كان يفترض أن تتوقف المصارف في 15/10/2017 عن الموافقة على منح أي قرض مدعوم بالاستناد إلى ما يُعرف بـ«حوافز مصرف لبنان» المنصوص عليها في القرار 6116 الذي يشير إلى أنه «يمكن المصارف أن تستفيد من تسليفات بقيمة 1500 مليار ليرة مقابل قروض للعملاء...
قبل تاريخ 15/10/2017»، إلا أنه في نهاية الأسبوع الماضي، أي قبل أيام من المهلة النهائية للاستفادة من التعميم، تبلغت المصارف قراراً شفهياً مفاجئاً من الدوائر المعنية في مصرف لبنان يطلب منها وقف العمل بآلية الدعم هذه، في انتظار تعميم جديد سيصدر قريباً عن مصرف لبنان يعدّل آلية الدعم للسنة المقبلة. والمفاجئ أيضاً، أن عدداً كبيراً من رؤساء مجالس إدارات المصارف قرّر أيضاً وقف منح القروض المدعومة وفق آلية دعم مختلفة منصوص عليها في القرار الأساسي رقم 7835 الذي يسمح للمصارف بأن تحرّر مبالغ من الاحتياط الإلزامي مقابل القروض التي تمنحها للزبائن، على ألا تستعمل أكثر من 90% من الاحتياط الإلزامي.
هذا التوقف المفاجئ، كان له أثر واسع في السوق، إذ إن دوائر التسليف في المصارف تتلقى سيلاً من مراجعات العملاء وأسئلتهم، من دون أن تملك الأجوبة عنها، ما أثار بلبلة وأدّى إلى انتشار القلق وسط غموض وتضارب في الإجابات. حتى إن توضيح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، في برنامج تلفزيوني مساء الجمعة الماضي، كان له مفعول عكسي، وأدّى إلى تضخيم موجة الأسئلة المقلقة عمّا يحصل في السوق المالية وخلفياته، إذ اكتفى سلامة بالإشارة إلى أن «الموازنة الخاصة بالقروض المدعومة لعام 2017 قد انتهت، ومصرف لبنان بصدد إعداد موازنة عام 2018 بقيمة مليار دولار ليعاد العمل بها من جديد»؛ وفي ضوء عدم وضوح الأسباب الموجبة لهذا القرار، برزت الأسئلة الآتية: لماذا اتخذ مصرف لبنان قراراً كهذا قبل تسعة أيام من انتهاء المهلة تلقائياً؟ هل فعلاً استنفد مصرف لبنان كل التمويل المرصود للقروض المدعومة، رغم الحديث المتزايد خلال السنوات الأخيرة عن ضعف نموّ التسليفات؟ هل استنفدت أيضاً آلية الدعم بواسطة الاحتياط الإلزامي؟ أليس مفاجئاً استنفاد سقوف آليات التمويل في الوقت نفسه؟ ما هي آليات الدعم الجديدة التي سيطلقها مصرف لبنان خلال الفترة المقبلة؟ هل تكمن إجراءات نقدية وراء هذا القرار؟
توضح مصادر في مصرف لبنان لـ«الأخبار» قائلةً إن آليتي دعم القروض وفق القرارين 6116 و7835 لم تستنفد بشكل كامل، بل شارفت على استنفاد السقوف المرسومة لها، في وقت كان مصرف لبنان ينوي فيه اتخاذ قرار يتعلق بإجراءات تؤدي إلى المزيد من ضبط الكتلة النقدية بالليرة والدولار، وهي إجراءات تأتي بعدما واظب مصرف لبنان خلال السنوات الماضية على دراسة تقلباتها واتجاهاتها ارتقاباً لأي سلوك أو مسارات معاكسة لسياسته النقدية. وما تبيّن لمصرف لبنان، أن جزءاً من كتلة القروض بالليرة بدأت تؤثّر في الطلب على الدولار، أي إن لها أثراً معاكساً على السياسة النقدية الساعية إلى الاحتفاظ بالدولارات وتكوين احتياط بالعملات الأجنبية يعزّز ما يُعرف بـ«الثقة»، لذا كان لا بدّ من الإمساك أكثر بالكتلة النقدية بالليرة من خلال التوجّه الآتي: سيتوقف مصرف لبنان عن الدعم المنصوص عليه في الآلية 7853، أي تحرير الاحتياط الإلزامي، وسيكرّس العملة المحلية للقروض السكنية، وسيعدّل في عملة إقراض المؤسسة الإنتاجية لتصبح الدولار بدلاً من الليرة. كل قرض غير سكني سيكون بالدولار، أما القروض السكنية على أنواعها فستكون بالليرة. ما لم تقله مصادر مصرف لبنان أنه خلال السنتين الأخيرتين نفّذ مصرف لبنان هندسات مالية أدّت إلى خلق سيولة هائلة بيد المصارف، ولم يتمكّن مصرف لبنان من استيعاب جزء مهم من هذه السيولة، ما دفع المصارف إلى تسليفها في الأسواق حيث تحوّلت إلى الدولار تلقائياً لتمويل الاستيراد.
ويكمن تفسير هذا المسار في أمرين: آليات التمويل المنصوص عنها في القرارين 6116 و7853، والبنية الاقتصادية في لبنان.
ــ بالنسبة إلى آليات التمويل، ينصّ القرار 6116 على أن مصرف لبنان، بناءً على قانون النقد والتسليف، ولا سيما المواد 70 و79 و99 و174، سيقدّم إلى المصارف مبالغ مالية بالليرة بفائدة 1%، مقابل أن تقوم المصارف المستفيدة بإقراضها للزبائن بفائدة لا تتجاوز 5% (جرى لاحقاً خفض هذه الفائدة إلى أقل من 4%). وبحسب المعطيات الواردة في تقرير صادر عن مصرف لبنان بعنوان «حوافز مصرف لبنان»، فإنه في عام 2013 خصص مبلغ 2210 مليارات ليرة، وفي عام 2014 أضيف مبلغ 1400 مليار ليرة، ثم مبلغ 1500 مليار ليرة في 2015، و1500 مليار ليرة في 2016 و1500 مليار ليرة في 2017. وبالتالي إن استنفاد السقوف يعني أن مصرف لبنان ضخّ 8110 مليارات ليرة منذ عام 2013 إلى اليوم، وأن السوق استوعبها بكاملها، أو بغالبيتها، علماً بأنها حققت للمصارف أرباحاً صافية تبلغ 250 مليار ليرة.
ــ الآلية الثانية المنصوص عليها في القرار 7835، تشير إلى أن مصرف لبنان يعفي المصارف من 90% من الاحتياط الإلزامي المفروض عليها بموجب قانون النقد والتسليف مقابل كل مبلغ تقرضه للزبائن. وقانون النقد والتسليف ينصّ على أنه يجب على المصارف أن تكوّن احتياطاً الزامياً تضعه لدى مصرف لبنان بنسبة 20% من ودائعها بالليرة وبنسبة 15% من ودائعها بالدولار، علماً بأن ودائع المصارف زادت من 2013 حتى نهاية آب 2017 بما قيمته 14048 مليار ليرة و58.77 مليار دولار، أي إن المبالغ التي استعملت تبلغ 2528 مليار ليرة (1.67 مليار دولار) و7.9 مليارات دولار، أو ما مجموعه 9.57 مليارات دولار. أما الأرباح المحققة من هذا المبلغ، فهي لا تقلّ عن 3%، علماً بأن تحرير المبالغ من الاحتياط الإلزامي ليس بالنسبة نفسها لكل فئة من فئات التسليف، سواء كانت تسليفاً سكنياً أو بيئياً أو للقطاعات الإنتاجية... لكن الأرباح لا تقلّ عن 280 مليون دولار.
ـ أما طبيعة الاقتصاد اللبناني، فهي قائمة على الآتي: اقتصاد مدولر بنسبة 77%، وتمثّل فيه التسليفات المصرفية للقطاع الخاص 105% من الناتج المحلي الإجمالي، فيما تمثّل الواردات نحو 80% من استهلاك الأسر. هذا يعني أنّ ــ بشكل تلقائي ــ أيَّ مبالغ بالليرة تضخّ في السوق ستدور في العجلة الاقتصادية لتموّل في النهاية استهلاك الأسر المقيمة في لبنان والمستورد من الخارج والمدفوع ثمنه بالعملة الأجنبية. هذا التحويل من الليرة إلى الدولار يجري تلقائياً في السوق، ويُعَدّ عنصراً تقنياً «اعتيادياً» في بنية الاقتصاد الحالية التي «تعتمد على استيراد السلع من الخارج والتي ندفع ثمنها بالعملات الأجنبية، سواء الدولار أو اليورو أو غيرهما»، يقول أحد المصرفيين، مضيفاً أنه «في ظل سياسة تثبيت سعر صرف الليرة لا يمكن اتباع سياسة الانفلاش بالعملة المحلية، لأن أيّ تضخّم في الكتلة النقدية بالعملة المحلية سيكون له أثر واضح على الطلب على الدولار من دون أن يعني هذا أن هناك رغبة في المضاربة على الدولار».
إذاً، ما الذي يسعى إليه سلامة من قرار كهذا؟ هذا المسار في آليات الدعم وبنية الاقتصاد، يشير إلى أنه في ظل وجود سيولة كبيرة بالليرة بيد المصارف بعد تنفيذ مصرف لبنان هندسات متتالية الهدف المعلن منها اجتذاب الدولارات من الخارج لتكوين احتياطات بالعملات الأجنبية، وفي ظل استمرار العجز في ميزان المدفوعات، وهو مؤشر على أن اجتذاب الدولار لا يغطي الحاجات المطلوبة، وفي ظل الحديث المتزايد عن مؤسسات تحصل على تسليفات مدعومة رغم أنها قادرة، بالمواربة، على إعادة توظيفها بسندات الخزينة بفوائد أعلى بنقطتين أو ثلاث نقاط مئوية من كلفة التسليف، وفي ظل حقيقة أن أي قناة للدعم فيها مزاريب كبيرة للهدر والفساد، فإن مصرف لبنان لم يعد يتحمل ترف إبقاء المزراب مفتوحاً للجميع بالمستوى نفسه، لذا قرّر أن يوقف جزءاً من هذا الهدر وأن ينقل مخاطر الاقتراض بالدولار إلى المؤسسات.