يقدمها الرحابنة وفيروز وصباح قبل الحرب الأهلية، بدلاً من استقدام فرق أجنبية».
تنمية محدودة
تفاخر الوزارة بدعمها للحراك الذي ينتج عن زحمة مهرجانات الصيف. يرى شداد أن ازدياد عددها عاماً بعد آخر ظاهرة إيجابية، و«دليل على أن الوضع الأمني لم يرعب المواطنين، فضلاً عن أنها تخلق فرص عمل مؤقتة لشركات الإنتاج والتنظيم والتسويق والحراسة والأكل والباصات ومواقف السيارات». ومع إقراره بأن البرامج معظمها متشابه، يؤكد أن «الغاية منها ليس الاحتفاليات الغنائية فحسب، بل جمع الناس وعرض الحرف والمونة والمقتنيات التراثية التي تتميز بها كل بلدة كمهرجانات البيرة والنبيذ والكرمة وسباقات الحمير». ويلفت الى أن الوزارة تشجّع مهرجانات القرى النائية لأنها «تؤمن تنمية مستدامة عبر جذب الناس إليها وترفع من قيمة العقارات وتستحدث فرص عمل». فيما يعتبر زهرا أن نظرية تحريك الاقتصاد من خلال المهرجانات «فيها مبالغة. في مهرجانات بعلبك، مثلاً، يُنقل رواد الحفلات الى المدينة ومنها بالحافلات من دون أن يعرجوا على فنادقها ومطاعمها ومواقعها الأثرية».




الكارت بـ300 دولار والمهرجان مكسور!

بالنظر إلى كواليس المهرجانات الدولية الثلاثة التي تستحوذ على الجزء الأكبر من مليارات «السياحة» الثلاثة، تفرد لجنة مهرجانات بيبلوس على موقعها الإلكتروني إشارة لأحد المصارف على أنه الراعي الرسمي من دون أي ذكر للوزارة! فيما تراوحت أسعار بطاقات حفلاتها الغنائية في الصيف المنصرم بين 50 و100 دولار. فيما يصل سعر البطاقة في حفل ستنظمه في كانون الأول المقبل إلى 325 دولاراً.
لائحة الداعمين لمهرجانات بيت الدين طويلة على الموقع الإلكتروني. إلى وزارة السياحة، هناك عدد من بلديات الشوف ومهرجانات سينمائية ومصارف وشركة «ميديل ايست» وشركة لمشروب الطاقة. أما في مهرجانات بعلبك، فالداعمون فاقوا عدد الأمسيات الغنائية الست التي نظمتها اللجنة لهذا الصيف، وبينهم مصارف وشركات خاصة وتأمين واتصالات ومراكز ثقافية (...) فيما راوحت أسعار البطاقات بين 50 و270 ألف ليرة لبنانية.
يلفت رئيس دائرة المهرجانات السياحية في وزارة السياحة ربيع شداد إلى أن بعض لجان المهرجانات والبلديات تدّعي الإفلاس أو قلة الإمكانيات طمعاً بزيادة قيمة المساهمة الخاصة بها. والأسوأ أن الجمعيات تدّعي أنها لا تتوخى الربح بحسب نظامها الداخلي، لكنها تربح. يؤكد شداد أن المهرجانات تجني أرباحاً، لكن العائد الاقتصادي صعب قياسه، «فمنظمو المهرجانات لا يصدقون بالأرقام التي يقدمونها تهرباً من الرسوم والضرائب أو خشية تقليص مساهمة الوزارة. لكن الأكيد أن المهرجانات تربح، على الأقل بالنظر إلى أسعار البطاقات العالية والحركة في أكشاك بيع الطعام والشراب والحرفيات والمونة التي تنصب عند مداخل معظمها». من جهته، يجزم زهرا بأن معظم المهرجانات «تهدف للوجاهة من جيب الدولة وليس للربح. نصف البطاقات توزع مجاناً على المناصرين والأصدقاء، فيما قدرة المواطن محدودة على شراء بطاقات لأكثر من حفلة في ظل الوضع الاقتصادي الضاغط».




ديوان المحاسبة يتدخل



أخيراً، دخل ديوان المحاسبة على خط دعم المهرجانات. قبل نحو شهرين، أرسل كتاباً إلى الوزارة يعلمها فيه أن المساهمات «التي تزيد على 15 مليون ليرة يجب أن تخضع لقانون المحاسبة العمومية والرقابة المسبقة». يشير رئيس دائرة المهرجانات السياحية في وزارة السياحة ربيع شداد إلى أن الديوان «كان متساهلاً بهدف التنمية المستدامة، لكنه اكتشف أخيراً أن جمعيات خيرية أو معنية بترميم المواقع الأثرية، بحسب نظامها الداخلي، تنظم مهرجانات! فيما يجب أن تكون الجمعيات المنظمة سياحية الطابع بحسب أهدافها المحددة في قرار إنشائها». حالياً، يؤكد شداد أن طلبات نيل المساهمات تُحوّل إلى الديوان حيث يدقق فيها المراقب العام ودائرة المحاسبة وقضاة، شرط أن تكون الجمعية مبرأة الذمة عن نشاطها في السنوات الماضية.
يهزأ النائب أنطوان زهرا من إخضاع المساهمات التي تزيد على 15 مليون ليرة للرقابة المسبقة «وكأن ذلك المبلغ وما دونه من المال العام، لا قيمة له». لضبط الهدر، يقترح زهرا «زيادة موازنة وزارة السياحة ووضع قانون تطبيقي لدورها في تطوير المواقع السياحية ودعم الإنتاجات الحضارية وليس الحفلات العادية. لسنا مضطرين لأن ندفع من جيوبنا على الإضاءة والكراسي».




ضوابط منسيّة

في جلسة لمجلس الوزراء برئاسة الرئيس رفيق الحريري، في أيلول عام 2002، صدر قرار حول إعطاء مساهمات مالية من وزارتي المال والسياحة للجمعيات ذات النشاطات السياحية. واشترط القرار توافر ضوابط، منها أن تكون الجمعيات لا تتوخى الربح وتُدار بهدف تحقيق الأهداف التي أنشئت من أجلها. وحدّد سقف مساهمة الدولة بألا تتجاوز ثلث الموازنة السنوية للجمعية، وأن تبرز الجمعية إثباتاً بأنها أمّنت الثلثين الباقيين من الموازنة منذ تقديمها طلب مساهمة الدولة. ويتوجب أن تقوم وزارة السياحة بمراقبة نشاط الجمعيات السياحية المستفيدة من مساهمات الدولة، كما يتوجب على الجمعيات أن تعيّن مراقباً داخلياً مصنفاً لدى وزارة المالية لإعداد الموازنة السنوية وتوقيعها قبل تقديم طلب مساهمة الدولة، على أن يقوم بمراقبة صرف الأموال التي تحصل عليها الجمعية. كما يتوجب على الجمعيات تقديم تقرير سنوي عن نشاطاتها وأعمالها وكيفية تنفيذ موازنتها السنوية. ويمكن اعتماد الشروط لسائر المساعدات والمساهمات التي تخصص في الموازنة العامة لتشجيع النشاطات الدينية والثقافية والزراعية والصحية والرياضية والكشفية والهيئات الأهلية المتعاقدة مع وزارة الشؤون الاجتماعية.